جولة فى عالم بهاء طاهر المثير للجدل

فى مارس 1984، نشرت مجلة إبداع المصرية، قصة جديدة للكاتب والمبدع والناقد والمترجم بهاء طاهر، عنوان القصة "بالأمس حلمت بك"، تلك القصة التى خطّت مسارا جديدا فى ذلك العالم الذى يتناول علاقة الشرق بالغرب، وبالتالى فقد أنهت عالما قديما كان يرسم عوالم متخيلة أو شبه فانتازية حول العلاقة بين القطبين الكبيرين، أو التقاطع بينهما، أو حتى الصدام القاسى والحاد بينهما، والذى جاء سرديا ونثريا فى كتابات طه حسين "أديب"، وتوفيق الحكيم (عصفور من الشرق)، ويحيي حقى (قنديل أم هاشم)، وسهيل ادريس (الحى اللاتينى)، والطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) وغيرهم، ذلك الصدام الذى يسير على خطى ويطبق حرفيا نظرية الشاعر الانجليزى "روديار كيبلنج"، ومقولته الشهيرة والقاطعة "الشرق شرق، والغرب غرب، لن يلتقيا"، وسنجد ذلك الصراع مجسدا بشكل بارز وواضح فى كتابات كل من نوهنا عنهم سابقا وغيرهم، إلى درجة القتل التى نجدها عند الطيب صالح وبطله مصطفى سعيد، كما أننا نلاحظ أن اسماعيل فى "قنديل أم هاشم" يضرب بكل ما تعلمه فى الغرب عرض الحائط، ويلقى به فى لحظة استفاقة شرقية عميقة  فى الفضاء المفتوح على التقاليد والعادات الراسخة، ويعلن بقوة عن ولائه العميق لبيئته ولدينه ولحضارته مهما كان شكلها ومضمونها وتجهها، وكذلك فعل سهيل ادريس بطريقة أخرى، الذى جعل بطله يخذل حبيبته "جانين" التى ارتبط بها فى باريس ويعود إلى أهله، مصغيا إلى تعليمات ونصائح أمه التى أرشدته بالزواج من عائلته، ولم يستطع البطل أن يرفض أو يعترض أو يحتج حتى ولو بشكل شفاهى على كل تلك التعليمات التى تلقاها فى صمت وطاعة مدهشة، لأنه مقتنع سلفا بأن الشرق شرق، والغرب غرب، ومن المستحيل أن يلتقيا مهما تقاربا، ولن يعيشا معا، أو يعقدا صداقة انسانية بعيدة عن ذلك التعصب القوموى الذى يطارد الشرقيين أينما كانوا.
ورغم أن القصة "بالأمس حلمت بك" تم تناولها نقديا فى أبحاث وكتابات كثيرة، إلا أننى أود تلخيصها كما أرها، وكما قرأها آخرون، وهناك فى تلك الكتابات الكثيرة تقاطعات وتوازيات بعدد قرّائها ونقادها، فهى كما أكّد كثيرون_كما سأتناول ذلك لاحقا_ أن القصة بالفعل جاءت بشكل مغاير ومختلف عن كل ماسبقها فى ذلك المجال.
