جابربيل جارثيا ماركيز يعيش ويحكى

بقلم: محمد رفاعى

هل يختلف الحال حين يكتب الروائى العالمى «جابربيل جارثيا ماركيز» الحاصل على نوبل 1982، حين يقوم بكتابة مذكراته الشخصية وبين أن يكتب نصاً إبداعياً، ماركيز لم يكن معروفاً. إنه يميل إلى الكتابة الذاتية، ويعلن دائماً بأن أعماله الأدبية هى إعادة لكتابة الحياة التى عاشها، بشكل خاص ذكرياته خلال الطفولة التى عاشها فى بيت جده «الكولونيل» السابق فى الحرب الأهلية. ولكن حين وقف أمام الجمهور فى مهرجان كبير فى المكسيك، قبل عدة سنوات ليقرأ صفحات كتبها عن حياته الذاتية، اكتشف أنها عقدت ألسنة الحاضرين، وكانت الكتابة التى كتبها «ماركيز» عبارة عن ذكرياته وقت أن كتب روايته التاريخية «الجنرال فى مصيدته» وكانت تلك الرواية وليدة لمذكرات قرأها الكاتب، ولكنه أعلن أن هذه الكتابة التى اعتبرها البعض مذكرات شخصية ليست سوى بعض الكتابات التى قرر فيها أن يسجل أشياء خاصة بحياته حسب تركيبها التاريخى.

والجزء الأول الذى بدأ به «جابرييل ماركيز» مذكراته يقص جزءاً مهماً من حياته وتكوينه الثقافى العام، منذ أن قرر أن يمتهن الكتابة حتى توقف عندما كان فى الثالثة والعشرين من عمره، وهذا الجزء من المذكرات حمل عناوين كثيرة منذ بدء التفكير فى الكتابة حتى انتهى به إلى عنوان «أن تعيش لتحكى» وظل سراً طوال أكثر من ثلاثة عشر عاماً، لم يصرح بأنه يريد أن يقص شيئاً ما مر به، لكن بعد نجاح قراءة «فصل من المذكرات» خرج من صمته ليصرح، لكن كان عليه أن ينفصل عن تاريخه الروائى المعروف وليبدأ من جديد عملية تعلم الكتابة حتى يستطيع أن يجد الشكل الفنى المناسب والمقبول لتلك المذكرات لتصل رسالته إلى القارئ ولأن كتابة المذكرات تحتاج إلى شكل خاص من النثر الفنى لا تصلح معها الكتابة التى اعتاد ممارستها فى أعماله السابقة، ومنذ أن قرر كتابة المذكرات ظل يعيش بأحاسيس طفولية وفترات شبابه الأولى، هى أحاسيسه التى كانت تواجهه تلك الفترة وتلتقى به أينما ولى وجهه ، وكان إحساسه يتضاعف بأهميه كتابة هذه المذكرات، عندما كان غارقاً فى كتابة رواية «الجنرال فى مصيدته» التى اعتمد فيها على تاريخ الجنرال «سيمون بوليفار». كان يخرج من عملية الكتابة الروائية فى بعض الأحيان ليسجل نقاطاً يحتاجها فى كتابة مذكراته الشخصية التى كانت تلح عليه.

خلال كتابة هذا الجزء الذى وصل إلى ما يزيد على تسعمائة صفحة، هو بلا شك سيجعل عملية القراءة أمراً صعباً، ثم جاءت المعاناة مع الحذف وإعادة الصياغة التى بدأت عام 2000 لتنتهى بعد عامين تقريباً، حذف ما يقرب من ثلاثمائة صفحة، وصدرت فى طبعة من مليون نسخة تم تقديمها فى كل من «برشلونة» و«بوجوتا» «بيونس آيرس» و«مكسيكو» فى وقت واحد، لتكون أضخم طبعة لكتاب فى التاريخ.

ولا يعرف أحد ولا الكاتب نفسه - كما يقول المترجم عدد الأجزاء التى ستصدر لاحقاً لاستكمال المذكرات، ولكن دار النشر أعلنت أن لديها جزئين آخرين تعدهما للنشر فى وقت لاحق، ويقول البعض إنه ربما يصل عدد أجزاء هذه المذكرات إلى ثمانية أو تسعة أجزاء ، نظراً لشخصية الكاتب التى عاشت أحداثاً جساماً ، ممارسة الصحافة وتعدد مواهبه التى تنقلت به بين الريبورتاج الصحفى والقصة القصيرة والرواية والسيناريو.

