جوزف دعبول في الأخبل… يلوذ بالالتباس ليتّقي لعنة الوضوح

قزحيا ساسين
المصدر: الجريدة 29 فبراير 2012

يواصل الشاعر جوزف دعبول في إصداره الجديد «الأخبل – إلى سيلا تنظر الآن في المرآة» الإبحار عميقاً في بحر الغموض الذي صافح أمواجه في ديوانه الأوّل: «البحر وردة الرؤيا»، مراهناً على أنّ شعره من معدن النار التي وُلدت ناراً وإن كان من نهاية فهي تنتهي ناراً أيضاً: «شعري عشب ناريّ لا تطفئه السماء».

أجمل ما في النصّ الفنّي وضوحٌ هو منتهى الصناعة ويبقى على قرب من العين وعلى بعد من اليد، وغموض منسوج بريشة بيضاء يترك عند أبواب المعاني بعضاً من ضباب لا يتحوّل في أيّ لحظة جراداً يرعى نسغ الجمال في صدور الكلمات. فالوضوح والغموض الأصيلان يتساويان في العناء الذي يعيشه القلم للوصول إليهما، والقصيدة تستقبلهما كليهما على الرّحب والسّعة.
إمعاناً في الغموض تنازل جوزف دعبول في «الأخبل – إلى سيلا تنظر الآن في المرآة»عن عذاب الوصول إلى عناوين ملائمة للنصوص، واستعاض عن العنوان بالرّقم. وإذا كانت مشكلة بعض الشعراء أنّهم يحوّلون النصوص عُلَب كلام أكثر من عاديّ فلا تحطّ على كتف قلمهم كلمة دون أن تأخذ الضوء الأخضر لدخول النصّ فإنّ بعضهم الآخر يلجأ إلى الكثير من الهدر اللغوي على إبهام وطلسمة، ورمزيّة خاصّة جدّاً يملك صاحب النصّ وحده مفاتيح شيفراتها، ودعبول ليس بعيداً من هذا البعض الثاني.
من بداية بوحه الشعري، يعلن دعبول أنّه سيتفرّغ لذاته: «أنا الناظر إلى الـ{أنا»، الحامل أغلال الظلال»، فالحقيقة التي يسعى إليها تترامى في تراميه وتتقلّص في تقلّصه وإن تكن غير واضحة وإن تكن إلى الأبد موشومة بظلالها أو حتّى قائمة في ظلالها. وكالعادة يعود دعبول إلى متعة حشد الثنائيات الضديّة في النصّ: «مرارة الابتسامة، ثلوجها السّود»… غير أنّ هذا التعارض الكثيف الانتشار يحكم على المعاني بالفراق قبل أن تلتقي ويشظّي المساحات النصيّة التي من المفترض أن تنتظم في سياق معيّن وبالتالي تصعب على القارئ عمليّة الترميم النصيّ لمعرفة الاتّجاه الذي يسلكه المعنى، ومثالاً على هذا التعارض. «… ومرارة الابتسام أمام بلور العتيق / كم مرّة كانت الجحيم / توزّع ثلوجها السود / أجسادها الملطّخة بالمرارة،/ أيّها الدائريّ لتنفرج سواقيك»…
وكثيراً ما يرتاح دعبول إلى التفلّت من سلطة العقل، وعنوان جديده «الأخبل» خير دليل، فكأنّ العقل يحرم صاحبه أفراحاً لا تحصى تجود بها كفّ الحياة على الفاتحين أشرعتهم كيفما اتّفق وليسوا من قاصدي جزر وشواطئ، معيّنة رغم أنّهم مقيمون ليل نهار على ظهور الموج، فذاك الخارق الذي: «يأتي حاملاً وجهه وعصاه/… يخبط بعصاه برق السماء/ فتهطل الأشجار والورود/… يلتقط طفلاً ضالاًّ / ويهديه عطر الزمن».
وبضلال ذاك الطفل يحاول دعبول الاتّحاد، يحاول تخريب مملكة العقل والزمن، يحاول الخلاص من ذاته المكتَسَبة بالتربية والتدجين لتقمّص ذات أخرى، قد تكون الذات الأولى الخالية من التأثّر بأيّ سلطة بيتيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو دينيّة… وقد تكون عودة دعبول الكثيفة إلى الطبيعة على علاقة بالذات الأولى أيضاً، فهو يحمل على ظهر قلمه قاموس الطبيعة من نصّ إلى نصّ في جوّ احتفاليّ يضجّ بالرمزيّة: «الطريق مفروش بالياسمين، وعلى عينيّ غشاوة ممطرة / قرأت الصعود إلى القمّة / النزول إلى الهاوية / وعبّأت قبّعتي أشجاراً تشرق مع الشمس / هناك البيت العتيق / مرشد يدلّك إلى الطريق».
