محمد توفيق يرثي جميل عطية ابراهيم

جميل عطية إبراهيم: الأديب الذي تأمل ذرة من تراب الوطن فرأى الكون بأسره

من النادر أن تلتقي شخصا للمرة الأولى فتشعر كأنك في حضرة صديق تعرفه منذ زمن بعيد. كان هذا شعوري تحديدا عند لقائي الأول بالأديب جميل عطية إبراهيم. وهو اللقاء الذي طال تطلعي إليه لكون الأستاذ جميل أحد أهم أدباء مصر المعاصرين، كما عززت من شغفي النصيحة التي قدمها لي الأديب عبد التواب يوسف عند صدور قرار نقلي للعمل ببعثتنا الدائمة لدى المقر الأوروبي للأمم المتحدة، فتحدث مطولا عن الأستاذ جميل وأكد على أهمية أن أعطي أولوية خاصة للتعرف عليه والاستفادة من خبراته. وقد تحقق اللقاء فعلا في خريف 1997 في أروقة قصر الأمم بمدينة جنيف السويسرية، وإن جاء بطريق الصدفة.

عرفني به زميلي الدبلوماسي علاء يوسف (ويشغل حاليا منصب مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة في جنيف) باعتباره ممثل الإذاعة والتلفزيون المصريين، فرحبت بحرارة برجل قصير القامة، مصري الملامح والطابع، سويسري المسلك من حيث دقة اللفظ وانضباط المواعيد، يرتدي بيريه وكوفية على طريقة شعراء الشام من جيل الستينيات. اهتم بي بوصفي دبلوماسي مصري، ثم تضاعف اهتمامه عندما عرَّفت نفسي بأنني أيضا أسير على طريق الأدب، وأعرب عن اهتمامه بأن يقرأ أحد أعمالي. حتمت ظروف عملي وعمله يومئذ أن يكون اللقاء عابرا مع التواعد بلقاء آخر في وقت قريب.

اتصل بي بعدها بأيام معدودة، ودعاني للقاء في المقهى المخصص لمراسلي الإعلام بقصر الأمم، وهو اللقاء الذي طال لعدة ساعات رغم سرعة إيقاع العمل في منظومة الأمم المتحدة، وإلحاح عنصر الزمن علينا.

ذكر إن مقهى الإعلاميين هو موقعه المفضل في مبنى المقر الأوروبي للأمم المتحدة، وهو مقهى هادئ صغير نسبيا، لأنه يقع في الجزء القديم من المجمع – بخلاف  المقاهي الشاسعة الصاخبة التي يتميز به الجناح الحديث. وهذا الجناح القديم الذي يقع به المقهى كان المقر الأصلي لعصبة الأمم – المنظمة الدولية السابقة على إنشاء الأمم المتحدة – وهو من أبرز مباني العالم المصممة على طراز "آرت ديكو"، ما أضفى جمالا خاصا على الديكور الداخلي للمقهى، وهو جمال ينتمي لعالم آخر لم يعد قائما خارج نطاق الخيال والنوستالجيا. هكذا عزل المكان حوارنا مؤقتا عن أحداث الساعة.. فتغافلنا عن تلك السلسة من التطورات العالمية التي كان اللهاث خلفها شغلنا الشاغل، وغصنا في عالم الأدب الأشد سحرا والأكثر عمقا، وإن لم يقل عن عالم السياسة صخبا وخطورة. 

بدأ الأستاذ جميل حديثه بسؤال لم أكن أتوقعه.. سؤال لم يطرحه عليّ أحد قبل ذلك اليوم أو بعده. سألني بنبرته الجادة الودود إن كان سبق لي أن شُخصت بمرض عقلي، فضحكت وفهمت أنه انتهى من قراءة روايتي "ليلة في حياة عبد التواب توتو"، والتي تفسر شطحات فصولها الأخيرة مثل هذا السؤال، وتوالت تعليقاته وملاحظاته التفصيلية حول العمل بشكل إيجابي، وقد اعتبرتها لا تخلو من مجاملة رقيقة، لكن الأمر الذي استلفت اهتمامي بالدرجة الأولى كان حديثه عن مسيرته هو الأدبية، والتي كنت أجهل كثيرا من جوانبها.