وعن هذه المذكرات يقول صديقه الحميم الكاتب الكولومبى والمقيم فى العاصمة المكسيكية «ألفادو موتيس» أحد أكبر شعراء وروائيى كولومبيا المعاصرين الذى قرأ المذكرات فى المخطوطة التى لم ينجح ماركيز فى إخفائها عنه، وقرأها خلال ثمانية أيام متتالية حيث كان يقرأ فصلاً كل يومين ليعلن بعدها «أن الكتاب ليس فقط مذكرات شخص عاش وخبر الحياة إنما هو كتاب يمكن التعامل معه على أنه أحد الكتب المرجعية المهمة فى تاريخ الأدب العالمى.

عبر ثمانية فصول يسرد «ماركيز» جزءاً من دقائق / تفاصيل حياته يقرأ واقعه الذى صنع أسطورته ومجده، يبدأ من القمة أو النقطة أو جزء من حياته قد قرر دون تردد التفرغ الكامل للكتابة والقراءة، ثم يغوص فى تفاصيل طفولته ومكوناته الثقافية، والسيرة هناك وقائع مسرودة من عدة زوايا ويتداخل فيها الزمان والمكان.

فى الفصل الأول : طلبت والدة «ماركيز» التى وصلت من قريتها البعيدة التى تعيش فيها مع أسرتها، عثرت عليه وسط الكتب فى إحدى المكتبات العامة، قد دلوها عليه وحذروها من التعامل مع أمثاله من الأدباء كان «ماركيز» فى الثالثة والعشرين، ترك دراسة القانون بعد ستة أشهر من التحاقه بكلية الحقوق، أصبح هارباً من المعاملة العسكرية، قرر التفرع تماما للقراءة والكتابة حفظ عن ظهر قلب أشعار القصر الذهبى الإسبانى، وقرأ جميع الكتب المؤلفة والمترجمة عن تعلم فن كتابة الرواية ونشر أربع قصص فى ملحقات الصحف، لفت انتباه بعض النقاد ويدخن ستين سيجارة ويعيش على القليل الذى تمنحه له الصحف نظير كتابة الأخبار أو كتابة الافتتاحية عندما يغيب محررها، وينام فى أى مكان يكون فيه عندما يجن الليل.

قالت له والدته : «جئت أطلب منك جميلاً أن ترافقنى لبيع البيت» ولم تقل له أى بيت . إن لهم بيتاً وحيداً هو بيت الأجداد فى «أراكاتاكا» الذى ولد فيه ماركيز وخرج منه بلا عودة حين بلغ الثامنة، ويعترف ماركيز وقد بلغ السبعين ربيعاً، أن هذه الرحلة كانت القرار الأهم من القرارات التى أخذها طوال حياته، لم يكن قد زار «أركاتاكا» منذ أربعة عشر عاماً، حين مات جده لأمه وأخذوه ليعيش مع والده فى «بارانكيا» خلال سنوات مراهقته كانت الذاكرة أكثر وعياً للمستقبل منه بالماضى، لم تكن ذكرياته فى القرية قد تمثلتها الذاكرة، كانت القرية فى نظره تعنى مكاناً طيباً للحياة، حيث كل الناس تعرف كل الناس.

كانت والدته قد أصابتها شيخوخة مبكرة، كانت فى الخامسة والأربعين، ألقت أحد عشر طفلا من رحمها إلى العالم، كانت ترتدى السواد الكامل حزناً على موت أمها. ولدت فى بيت متواضع وشبت على الحياة المرفهة لشركة الموز، وهو ما أتاح لها تعليماً رفيعاً، كانت تمارس فن التطريز فى أعياد الميلاد مع صديقاتها، وتعزف الأكورديون فى الحفلات الخيرية، كانت كل أمنياتها طول العمر والعافية لأبنائها.