 بطل القصة المصرى الذى يعيش ويعمل فى مدينة غربية ضمن أقلية عربية فى تلك المدينة، كانت المؤسسة التى يعمل فيها عربية، ولكن رئيسها ومعظم من يعملون فيها ليسوا عربا، ولكنهم من ذلك البلد الأوروبى، كان يشعر كثيرا بالملل والغربة ثم الاغتراب، وذلك على عكس ما كان يحلم به قبل أن يغادر بلاده، لذلك فهو يشعر بوحدة لا حل لها فى تلك البلاد الباردة، ذات يوم عندما كان ذاهبا إلى عمله، التقى بحسناء جميلة من ذلك البلد البعيد، والتقت النظرات اللافتة وكذلك ما بعد النظرات، وتبادل الاثنان قدرا من الرسائل الصامتة والموحية، واعتقد أنه لقاء عابر وسوف يمر مثل كل اللقاءات السريعة، ولكنه لم يكن كذلك، وكان زميله المصرى فى العمل كان قد أهداه كتابا عربيا عن الصوفية، وعندما كان يستقل السيارة التى تنقله إلى عمله، راح يقرأ فى الكتاب كاسرا جو الملل الذى يعيش فيه، حتى أن وصل فى الكتاب إلى ما يعنى أن الروح فى كثير من الأحيان تغادر الجسد وتقوم ببعض الجولات، ويحدث ذلك عادة أثناء النوم، وفى تلك الجولات تلتقى تلك الروح الهاربة أو الملولة أو القلقة بأرواح شريرة، وكذلك بأرواح طيبة، ولذلك يحدث اتصال بين الروح الهاربة، وتلك الأرواح التى تلتقيها، هنا شعر بطل القصة بالخوف والريبة، مع تفاقم حالة القلق، فأغلق الكتاب فورا، وقرر أن يتخلص منه ويرسله إلى أحد أصدقائه الذى يسكن فى مدينة أخرى من البلد نفسها، لأن صديقه هذا كان الأقرب منه إلى تلك الأفكار، وفى صباح اليوم التالى ذهب إلى مكتب البريد لكى يرسل الكتاب، هناك التقى بها كأنها القدر الذى قرر أن يطارده، وتعددت اللقاءات التى تواترت فيما بعد فى عفوية وبساطة شبه مقصودة، ولكنها لقاءات أيضا شبه مدبرة، حيث تتلاحق وتتواتر إلى أن تباغته فى السينما، لكى تشاهد الفيلم نفسه الذى أراد أن يراه، وبعد هذا اللقاء يتم التعارف عن قرب، ذلك التعارف الذى كان حتما ولازما أن يحدث بعد كل تلك اللقاءات التى تقف خلفها رغبة قدرية غامضة، وفى لقاء بينهما فى المقهى قالت له: قررت أن أواجهك، فرد عليها فى هدوء: هل نحن فى حرب؟، قالت له: "لا، لسنا فى حرب"، وبعد حوار متوتر ومشحون بمواجهة فعلية يتفقان على موعد فى منزلها لاحقا، وفى الموعد المتفق عليه يذهب بالفعل، وفى المنزل تكون المواجهة المؤجلة أكثر وضوحا بعد أن يتعرف على والدتها المريضة، والتى تبوح بدورها ببعض مما لديها من انطباعات عن البلد الذى ينتمى إليه ذلك المغترب، وتندهش لأنه يعتز ببلاده المصرية، وتندهش أكثر أن بلاده تنطوى على رقى وحضارة، وتقول له بأن زوجها ذهب إلى مصر قبل أن يتزوجا، وبعد حوار قصير يدخل بطل القصة الذى يتعمد الكاتب ألا يعطيه اسما كما يفعل فى كثير من نصوص أخرى، والكاتب هنا وفى كثير من كتاباته مولع بالتفاصيل الدقيقة التى تعبّر عن هوية أبطال قصصه عموما، فيصف الغرفة ومفرداتها التى تنم عن روح وعقلية صاحبتها، واللوحات المعلقة على الحائط والمختارة بعناية وذوق رفيع وأناقة واضحة، والأشياء الصغيرة التى ترقد على المكتب، أو تستيقظ فى الصالة، ويحتد الحوار وتتوتر تفاصيله، وتعتذر له لأنها كانت حادة بشكل غير لائق فى اللقاء السابق وزعمت بأنه يطاردها فى أحلامها، ولذلك صرخت فى وجهه بأنها تكرهه، وفى غرفة النوم انفعلت مضطرة، ومدفوعة بهواجس خاصة ومتطرفة تجاهه، وراحت تخلع ملابسها قطعة تلة أخرى، وقالت له: "هيا افعل ماتريد، أليس ذلك كل ما تريده؟"، هنا رد على طلبها ببرود دون انفعال ملحوظ، ولكنه ارتبك بالفعل، وقال لها: لا، ليس هذا ما أريد؟، فقالت له: إذن ماذا تريد؟، فقالت لها: "أريد أن يكون العالم فى سلام"، وبعد حوار يتقن بهاء طاهر سرد تفاصيله يغادر البطل، وهو فى حيرة كبيرة من ذلك اللقاء المؤجج للغاية والمشحون بكل ماهو مدهش، وتبدأ تطارده فى هواجسه، فيقرر بعد أيام من ذلك اللقاء أن يسأل عنها لكى يضع نهاية لقلقه، فيطلبها فى الهاتف، فلا ترد، فيذهب إلى منزلها، وهناك يدق الباب عدة مرات، فلا يجيب أحد، حتى يخرج رجل يسكن بجوار شقتها ويقول له: لن يرد عليك أحد، فيسأله غى اندهاش: لماذا؟، فيرد الجار: لأن مارى ألقت بنفسها من الشرفة ولقيت حتفها، وأمها مريضة ولن تستطيع أن تفتح لك، وفى تلك اللحظة تفتح والدة مارى الباب، وتراه، فتصرخ فى وجهه وهى فى حالة هلع: أنت الذى أنهيت حياة ابنتى، وجئت لكى تنهى حياتى، وتغلق الباب "ترزعه" كما نفهم بالإيحاء.
