حالة جذب

حالة جذب

كان آخر لقاءٍ لهما، قريباً من الفندقِ، محل إقامتها. في أحدِ صباحاتِ فبراير القارسة. لم يشعر لحظتئذٍ بالبرد، فيده المحاطة بكفيها الناعمتين، تدفئانه، وتزرعان فيه أحاسيساً لا أول ولا آخر لها!

كان قد اتصل بها وجلس ينتظرها على أحد ”البنشات“ المطلَّة على مشتلٍ ناهض عند ”شِفةِ“ النيل.

جاءت تتهادى. جلست قربه. تبعثرت أفكارهما، وضاع كل ما اعده كلاهما من كلام، ليبقىٰ الصَّمت فقط، معبئاً بالدَلالاتِ، و محاصراً بالرُّموزِ، التى تفوق احتمال المكان!

وعندما ابتعدا في اتجاهين متعاكسين.. توقف يتابعها ببصرّه، وهي تنأىٰ.. حتى غابت عند مدخل الفندق، دون أن تلتفت!

عبر المحمول قال لها:  

”لا تترددي“

فهمست بما تسرَّب إلىٰ رئةِ المكان، ليتنفس أشجانه في زفرَّةٍ ملتهبة!

وهو في الطريقِ إلى شقتهِ الصغيرَّة فى ”الجيزَّة“ وهي في المطار، اتصل عليها.. لكن كانت طائرتها قد أقلعت، تحملها إلى منفاها البعيد، مخلفةً ورائها رائحتها وملامحها فى كل شىء حوله!

كانت قد جاءت تبصم على وجدانهِ بُعيد حنينٍ طال، محمَّلةً بالبشاراتِ والأُنشوداتِ الخريفية اليانعة، وكوعدٍ خصبه زَّمن غامض!.. فخصَّ به مكاناً أشدَّ غموضاً من لحظة الوجود الأولىٰ!

بحث عنها فى الزّحام، حيث تنتظره عند محطةِ ”المترو“ يتفاعل فيها التوق والحنين مع الترَّقب الذي استطال وتمدَّد في فضاءِ المكان والزَّمن! ليُعطى انتظارها معنىً كونياً عميقاً، موشىٰ بالتحفز والتوتر، ويفوح برائحةِ القلق المقيم، الذي يحجب شعورها بالمارَّة حولها: القادمين، الذاهبين والباعة المتجولين، رغم تفرّسها في الوجوّه الموسوّمة بالضجيجِ والفوضىٰ والارتباك!

تبحث في هذا الرِّكام عن وجههِ الأليف.. وجههِ الذى تركته خلفها في الخطاباتِ والصُوَّر والرَّسائل الاليكترونية!

وجههِ الخارج من الصَّمتِ إلى ٰ الصَّمتِ.. أمامها.. تحمله طيَّ وجدانها. عله يخرج من الزّحام فجأةً متعرقاً بالوعدِ والمواعيد!

فى غرفتها، تلَّمست ذِّكرياتها القادمة. تحسسَّت مشاعرَّها، وهي تُلقي ببصرِّها على النِّيل المتململ أقصى حدودِ الشتاء، نافذةً لقلبٍ يحيا في الأزل، تدخل منها عروس النيل إلى عرشِ الخصوبة. يحملها الملائكة. لتدفىء الجنة بالشجن، وتخفف علىٰ الخطاة عذاباتهم.. وتأخذ من عذوبتها ما يكفي لإخماد نيران الجحيم!

تنسج على الكورنيش الممتد كأفعوانٍ وأفعىٰ للربيعِ جلداً جديداً لهما، وهما يمارسان فعل الحياة، الموت والخصوبة!