كان ماركيز مقتنعاً تماماً بمقولة «برناردشو» التى تقول «منذ صغرى توقفت عن الذهاب إلى المدرسة» وحاول ممارسة الصحافة والأدب دون دراستهما، كان والد ماركيز لا يتقبل هذا الأمر ويعتبره نوعاً من الجنون، وكان يضع فى ماركيز الابن آمالاً فى الحصول على شهادة جامعية، لذا وصل الأمر بين الابن والأب إلى قطيعة كاملة لمدة عام على الأقل.

إن الذكريات تأتى له تباعاً دون تنسيق أو ترتيب، والرحلة القصيرة كانت كمفتاح كشف لماركيز عوالم كانت كامنة، حين رافق أمه إلى تلك الرحلة لبيع بيت الأجداد، فيتكشف له عالم آخر كسحر الأسطورة، بعد عشرين عاماً عادت الوقائع إلى ذاكرته فجأة عادت واضحة قوية كما لو حدثت للتو. من ضمن تلك الذكريات، ذكرى مرت عليه كأسطورة طفولية كان جده «الكولونيل نيكولاس ريكاردو ماركيز» الذى ترك مؤثرات إيجابية على شخصية الكاتب. حين كان ماركيز فى الخامسة صحبه جده عدة مرات فى رحلة إلى النهر، قد تعرض الجد وهو فى النهر برجل يريد إلقاءه فى النهر، والقصة تلك حكاها ماركيز حين كبر لعمه، كان الجد قد رحل. كان عمه يحاول معرفة شخصية هذا الرجل الذى حاول قتل الجد. ويحاول فك لغز، لماذا لم يحاول الجد مقاومته، فهو - أى الجد - يجيد التصويب و،لا يترك سلاحه مطلقاً، وخاض حربين أهليتين، كان يقاتل فى الخطوط الأمامية، وفى وقت السلم قتل شخصاً دفاعاً عن نفسه.

وفى أثناء كتابة «ماركيز» روايته الأولى كان يقوم بجمع المعلومات الأولية عن أسرته، عرض عليه العم أن يقوما معا ببحث دقيق عن ملابسات واقعة الاعتداء على الجد، لم يتخل عن فكرة الانتقام مطلقاً، وفى آخر مرة رآه فيها ماركيز كان قد بلغ أرذل العمر وقلبه مريض، ودعه بابتسامة حزينة قائلاً : «لا أفهم كيف استطعت أن تكون كاتباً بتلك الذاكرة السيئة» وفى واقعة أخرى : المذبحة التى حدثت عام 1928، قتل الجيش عدداً غير معلوم من عمال الموز ولكن ماركيز تناولها بشكل مختلف لأن قدرة ماركيز على تصوير بعض الأشياء كما لو كانت قد حدثت فعلاً وعاشها المؤلف نفسه، هذا فى رأيه سبب الكثير من الاختلاط فى الذاكرة، فالمذبحة التى وقعت فى محطة «أركاتاكا» كان عدد الضحايا فيها كما قالت والدته سبعة قتلى ثم نبهته ألا يأخذ الرقم على أنه مؤكد، لأنها سمعت ان عدد الضحايا يتعدى المائة ثم بدأ العدد يتناقص شيئاً فشيئاً، لم يعد فى الذاكرة أى شىء قابل للحقيقة سوى الجنود يطلقون النار من على سطح القطار والمشهد كان فقيراً مقارنة بالمشهد البطولى الذى تخيله سارد السيرة، الذى تحدث مع شهود عيان مازالوا على قيد الحياة واطلع على قصاصات الصحف والوثائق الرسمية، فتأكد أن الحقيقة مخالفة تماما لكل الروايات. البعض يقول إنه لا يوجد أى قتيل، من كان يعارض الحكومة أكدوا أن القتلى يتعدون المائة وأنهم شاهدوهم بأنفسهم ينزفون فى الساحة وأنهم حملوهم فى القطار لإلقاء جثثهم فى البحر كما لو كانوا يلقون موزاً عفناً.