هذا اختصار أرجو ألا يكون مخلّا لقصة طويلة، وتحمل من الإيحاءات، أكثر مما تحمل من الإيحاءات، تصل إلى حجم نوفيلا، يتعامل فيها الكاتب على أن المشكلة التى تنشأ بين الطرفين، ليست محاولة سيطرة جانب على جانب آخر، ولكنها مشكلة عدم فهم، إنها مشكلة انسانية بشكل محض فى الأساس، مشكلة طرفين لا يفهم أحدهما الآخر، ضحايا لثقافات ملتبسة، وهناك فى القصة حكايات صغيرة تدلل على ذلك، منها حكاية شخصين أفريقيين التقيا مع سيدة من البلد الأوروبية، التقيا معها فى محل كى ملابس، حاولت أن تسطو على دورهما، فاحتج واحد منهما على ذلك السطو، فقالت له: يكفى أنك زنجى، وعيرته بزنجيته، ولكن الأفريقى لم يتركها فى حالها، فسألها فى عناد هادئ "بغلاسة"، وهل زنجيته تهمة؟ وراح يسألها: ماذا تقصدين بذلك؟،  وظل يحاصرها مثيرا لأعصابها بأن تصرح ماذا تقصد، فتقول له: لا أقصد شيئا..لا أقصد أى شيئ، فيسخر منها، ويقول لها: إنك لست وقحة فقط، بل إنك لست شجاعة أيضا، القصة مكدسة بعدد من المعانى الدالة والحكايات الجانبية، والتى تعنى أن الطرفين ليسا إلا ضحايا لوضع ليسا مسئولان عنه، ولثقافات لا بد أن تتغير فى ذلك العالم الجديد، ولم يصبح الشرقى كما كان، ولم يظل الغربى كما تم التعارف عليه سلفا، وإزاء تلك الحيرة، انتحرت الفتاة الغربية، واعتقدت أمها بأن ذلك المصري يريد قتلها هى أيضا، كما أن بطل القصة لم يفهم، ولم يستطع أن يضع نهاية عادلة لتلك المعانى، رغم أن القصة انتهت، ولكن المعانى لم تنته، بعد أن جرت فى مياه العلاقة بين الشرق والغرب ثقافة جديدة، وأحجار ثقيلة.