سألني مبكرا عن حبي للموسيقى، وقبل أن أجيب لاحقني بفخر: "أنا دارس للموسيقى". ثم تطرق مطولا إلى العلاقة بين الموسيقى والأدب، مؤكدا أن اهتمام الأديب بالموسيقى لا يجب أن يقتصر على الموسيقى في اللفظ، وإنما يتعين عليه أيضا الاستفادة من الأشكال الموسيقية المختلفة في بناء أعماله، وأشار إلى تجربته في تطبيق هذا المبدأ في ثلاثيته (1952 – أوراق 1954 – 1981). من جانبي أومأت إعجابا، دون أن أعلق، نظرا لأنني لم أدرس الموسيقى مثله، ولم أكن وقتئذ قرأت ثلاثيته.

عند إثارته لعناوين هذه الثلاثية فهمت سر اهتمامه بمناقشة التفاصيل التاريخية التي تضمنتها روايتي والتي دارت أحداثها خلال نفس الفترة الزمنية، ولم أكن أعلم وقتئذ أن الأستاذ جميل يقدم في ثلاثيته رؤية شاملة وطموح لتطور المجتمع المصري خلال تلك الفترة الحرجة من تاريخه الحديث، وأنه لا يقتصر على تصوير طبقة أو فئة بعينها وإنما يجول في وصفه لحياة المصريين من قصور الأثرياء إلى دور الفلاحين البسطاء وما بينهما، ويتناول الملكية والثورة والإخوان والشيوعيين، ويتنقل بعدسته من المدينة إلى الريف، ومن الوطن إلى المهجر، ويبرز طيبة المصريين دون أن يخفي انتهازيتهم، وأنه مع تعاطفه مع شخصياته كافة، لا يقدس بعضا منها أو يشيطن البعض الآخر، بل أنه لا يتردد في كشف جوانبها الظاهرة والمستورة على حد سواء، ويطرح حكايته الشيقة الممتعة بلغة بسيطة لكنها لا تخلو من المكر والحرفية، هذا ما عرفته لاحقا، لكن وقتها في مقهى الإعلاميين اكتفيت باقتراح أن نطلب فنجانين آخرين من مشروبينا (شاي الإيرل جراي له والكابوتشينو لي).      

لاستعادة أطراف الحديث بعد انقطاعه قارنت بين الحرية التي يتمتع بها الكتاب في الغرب، والقيود المجتمعية والرسمية التي يواجهها الكاتب العربي. صمت وهلة ثم قال إن الكتابة المباشرة لا تكون بالضرورة الأعمق والأكثر تأثيرا، مؤكدا أن الكاتب الماهر يستطيع أن يمرر رسالته بغض النظر عن أي قيود سياسية أو اجتماعية، وأنه يستطيع أن "يلبس الرقيب العمة".

أما نصيحته الأخيرة فقد تذكرتها عند كتابة الجزء الثاني من ثلاثيتي بعنوان "طفل شقي اسمه عنتر" والتي بدأتها بعد ذلك الحديث بأسابيع قليلة، وهي الرواية التي تكرم الأستاذ جميل بقراءة مسودتها بعدها بأربع سنوات وأفادني بتعليقاته ونصائحه حولها، وأذكر أن من بين ما استوقفه شخصية اسمها "فيفي" لراقصة مشهورة، فسألني بخبث: "ألا توجد في الواقع راقصة مشهورة اسمها "فيفي"؟ ثم استطرد: "أسمع أن لديها طاقم شديد من الـ "بوديجارد".. هل سبق لك أن التقيت بهم؟" وعندما أوضحت أنني لم يسبق لي أن التقيت بطاقم الـ "بوديجارد" الخاص بالراقصة المشهورة، وعلى وجهي ابتسامة عريضة، سأل بجدية تامة إن كنت شغوفا للقائهم. أضحكتني دعابته، لكن بقدرة قادر تغير اسم الراقصة في روايتي من "فيفي" إلى "لولا".