هنا ضاعت الحقيقة بين المتناقضين. ولكن ماركيز فى إحدى رواياته أشار الى المذبحة بكل التفاصيل الدقيقة التى تخيلها من خلال ذاكرة كاذبة - كما يقول - حيث رفع عدد الضحايا إلى ثلاثة آلاف قتيل، لكى يحافظ على قيمة الأرقام الدرامية، ولكن الحياة الواقعية لم تترك للمبدع فرصة لتقدم له اعترافاً بعبقريته، ففى حفل إحياء الذكرى السنوية للمذبحة، حيث طلب المتحدث من الحاضرين الوقوف دقيقة حداداً على أرواح ثلاثة آلاف قتيل مجهولين من ضحايا المذبحة الذين قتلتهم القوات كانت المنطقة التى ولد فيها ماركيز وعاد اليها شاباً، لم يكن من السهل التفرقة بين القرية والأخرى وبعد عشرين عاماً أخرى يبدو الأمر أكثر صعوبة، لأن العلامات الدالة على أسماء المحطات قد تساقطت، هذا رسخ فى اعتقاد ماركيز أنه يصحب أمه، إنه يسير إلى مسقط رأسه فى اتجاه غير محدد ولكنه محكوم بالحنين إلى المنطقة التى ولد فيها وتحصن خلف ذوقه الخاص ومعتقداته وأحكامه على العالم، تلك كانت المفارقة فى المكان الذى يشبه الجزيرة التى أنجبت ثقافة ساكنة لها شخصية الأقدمين، لم تكن مكاناً فقط، وكان بيت الجد يمثل قرية متكاملة.

ولبيت الجد مكان حميم فى حياة ماركيز، البيت كأنه قرية متكاملة، الجد / الكولونيل يجلس على رأس المائدة والأماكن الأخرى يجلس عليها رجال العائلة ويأتى بعد ذلك النساء، وتظل مائدة الغذاء ممتدة حتى يأكل الجميع، أما فى الليل فلا تستخدم المائدة، يتم توزيع فناجين كبيرة من القهوة بالحليب من المطبخ مباشرة، ومعها الحلوى التى تصنعها الجدة، وللجدة دور آخر مهم حيث كانت تسجل أسماء من ولد فى كتيب صغير منذ اللحظة التى تعلم فيها بميلادها، تسجلهم بشكل معقد ومنتظم ينتهى بضمهم إلى تعداد العائلة.

وهناك ذكرى لها أهميتها فى تشكيل ماركيز العقلى، هى عملية ولادة «ماتيلدى أرمنتا» الغسالة التى كانت تعمل فى بيت العائلة، عندما كان ماركيز فى السادسة من عمره، دخل غرفة هذه الغسالة خطأ فوجدها عارية وملقاة على السرير، كانت تعوى من الألم بين جماعة من النسوة يحطن بها بشكل عشوائى، أحطن بجسدها لمساعدتها فى عملية الولادة، واحدة تمسح العرق عن وجهها بمنشفة مبللة وأخريات يمسكن بذراعيها وساقيها بقوة ويدلكن بطنها لتسهيل الولادة، كانت هنالك امرأة تجلس هادئة وسط هذه الفوضى، تبتهل بالأدعية بعينين مغمضتين.

ويبرهن «ماركيز» على أن حياته بين الخادمات ربما هو الخيط السرى الذى ربط تواصله بالنساء، جعله بقية حياته يشعر بالراحة والسكينة بينهن فى اعتقاده أن هؤلاء النسوة يحافظن على العالم بينما الرجال يغرقونه فى الفوضى.

من النساء اللواتى صنعن مستقبل ماركيز «سارا ماركيز» ذلك دون ان تعرف، كانت محاطة بالعديد من المعجبين، ولم تكن تعنى بإلقاء نظرة عليهم، ومنحت قلبها لرجل اعتقدت أنه يستحقه، ولأنه كان يشترك مع والد يملك مصدر دخل معروف ويمر وقت طويل حتى عرفته الأسرة إنه يكتب قصائد وينشرها فى مجلة ثقافية خاصة، كانت تصدر حسب التساهيل، كان أول كاتب يتعرف عليه «ماركيز» فى حياته، وفى تلك اللحظة قرر أن يصبح كاتباً مثله.

فى محيط أسرة «ماركيز» لعب الأعمام دوراً أساسياً فى تكوينه الثقافى.