وقبل أن نتعرض إلى الجدل الذى أثارته تلك القصة، لا بد أن نعطى لمحة وملامح سريعة فى محطات لمسيرة كاتبها بهاء طاهر، والذى كتبت عنه الأستاذة صافيناز كاظم ووصفته بأنه متوسط الموهبة، واختصرته فى أنه كان كابوس جيلها، كما أنه اغتصب أو استحل_على حد تعبيرها_ جوائز لا يستحقها، وهذه اتهامات كانت تحتاج إلى أدلة قاطعة ودالة، وليست مجملة فى شكل عاجل، ومسأله متوسطية موهبته هذه لا يقولها ناقد إلا بعد تحليل وصفى ذا أبعاد نقدية مفصلة، فحكم القيمة دائما لا يسبق التحليل، ففضلا عن أنه رأى عام ومتعسف ومجحف، فالرأى العام الذى يتبناه نقاد وقراء محايدون جدا، لا يقولون برأى السيدة صافيناز، أما مسألة الجوائز وحكاية اغتصابها، فهى أيضا لا يقرّبها كل من عرف بهاء طاهر عن قرب، وابتعاده المتعمد عن الشهرة والذيوع وإثارة الزوابع التى يفتعلها بعض الكتاب حتى ينتشروا، يبقى مسألة أنه كان كابوس الجيل، ولا أعرف كيف كان كابوسا؟، وربما يكون استعراضنا لبعض محطات مسيرته وحياته تفك بعض الألغاز، والتى تم التنويه عنها كثيرا فى كتابات نقدية كثيرة، ما ينفى أنه كان كابوسا مقيما على نفس الجيل، هذا إذا اعتبرنا أن الجيل الذى ينتمى إليه بهاء كتلة واحدة صمّاء تتلقى الأحداث بطريقة واحدة، وبرد فعل مشترك، وبوجهات نظر موحدة، ذلك الجيل الذى كان فرقا و"شللا"، وهى تدرك جيدا البعد الشللى الذى يحيط بالجيل، وأعتقد أن بهاء ذاته نوّه عن ذلك فى رثائه لرفيق رحلته يحيي الطاهر عبد الله فى مجلة "خطوة"، وأعاد نشر ذلك الرثاء فى كتابه "أبناء رفاعة" الصادر عن دار الهلال فى أكتوبر عام 1993، إذ قال: ".أذكر جيدا عندما جاء يحيي الطاهر إلى القاهرة، كان الوسط الأدبى فى الستينات يتشكل من مجموعات منغلقة على ذاتها من الكتّاب، يتمركز كل كاتب حول مجموعة ولابد يحيي قد عانى كغيره، أو أكثر من غيره، وهو الوافد الجديد، من هذا التمزق وهذا الشك، ولكنه استطاع وكأنما بمعجوة، أن يحلق فوق هذه المجموعات كلها وأن يبسط عليها جناحين من حبه، كانت كلمة أو لازمة "ياخويا" التى كانت مدخله لكل حديث هى أيضا مدخله لكل القلوب".
أعتقد أن هذه الفقرة كان يكتبها بهاء وهو يصف بها نفسه، أكثر مما كان يصف يحيي، فكل من اقترب أو تقاطع مع تلك الفترة، أو على الأقل التقى ببعض أبناء جيل الستينات، سيدرك على الفور أن القاص الصعيدى والكاتب الموهوب يحيي الطاهر عبد الله كان غارقا ل"شوشته" كما يقال فى كل التفاصيل الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية، للدرجة التى وصل إليها ذلك الانخراط أن ينتظم فى تكتلات سرية، وكان مطلوبا بقوة فى القضية السياسية التى اعتقل فيها رفاقه من أبناء الجيل فى أكتوبر عام 1966، والتى ضمت كثيرا من الرموز التى تعبر عن ذلك الجيل مثل عبد الرحمن الأبنودى وسيد حجاب وابراهيم فتحى وصلاح عيسى وغيرهم، وظل يحيي هاربا حتى أفرج عنهم فى مارس 1967، ولذلك التداخل، وأيضا لموهبته العظيمة، كان يحيي مدرجا فى كافة الملفات الأدبية التى تم إعدادها منذ الملف الأهم والذى نشر فى أغسطس عام 1966 وأعدته مجلة "المجلة"، وضم كتّابا شبابا من طراز محمد البساطى وابراهيم أصلان وجميل عطية ابراهيم ووحيد حامد ومحمد حافظ رجب، ولكن غاب بهاء طاهرعن ذلك الملف، رغم أنه كان ملء السمع والبصر آنذاك، رغم أنه لم يكن أقل موهبة أو ذيوعا عن زملائه الذين نشروا فى ذلك الملف الذى دشن بقوة لهؤلاء الكتاب الشباب من جيل الستينات.