مسكون هو الأخبل بكلّ البدايات، منتشٍ بنسغ البكارات، يحاول العبور من الياسمين والمطر إلى حقيقة الارتفاع والارتقاء وحقيقة الانحدار إلى التلاشي في القعر، ويتبنّى الأشجار فيلبسها قبّعته ليتقمّص الشروق من خلالها، وربّما على المستوى الشعريّ من خلال «البيت العتيق» و{إلى الطريق» يحنّ دعبول أيضاً إلى القصيدة الكلاسيكيّة، إلى القافية التي قد تكون أكثر من كلمة تحلّق في سماء اللغة وإلاّ فما الذي دعاه إلى تقفية ليست سوى سجع لا يخدم القصيدة الحديثة الحرّة من كلّ وزن وقافية بشيء؟! وينحاز دعبول إلى الجسد، يبحث عن فرح يُلمَس بالأصابع، عن حلم يعلق في شبكة الحواسّ، يرفّ فراشة حول قنديل الرغبة، يصافح الحرائق تمدّ ألسنتها من نوافذ الأجساد: «الحرائق التي تثور في الجسد تكوين. تكوين مشعّ ذو مذاق. للكون ضجيعته. هكذا يكتمل الكمال ويرنو إلينا ونرنو إليه. هل بعد، بعدُ؟» حرّ هو دعبول حين يقود مياه عقله إلى طواحينه الخاصة والمحرجة في أكثر من مكان. وحرّ هو حين يحمل جسده على كتفه ويرفعه راية وجوديّة لوطن دائم هو الرغبة…
ولا يفصل دعبول بين روح وجسد: «أيّها الغريب/ ترمقني بعينين حمراوين/ حزنك مغلّف + بشجرة ورد/… جسدك روحُك/ روحك جسدك/… أيّها الـ{أنا» لا ترحل». ربّما لأنّه مهووس بالالتباس، بالظلال التي تتداخل ويفترس بعضها البعض، بالألوان القاتمة التي تعيش وتموت على حساب بعضها البعض… يجرّد دعبول الكلمة من معناها ويدلّها على نصّه ويتركها تكتسب المعنى الذي تشاء أو الذي تستطيع. إنّه يرفض الوضوح، كأنّه يمعن في احتراف اللاوصول، كأنّ الوضوح يميت ما يقال وهو يهرب من موت واضح إلى موت آخر يمدّ بساطه تحت سقف الغموض.
والموت والولادة من محطّات دعبول الدائمة: «أدخل جرح الدم/ أقطف الوردة المقدّسة /ألد عصفور الجنّة/ وأنصب تمثالي في ساحة الموت». بهذه الرمزيّة المغلقة يختصر الأخبل مشروعه الوجوديّ الذي يبدأ من باب الجنس المطلّ على الحدائق ذات الورد المقدّس، أمّا المولود فهو عصفور للسماء يكون بمثابة انتصار يُقْنع الشاعر بإقامة تمثال له في ساحة الموت. ولكنّ دعبول المعتقد بانتصاره على الموت من خلال التمثال قد لا يكون منتبهاً إلى أنّ التمثال مثل صاحبه يعود إلى التراب أيضاً وهكذا يكون صاحب التمثال قد مات مرّتين ما يعني أنّ الفوز هو بموت ثانٍ وليس بفرار من الموت.
وعلى امتداد النصوص يهرب دعبول من غرابة إلى أخرى ناسجاً لذاته مناخاً لا يشبه المناخات التي يساهم الوعي في تأسيسها ليغدو كلامه هذياناً جميلاً، يلهي متلقّيه ولا يوصله، يعده بالمفاجأة ويبقيه على رصيف الانتظار، هو الذي يحمل الزبد إلى حبيبته وتطلب منه أن يأتيها بجثّته الأخرى، هو الذي ينام في حضن الشمس الإلهي ويدعو إخوته إلى حلمه: «خوّضت في النهر/ وحملت الزبد إلى حبيبتي/ أطلقت عليّ حبّها/ وسألتني الإتيان بجثّتي الأخرى./ وحيداً أفتح الشمس كلّ ليل/ وأفترش حضنها الإلهي/ وأحلم بإخوتي».
من خلال إصداره الثاني «الأخبل» يحاول جوزف دعبول أن يقول مرّة ثانية: «أنا لا أشبه أحداً»، متوسّلاً الغموض المركّب الذي قد يجعله بلا شبيه غير أنّه يمنعه، في المقابل، من أن يشبه نفسه.