نَضت عنها ترقبها وهي تضغط أزرار هاتفها الأُنثوي:

”لقد وصلت بطائرةِ المساء“

”أحبك“

القاهرة مدينة غريبة عليها، لأولِ مرَّة تطأها.. مدينة غامضة ومجهولة!.. حيَّة ومرتبكة!.. يربكها انتظارِّها له.. تربكها معاكسات المراهقين الرَّاشدين، ونظرَّاتهم المتسللة إلىٰ بوحِ كنوزِّها.. كنوزِّهِ.. يربكها دفئهِ الذى يحاصر كل ذرَّة في كيانها.. يربكها: الترقب. الحذَّر!

اتصل عليها أكثر من ثلاث مرَّات، يسألها أن تُحدِّد موقعها بالضبط:

”في أي مدخلٍ من مداخلِ المترو؟“

هَروَّل بين المداخلِ المتباعدَّة لمحطةِ ”السادات“..

لم ينَّم أثر مهاتفتها.. ظل منتظراً هذه اللحظة منذ وقتٍ طويل، وهو يستعيد المكالمات المطولة منذ الصَّيف الماضي، عن الذي جرىٰ معهما.. عن الغُربة وحكايا الليالي الطويلة.. عن الحنين إلىٰ وطن دفء.. عن دفءٍ في ليالِ الشتاءِ البارِّدة!

 

فى السادسة صباحاً بالضبطِ أزالَ لحيتهِ، وغسل عنه أثر الخمر والنيكوتين.. أعد لنفسه قهوَّة ثقيلة. ارتشفها بعجلة، وهو ينظر في ترقب إلىٰ عقارِّب الساعة، التي تمضي في إتئادٍ كأنها تتحداه!. فيما ينقل بصره بينها وبين سماعةِ الهاتف، إلىٰ أن جاءه صوتها في الضفة الأخرى من مدىٰ الشوق:

 

”أنا مستعدَّة للخروج“

”نلتقي في (محطةِ السادات)“

تعطر بعطرهِ المميز وخرج.

 

أحبها كما لم يحب من قبل، حاصرته بدفئها وعذوبتها، وهدَّت كل القلاع التى يحتمي بها.. دهمته خارجةً من تلافيفِ ماضٍ أسيان! التقيا فيه بهدوءٍ، وعلىٰ مفترقهِ مضيا في صمتٍ جارح!

 

لكنهما ظلا موسومين، بذاكرةِ الجروح المتجددَّة في شجنٍ ممتد، وحنين أبدي!

كالمطلق خارج التحولات.. خارج التغيير.. ففي المنتهىٰ يتبديان كروح ناسك ترتقي مدارجِ المحبةِ والسلام، تحتضن زهدها في حميمية وتؤدة!

 

اقتنصتها عيناه من بعيد عند مدخلِ ”المترو“.. كآلهةٍ إغريقية تبدت عن سحرَّها العميق ذاته، وكإثنين محمّلان بحنينِ جارف. احتضنها بقوة دون أن يابها للزّحام!

 

كانا حاضرين في الغياب غائبين في الحضور.. وكالمغيبين فى إغماءٍ طويل، لم يشعرا بالنظراتِ الدَهِشَّة للنَّاسِ الذين التفوا حولهما..

سحبها من يدها إلىٰ داخلِ ”المترو“.. كادت المحطة تفوتهما!.. كانا هائمين في فضاءٍ هيولي شفاف، يفضي إلىٰ الأرخبيل الذي بداخلهما، حيث تمتد الجسور تصل جزر اللُقيا، بيابسةِ البُعد!

 

بشقتهِ الصغيرَّة فى ”الأندلس“ تشبعت اللهفة برائحة عرقها.. تبددت الغربة.. أوجاعهما الثاوِّية في العُمقٍ السحيق للخلايا والعصب، طفت كذاكرَّة لشجنٍ أزلي، وحنين مزمن ومواجد راحلة في أبدية جسدين متصالبين في اللانهاية!

 

”طوبى للغرباء!“.. همس.. فتأوهت..كانت نيرانهما تزداد اشتعالاً ولا تخبو.. وكان ترقبهما لميقات رحيلها، يُشعل في القلب أشواقاً لا تنضب!