فى تلك الفترة كان الشاب محمد بهاء الدين طاهر، قد قطع شوطا فى الكتابة الإبداعية والنقدية، كما أنه حقق تميزا فى إذاعة البرنامج الثانى "البرنامج الثقافى" حاليا، وكان قد نشر مسرحيتين من الفصل الواحد، الأولى عنوانها "كأن" عام 1959 فى مجلة الآداب، والثانية فى مجلة الشهر عام 1960، وقبل أن يتخرج من كلية الآداب قسم التاريخ التحق بهيئة الاسشتعلامات كمترجم، أما بعد التخرج عام 1956، التحق عام 1957 بالإذاعة وعمل محررا بها كما أنه بدأ مخرجا إذاعيا، وكان قد أجرى حوارات ثقافية مع كتّاب وأدباء بارزين فى ذلك الوقت مثل د عبد القادر القط، والكاتب المسرحى ألفرد فرج بعد خروجه من المعتقل، وبدأ يكتب مقالا نقديا فى المسرح بمجلة الكاتب بين عامى 1965 و1969، وكان قد قدمه يوسف ادريس عام 1964 فى مجلة الكاتب تقديما مبهرا، نوهنا عنه أكثر من مرة فى كتابات سابقة، وأهمية ذلك التقديم أن يوسف ادريس لم يكن يقدم شابا على سبيل التشجيع، ولكنه كان منبهرا به، للدرجة التى اعتبره بأنه يمتلك أدوات كاتب ناضج وكبير، وقال عنه بأنه يكتب قصة "بهائية طاهرية" ذات ملامح خاصة ومستقلة، وهذا الكلام عندما يصدر من كاتب مثل يوسف ادريس، فهو شهادة ميلاد قوية جدا فى ذلك الوقت، والذى كان ادريس يقدم الكتاب بشكل متحفظ على سبيل التشجيع، كما فعل مع يحيي الطاهر عبد الله عندما قدم قصته "محبوب الشمس" فى أغسطس 1965 بمجلة الكاتب كذلك.
القصة الأولى التى قدمها يوسف ادريس لبهاء طاهر، كانت تطرح هموما فنية جديدة، لم تتمثل ما كان شائعا فى ذلك الوقت بما يسمى بالواقعية الاشتراكية أو الرمزية أو أى اشتراكية كانت، حيث أن بهاء وكثيرين من أبناء جيله كانوا متأثرين بالفلسفة الوجودية التى كانت تلقى بظلها الطويل على المثقفين والمبدعين فى ذلك الوقت عبر الترجمات التى كانت تصدر من دار الآداب بواسطة الدكتور سهيل ادريس وخلافه من كتّاب المجلة، كما أن ترجمات مصرية شعبية كانت منتشرة آنذاك لعبدالمنعم حفنى ومجاهد عبد المنعم مجاهد، فضلا عن أن بهاء كان يتقن اللغة الفرنسية ويقرأ بها مباشرة، ورغم أنها أول قصة، إلا أنها بالفعل كما ذكر يوسف ادريس أتت بملامح ناضجة، ملامح وقسمات تكاد تلامس ملامح كاتب مخضرم خبر الكتابة منذ زمن بعيد، القصة تبدأ بحوار بين شاب يشعر بضجر شديد وبين أمه، وكان الحوار حول ماهية الطعام الذى تعده للغداء، حوار كان مزعجا ومملا للغاية، فيخرج بسببه شبه غاضب أو متذمر، ويذهب إلى شقيقه الموظف فى منزله، فيدور حوار آخر وأكثر عبثية بينهما حول الميراث، حيث أن الشاب كان يريد أن يبيع الأرض التى تركها والده، ولكن شقيقه لا يريد ذلك، تلك الأرض التى استطاع والده أن يشتريها من نتاج حياته الطويلة، واتهمه شقيقه بأنه مبذر وسفيه، فيضطر أن يتركه ويذهب إلى السينما، ليشاهد فيلما مثيرا، وكانت تجلس بجواره امرأة يصفها بأنها أربعينية، وكانت تدخن، فيقدم لها سيجارة، ويخرجان معا وسط نظرات مريبة من رواد السينما، ولم تكن النظرات التى تلاحقهما فقط، لكن بعض العبارات المؤذية التى طالتهما بفجاجة "تلقيح" ويدور حوار ثالث بينهما يعبر كل