وعودة لمقهى المراسلين، استمعت باهتمام لحديث الأستاذ جميل المليء بالشجن عن أحلامه وأحلام زملائه من جيل الستينيات، وعما آلت إليه من إحباط، وأن المسألة بالنسبة لهم لم تقتصر على التنفيس عن واقع أليم، والتعبير الصادق عن حالة وطن وعناء جيل، وإنما كان لكل منهم مشروعه الأدبي الخاص والطموح، وهو المشروع الذي جسدته جماعيا مجلة جاليري 68 التي ساهم في تأسيسها وإدارتها بشكل كبير. ثم تطرق إلى الجلسات التي شارك فيها مع عملاقي الأدب نجيب محفوظ ويحي حقي، وكيف أثر كل منهما في تكوينه كأديب، وصولا إلى شواغله العامة والأدبية الحالية.

تحدث في هذا الإطار عن انبهاره بالكاتب الأمريكي ويليام فوكنر، وخاصة رواية "الصخب والعنف" والتي مثلت بالنسبة له مدخلا لفهم الجوانب الفنية لوجهة النظر في الكتابة الأدبية، مشيرا إلى التمرينات التي اعتاد على ممارستها في شبابه، فكان يكتب القصة على لسان الراوي العليم، ثم يعيد كتابتها مرارا من وجهات نظر كل شخصياتها، وقد استفدت من هذه الأفكار لاحقا في تصميم التمرينات للمشاركين في ورشة الكتابة الإبداعية التي بدأتها عام 1998. 

قبل أن ننصرف علق على روايتي بأن بها ما يغضب كل التياراتاولا الغلاف و هو حكاية وحده و عندما تتأمله سوف تدرك انك بصدد قراءة عمل ممتع غاية الامتاع ...بريشة الفنان المبدع حلمى التونى ...الجزء الأول 1952: على الغلاف فتاة شابة تحمل على كتفها ضابط برتبة اليوزباشى صغير الحجم يرتدى شورت (انها مصر وقت قيام ثورة العسكر 1952 )..تحتفى و تحمل الأمل

و على غلاف الجزء الثانى المعنون (أوراق 1954) سنجد الفتاة و قد ارتدت فستان الزفاف و اليوزباشى و قد استطالت قامته يحتضنها و يقدم لها وردة حمراء....هنا بداية الزواج الابدى بين العسكر و السلطة (مارس 1954)

و على غلاف الجزء الثالث و الاخير المعنون 1981 سنجد الفنان الماكر و قد جعل من الفتاة سيدة مترهلة تطل على المشهد من اعلى و تحتها اثنان من العسكر يحملان رتبة عالية و فى يد كل منهما سلاح يحاول قتل الثانى به ....لقد ترهلت مصر و تركها العسكر ليقتتلوا من يفوز بالتركة (عصر السادات)..و عصر ضياع الهوية

و اذا انتهينا من الغلاف و دخلنا الى متن الرواية ...فأنت أمام روائى موهوب يصنع عالمه الخاص (عزبة عويس باشا) ....حيث اللواء عويس باشا ياور الملك فاروق يمتلك كل شىء وتخضع له العزبة و لنزوات زوجته التركية الاميرة شويكار ...و حيث العمدة حمادة ابو جبل مجرد اداة طيعة يتنزل بها البطش على صغار الفلاحين ...و حيث الشاب (كرامة) تناله مئة جلدة من كرباج اللواء عويس لأنه تحدث الى الاميرة جويدان ...كلها مقدمات للحريق الكبير الذى سيندلع فى مصر كلها و ليس فى العزبة ليطيح بالملك و اللواء عويس ...و يبدأ العام المرحلى فى التاريخ المصرى 1954...و تشاهد صراع محمد نجيب و جمال عبد الناصر ...و سلاح الفرسان و سلاح المدفعية على من يفوز بالحكم ....و ترى بعينك الاخوان و هم يألبون الناس ضد عبد الناصر و عبد القادر عودة و هو يخطب ليدعو الجماهير للقضاء على الطاغية و استعادة محمد نجيب .....
و نرى فلاحى عزبة عويس و هم يأخذون ارض الاصلاح الزراعى ثم يبورونها و يبنوا عليها بيوتابالطوب الاحمر ....و نرى الصراع المرير بين اجنحة العسكر الذى بدأ فى عهد عبد الناصر و كيف استمال كل طرف مرة الشيوعيون و مرة الاخوان ....وصولا الى 1981 ...عندما تحولت مصر الى ارض مصابة بالطاعون يهجرها ابنائها