منهما عن همومه الخاصة التى تتعلق بالسعادة والتعاسة، وفجأة تترامى إلى سمعيهما صرخات وهتافات فى الشارع الذى يسيران فيه، فيعتقد أنها مظاهرة لأى سبب من الأسباب، وعندما يقترب الحشد الذى اعتقد أنه مظاهرة، يدرك أنها ليست مظاهرة احتجاج، ولكنها فرحة الجماهير بفوز النادى الأهلى على خصمه، فيترك صاحبته وينخرط مضطرا ومدفوعا بفعل ذلك الزحام فى أمواج الناس المتلاطمة والمتعاركة، ويجد نفسه يضرب آخرين، ويضربه آخرون دون أى عداء شخصى، ويصاب بجرح غائر فى رأسه، ويشعر أن خيط دم يتسلل على جبهته ويصل إلى بقية وجهه، معركة عبثية لا أسباب لها، سوى أن الجميع وجدوا أنفسهم فى ذلك الحشد العشوائى، فيهرب ويركب مركبة عامة لكى يعود إلى بيته، ويدور حوار عبثى رابع بينه وبين رجل وجد نفسه بجواره فى الأتوبيس دون أى تخطيط، وكان هذا الحوار حول عبثية لعبة كرة القدم التى يتقاتل عليها الناس بضراوة حولها، وينهى بهاء قصته ب: "..سكت الرجل أخيرا، وسكتت كل الأصوات فى العربة، فتنهدت بارتياح وأنا أسند رأسى المجروح فى حذر إلى ظهر العربة، لا أفكر فى شئ، ولا أهتم بشئ، ولا أستمع إلى شئ غير صوت إطارات العربة الرتيب، وهى تدرج على أسفلت الطريق"، إنها قصة ألقت بحجر ثقيل على المستوى الفنى والفكرى فى مسار القصة القصيرة، وربما تكون كسرت ظهر الواقعية، أو على الأقل أحدثت ندبة عميقة فى الكتابة الواقعية، ومن هنا جاء انبهار يوسف ادريس بكتابة بهاء، إنه احتفاء صادق وإعجاب حقيقى للغاية من كاتب كبير، بكاتب شاب لم يصل إلى الثلاثين من عمره، ومن ثم بدأ بهاء كبيرا بالفعل، أو ولد على القمة كما يقولون، وعندما نشر قصته الثانية "الصوت والصمت" فى مجلة "الكاتب" فى مارس 1966، كان قد استوى مع زملائه فى ذلك الجيل الذى صنع مجده بجد وكفاءة، ولم تكن تلك القصة تقل أهمية عن القصة السابقة فى الأهمية والجمال، إن لم تكن أضافت لذلك الشاب الموهوب حضورا جادا ومذاقا خاصا وسط كل كتاب جيله، ورسخت أقدامه ككاتب مبشر فى أرض الحياة الأدبية.
لم ينتم بهاء إلى أى من التنظيمات السياسية التى نشأت وتكونت على هامش حل "الحزب الشيوعى المصرى"، واندماج أعضائه السابقين فى الاتحاد الاشتراكى العربى، وتشكلت مجموعة من المبدعين والمثقفين والكتّاب حول منظمة "وحدة الشيوعيين"، ضمت فى إهابها كتابا ومبدعيبن موهوبين من طراز ابراهيم فتحى وغالب هلسا وسيد خميس، بالإضافة إلى من نوهنا عنهم من قبل، وتم اعتقالهم، وكان بهاء بعيدا عن تلك الجماعات السياسية التى عبّرت عن نفسها بشتى الوسائل، ولكن بهاء كان يغرّد وحده فى فضاء آخر، رغم أنه يتقاسم حالة التجديد الإبداعى فى كتابة القصة القصيرة، ولكنه آثر أن يعبر عن نفسه بطريقته الخاصة جدا، وكانت مقالاته فى النقد المسرحى خير تعبير عن آراءه واحتجاجاته، كما كانت كتاباته القصصية أيضا تقول الكثير، ولكن وجود وفعالية وحركة بهاء التى كانت خارج الجماعات عملت على إقصائه من بعض الملفات التى نوهنا إليها، وعندما صدرت مجلة "جاليرى 68" فى مايو 1968، تم تجاهله فى الأعداد الأربعة الأولى، والتى نشر فيها كل أبناء الجيل، ولم ينشر لبهاء فى المجلة إلا عندما تم تخصيص العدد الخامس للقصة القصيرة، وكان من الصعب أو غير اللائق تجاهله فنشرت له قصة "الخطوبة"، وأشاد بها الناقد والقاص الأردنى غالب هلسا فى العدد ذاته، ولكن فى العدد السادس الذى صدر فى أكتوبر عام 1969، كتب خليل سليمان كلفت تعقيبا نقديا على عدد القصة القصيرة، وهاجم فى ذلك التعقيب بهاء طاهر وقصته الخطوبة فى وقت واحد قائلا: "..وفى قصة "الخطوبة" لبهاء طاهر نجد البطل متهما لم يرتكب ذنبا، أما اختياره فإن محكمة ذاته هى التى تقرره: (أن يرفض أو يذعن)، هذه مسألة قلبه وعقله يقرران فيها ما يشاءان، إن الأمور هنا متطرفة والوقائع ضيقة وبعيدة عن أن تكون غنية ومتنوعة، وحتى محبوبة البطل تظل مغلقة تماما ولا يبدو أنها يمكن أن تلعب أى دور، إن وقائع مختلفة من أساسها_فى الغالب_ هى التى تحاصر بطلنا، ومن هنا فإن أحاسيسه ومشاعره وانفعالاته وأفكاره محكوم عليها بأن تدور فوق السطح، ويبدو اقتراح الخروج من الحصار حيلة مفتعلة، أى جانب من الاغتراب تتناوله القصة؟، إنه اغتراب أفراد متهمين بلاسبب فى عالم غريب، إنها تذكرنا بجوزيف "ك" فى قضية كافكا، (ذات صباح جميل يلقى القبض عليه بلا سبب)، إن مثل هذا الحصار لن يفك لأنه حصار شخصيات حية تمارس نفسها فى وقائع حية فى معطى هو واقعنا، ومن حقنا أن نتساءل ما إذا كانت القصة تملك أن تكون صادقة فى تعبيرها عن واقعنا؟"، هذا السؤال بالطبع يأتى فى شكل استنكارى ورافض، وليس فى شكل استفهامى، فكل ما ذكره خليل كلفت سلفا، يضع مبررات لاستنكار القصة وتوجهها كافكاويتها وعبثيتها كما تقول الكلمات.
ويبدو أن بهاء طاهر استشعر تلك الغربة بشكل ما عن جيله، فكتب شهادة عميقة وهادئة فى مجلة الهلال الصادرة أغسطس عام 1970، لكى ينفى بشكل خجول انتسابه لذلك الجيل من الشباب، ولكنه نفى مقنع، إذ يقول: "أحب أولا أن أنبه إلى أننى لا أنتمى إلى جيل الشباب، ولا إلى جيل الكبار، أو الواصلين، والانتماء إلى جيل الشباب الجديد، ليس تهمة أدفعها، ولكنه شرف لا أدعيه، فالخامسة والثلاثون ليست هى بالضبط شرخ الشباب، ولكنها بالأحرى صدعه وبدء وداعه.."، يكتب بهاء ذلك الكلام، وهو يعرف أن ابراهيم أصلان وهو أحد الأعمدة الراسخة فى جيل الستينات كان مولودا فى ذات العام الذى ولد فيه هو 1935، أما بقية أبناء الجيل، فالفرق بينهم جميعا فى العمريتراوح بين العام والعامين أو أكثر قليلا، لكننى أشعر أن بهاء كاد يقول "لكم جيلكم، ولى جيل"، وهذا من كثرة وعمق تجاهله، ثم الهجوم عليه، واعتباره أحد المتأثرين بعبثية كافكا والعياذ بالله، وزاد على ذلك أنه سافر ضمن وفد من مصر إلى مؤتمر كتاب آسيا وأفريقيا فى نيوديلهى عام 1970، ذلك المؤتمر الذى كان يترأسه يوسف السباعى، ثم ذهب بعد ذلك إلى ندوة فى مهرجان دمشق المسرحى عام 1972، والطامة الكبرى أن تصدر مجموعته الأولى "الخطوبة" عن مطبوعات الجديد التى كان يرأس تحريرها الدكتور رشاد رشدى، ذلك اليمينى المتطرف فى اعتقاد كل المثقفين فى ذلك الزمان، وإذا كان رشاد رشدى يمثّل اليمين الثقافى فعلا، فما ذنب من ينشر فى مطبوعات الجديد؟.