و فى المنفى فى سويسرا يجلس ابطال الرواية بعد ان فقدوا الوطن يتندرون و يتذكرون ايامهم التى سلبتها يد مجهولة ...و لم تبق لهم شىء الا الذكريات

رواية رائعة انصح بقرائتها و خصوصا الجزء الثانى 1954 و هو الاجمل ...و هى موجودة فى فروع دار الهلال بسعر زهيد للغاية... السياسية على الساحة المصرية، ولم أنكر ذلك، بل اعتبرته أسمى ما يهدف إليه الروائي لأن الصدق أكثر ما يغضب الناس، فعلق مبتسما: لا تتوقع إذن أن يروج من يحرصون على مصلحتك لهذا العمل، ففهمت إنه يشير لحساسية وضعي الدبلوماسي، وهي مسألة أخرى لم يتسع الوقت للحديث بشأنها. وانتهى اللقاء لتبدأ صداقة طويلة.

عند وصولي لجنيف في أغسطس 1997 كنت متوقعا أن أمضي بها أربع سنوات كما هو معتاد في السلك الدبلوماسي، وأن تكون فترة إقامتي بالمدينة السويسرية – بما عرف عنها من هدوء ونظام وجمال – بعيدة عن المناخ الأدبي المحبب إلى قلبي. لكن السنوات أثبتت خطأ التوقعين معا، إذ أمضيت بالمدينة أكثر من خمس سنوات، واكتشفت أن جنيف مركزا ثقافيا وأدبيا مهما، فإضافة إلى الأستاذ جميل كان من المقيمين بها الأديب بهاء طاهر، والأديبة الفيلسوفة د. فوزية أسعد، واللذين أصبحا سريعا من الأصدقاء المقربين، كما أقام بها صديقي الدبلوماسي والمفكر د. وليد عبد الناصر، والذي أدار مع الأديبة د. فوزية العشماوي الجمعية الثقافية المصرية، وكانت الجمعية بالفعل منبرا ثقافيا عربيا يعتد به في قلب أوروبا، وكانت جنيف تستضيف في تلك الفترة سيلا متدفقا من الأدباء والمفكرين المصريين والعرب. ربما كان النُزُل المخصص لإقامة الكتاب في قرية لافيني على مقربة من المدينة من أبرز المحافل المستقبلة لهم، ونظرا لكون الدكتورة فوزية أسعد عضوا في مجلس إدارة المؤسسة التي تدير هذا النُزُل أو القصر الصغير، حرص الأستاذ جميل على أن يرشح لها مجموعة متميزة من الكتاب المصريين، ما ساهم في إضفاء مزيد من الحيوية على هذا المناخ الثقافي النشط أصلا. 

وكانت القاعة المخصصة لمؤتمر نزع السلاح في الدور الثاني من قصر الأمم، وموقعها لا يبعد كثيرا عن مكاتب المراسلين، مما سهل عليّ المرور على الأستاذ جميل كلما أتيحت لي فسحة من الوقت بين الاجتماعات، فإن وجدته انتقلنا إلى المقهى، نتحدث أحيانا عن الأدب والثقافة، وفي أحيان أخرى عن العولمة والنظام الدولي وهيمنة الدول العظمى على مقدرات العالم، وكان الأستاذ جميل إعلاميا من الطراز الأول، يلم بالموضوعات من جوانبها المختلفة، ويجيد نقل القضايا الفنية المعقدة بشكل مبسط يسهل للمواطن العادي أن يفهمه دون الإخلال بعنصر الدقة.  