ولكن بصدور تلك المجموعة، وتحقيقها لحضور نقدى مرموق، لم تستطع الجماعة الثقافية تجاهل نصوص بهاء طاهر، وهذا ما يدفعنا للعودة والضجة التى أحدثتها قصة "بالأمس حلمت بك"، وحتى ذلك العام 1984، لم يكن بهاء قد أصدر مجموعته الثانية، ولكن بعد نشره لقصته هذه نشر مجموعته الثانية، ولكن المهم هنا أن ننوّه على المقال الذى كتبه الناقد محمد محمود عبد الرازق عن تلك القصة فى عدد يولية عام من مجلة إبداع، واعتبر أن القصة تبدأ عالما أو خطا جديدا فى مسألة العلاقة بين الشرق والغرب كما قلنا ذلك فى بداية هذه السطور، وبعد صدور المجموعة كتب الناقد سامى خشبة، وهو أحد النقاد الكبار والمرموقين فى ذلك مقالا فى مجلة إبداع سبتمبر 1984، أى فى أعقاب صدور مجموعة "بالأمس حلمت بك" عن مختارات فصول، وجاء فيما كتبه: "..وقصة بهاء طاهر، يكتبها بعد أن زالت أوهام كثيرة عن كل الاحتمالات التى حملتها أو حققتها، أو أنذرت بها، تلك العلاقة الدراماتيكية بين الغرب وثقافته، وبيننا وثقافتنا، احتمالات الانبهار بالغرب، الانبهار بما يمكن أن نتعلمه منه وبما نشعر بوجوب أن نرفضه فيه.."، ويستطرد خشبة فى قراءة متأنية وتحليلية بديعة فى بقية قصص المجموعة، ورغم أن سامى خشبة كان ناقدا موضوعيا وشديد الصرامة، إلا أنه كان يبدى عبارات شديدة الإعجاب والانبهار بذلك الكاتب الذى يقول عن نفسه دائما بأنه كاتب مقل، ونحن نفهم جيدا هذه الجملة على أنه مقل فى الكم، ولكنه كثيف ورحب وعظيم فى الفن والإبداع.
ونعود لحكاية أنه كان كابوس الجيل، ونستشهد هنا بكلمات ناقد شديد الصرامة والنزاهة، من الممكن أن نختلف مع بعض أحكامه القاسية فى بعض كتاباته، وخاصة فيما كتبه عن نصوص جمال الغيطانى، ولكننا لا نختلف على نزاهته ووسوسته الشديدة، وانطلاق كتاباته من وجهة نظر خاصة، أعنى الناقد فاروق عبد القادر، والذى كتب مقالا مهما فى إبداع بهاء طاهر، عندما أصدر روايته "خالتى صفية والدير"، ولا أريد استعراض ما كتبه عبد القادر، ولكننى أريد أن أنوه إلى بعض كلماته لكى أنفى حكاية ما قيل عن أكذوبة كابوس الجيل، فاروق عبد القادر لم ينتظر صدور الرواية فى كتاب، ولكنه سارع بالكتابة عن الرواية من خلال الحلقات التى تم نشرها للرواية فى مجلة "المصور" من 4 يناير 1991 حتى 1 فبراير 1991، ويقول بالنص، وهو يعتذر للقارئ: "وعذرى أن عملا جديدا لبهاء طاهر هو (حدث أدبى) لا شك فيه، فبعد أعماله الأخيرة: شرق النخيل 1984، وقالت ضحى 1986، ومجموعتيه بالأمس حلمت بك، وأنا الملك جئت، أصبح ما يقدمه بهاء، موضع ترقب وانتظار من القارئين والمتابعين، وعذرى كذلك أن تلك الرواية القصيرة، هى من أفضل الأعمال التى قدمت _حتى اليوم_ فى هذا الشكل الفنى الصعب، وقد أثبت بهاء قدرته على هذا الشكل وتميزه فى روايتيه السابقتين).
لا أستدعى سامى خشبة وفاروق عبد القادر، وهما ضميران نقديان لجيل الستينات كله، إلا لكونهما من صلب الجيل، ولا خلاف على نزاهتهما النقدية، أما النقاد على الراعى وشكرى عياد وغالى شكرى وابراهيم فتحى وادوار الخراط وصبرى حافظ وغيرهم من الذين كتبوا عن بهاء طاهر، فهم يثبتون أن بهاء طاهر كان أحد أبرز أبناء جيله الكبار، وأضاف الكثير والكثير إلى فن القصة القصيرة والرواية فى الأدب العربى، وما الجوائز التى حصل عليها، إلا مكافآت قليلة ومحدودة القيمة لإبداع ولمبدع لا ولن ينمحى من الذاكرة المصرية والعربية.