وألف الأستاذ جميل عملين مهمين خلال تلك الفترة، هما "خزانة الكلام" و "المسألة الهمجية"، وهما روايتان معبأتان بكثير من الشواغل التي تداولناها في أحاديثنا حول النظام العالمي الجديد الذي أخذ يتبلور في تلك المرحلة، وكنا نتابع تفاصيله من خلال عمل أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة في جنيف، فدور الرأسمالية الجديدة وسطوة الشركات العابرة للحدود باديتان في رواية خزانة الكلام، بينما تتناول رواية "المسألة الهمجية" الممارسات الإسرائيلية الوحشية ضد الفلسطينيين من جهة، وخيارات الأصالة والمعاصرة التي تواجه مجتمعاتنا العربية من جهة أخرى، وتدور أحداث الروايتين من خلال حفنة من الشخصيات المذهلة، يكشف المؤلف عن خباياها بذات الموقف الحيادي.  

كان محل الإقامة الرئيسي للأستاذ جميل والسيدة الفاضلة روث، زوجته السويسرية، في مدينة بازل، وكان أيضا يؤجر ستوديو في جنيف في شارع لوزان القريب من مبنى الأمم المتحدة، يقيم فيه في الأيام التي يقضيها في جنيف لدواعي العمل، وفي تلك الأيام كان يقضي ساعات من المساء في مقهى مصري صغير مطل على شارع لوزان أيضا، كان وجها مألوفا به، تربطه علاقة ود مع صاحبه بل ومعظم رواده. هذا المسلك ذاته الذي يمزج الود بالوقار كان يمارسه أيضا في مقهى زهرة البستان بوسط القاهرة.

اتخذ الاستاذ جميل مقهى زهرة البستان مقرا له عند تواجده بالقاهرة، وبعد أن أنهيت مهمتي في جنيف عام 2002، كان مكان لقائنا عند زيارته للقاهرة. ونظرا لأن زيارته الرئيسية كل عام تكون في الشتاء للمشاركة في فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، كان الطقس في أمسيات المقهي يتسم بالبرودة، وكان يلتف حوله عددا وفيرا من الأدباء والمثقفين من أحبابه ومريديه، ملتمسين الدفء بين الصحبة الطيبة، والمشروبات الساخنة، وأنفاس الأرجيلة، والحوارات الصاخبة، والاستماع كل حين لقصيدة انتهى منها توا أحد الشعراء. وعندما كان يعجب بقصيدة أو قصة قصيرة كان يناولها لي، ويطلب أن أنقلها لزوجتي الدكتورة أماني أمين، مع توصيته بأن تنشر على موقعها منتدى الكتاب العربي.   

وكان في تلك الفترة أن صدر عمله الفاتن "شهرزاد على بحيرة جنيف" والذي تناول فيه ذات المشاغل التي تناولها في أعماله السابقة، لكن بشكل جديد تماما يجمع ما بين الأسطوري والفانتازي من جهة، وقضايا القرن الواحد والعشرين الأكثر إلحاحا من جهة أخرى، ورغم أنه تحدث كثيرا قبل ذلك عن رغبته في كسر الأنماط والخوض في مغامرة أدبية جديدة، إلا أن الكتاب فاجأني من فرط جرأته ونطاق ابتكاره، وهو أمر لم أكن أتوقعه من أديب يسير في العقد الثامن من عمره، وحقق مكانة وإنجازا كان يمكنه الاتكاء عليهما وتجنب مثل هذه المخاطرة. قدم بذلك الأستاذ جميل نموذجا عمليا على أن الإبداع لا يعرف الحدود الجغرافية أو العمرية. 

رحل صديقي جميل عطية إبراهيم عن عالمنا في إبريل 2020، وكان إنسانا يتنفس الأدب، وأديبا يفيض كرما وعطاء، ومواطنا عالميا مشغولا بقضايا الإنسانية الكبرى، ومصريا حتى النخاع. رحمه الله وأسكنه جناته، وعزاؤنا أن أعماله باقية بيننا ما بقيت لأمتنا روح وعقل وذاكرة.