العم «أستيفان كاريو» الخبير فى فنون الأعمال اليدوية يسافر بصندوق يحتوى على أدوات إصلاح أى شىء معطل فى البيوت التى يزورها ويميل إلى الفكاهة وذاكرته حادة وقوية، هو الذى ساعد «ماركيز» على استكمال الكثير من الفراغات فى تاريخ العائلة، قد التقى الكاتب كثيراً بالعم «نيكولاس» الأشقر الملىء بالبقع الملونة والذى حافظ على سمعته كأفضل بائع فى المنطقة القديمة، كان معجباً «بماركيز» كشخص لا أمل يرجى منه، كان دائما يودع الكاتب بكيس ملىء بأشياء مفيدة ليواصل به رحلته، وعم آخر كان يصل من رحلات سريعة على ظهر بغلة بملابس الركوب، ولا يكاد يبقى حتى يحتسى القهوة واقفاً على قدميه فى المطبخ، وهناك آخرون التقى بهم الكاتب مبعثرون، خلال رحلات الحنين التى قام بها فى قرى المقاطعة كعلامة دالة على استعادة الهوية، والعم الوحيد كما يقول «السادر» الذى له شهرة من بين أعمامه جميعا، الوحيد الذى كان محافظاً فكرياً ووصل إلى عضوية مجلس الشيوخ فى جمهورية حرب الألف يوم وحضر توقيع استسلام الليبراليين فى مواجهته كان أبوه يقف بين المهزومين.

وكانت بين ماركيز وجدته إشارات سرية، جعلها تتواصل مع عالمها الخفى، عالمها السحرى الذى يدهش ماركيز نهاراً ويرعبه ليلاً، كان ماركيز يعانى التعذيب اليومى عند قيام الجدة بتنظيف أسنانه بينما كان «ماركيز يعتقد أن الجدة تمتلك قدرات سحرية تجعلها تنزع أسنانها وتنظفها خارج الفم وتركها فى الماء.

والجد «نيكولاس ماركيز» كان له دور مهم فى تشكيل وجدان ماركيز، كان يشكل أمنه المطلق، فى حضوره يختفى القلق ويشعر ماركيز بأن قدميه واقفتان على أرض الحياة الواقعية، كان ماركيز الحفيد يرغب فى أن يكون مثل، ماركيز الجد فهو واقعى وشجاع، فلم يقاوم ماركيز يوماً حب الاستطلاع لاكتشاف تاريخ وحياة الجد، كان ربعة، ودموياً، ومتفاهماً ومتصالحاً مع الزمن المسالم ولكن أصدقاءه المحافظين يتذكرونه كعدو مخيف فى زمن الحرب، لم يكن الجد يرتدى زياً عسكرياً أبداً، لأن درجته كانت ثورية، لم تكن أكاديمية إلا أنه ظل وقتاً طويلاً بعد الحرب يرتدى زى المقاتلين الثوار، كان زياً يستخدمه كل قدامى المحاربين ، عندما تم توقيع قانون المعاشات للعسكريين قدم بياناته وأوراقه الرسمية ليحصل على معاش، ظل مع الجدة والأحفاد ينتظرون هذا المعاش، حتى بعد وفاته، وكانت الجدة التى ماتت هى الأخرى بعده : تقول فى لحظات وعيها الأخيرة «سأموت مطمئنة لأننى أعرف أنكم ستحصلون على معاش نيكولاس» وكانت هذه أول مرة يسمع فيها «ماركيز» تلك الكلمات التى زرعت الأمل الأبدى فى الأسرة، كان المعاش طبقاً لأقل الحسابات كافياً لأحفاده حتى الجيل التالى، ظلت الجدة تقول: «لا تقلقوا قيمة المعاش ستكفى الجميع» .

والجد الذى خاض حرب «الألف يوم» هو الذى نقل «جابرييل ماركيز» إلى طور الرجولة من خلال حكاياته عن المعارك الحربية الدموية وشروحه المدرسية حول الطيور وبرق الأمسيات وشجعه على ممارسة تنمية موهبة الرسم وكان «ماركيز» فى البداية يرسم على الجدران، إلى أن أعلن نساء العائلة الانزعاج، وقد كانت الجدران هى أوراق الرسم التى يمارس عليها ماركيز هوايته، فغضب الجد وأمر بطلاء جدران غرفة الأشغال اليدوية باللون الأبيض واشترى أقلاماً ملونة وبعدها اشترى أيضاً علب ألوان مائية، كان الجد سعيداً ومتحمساً معتقداً أن حفيده سيكون رساماً، إلا أن ماركيز كان يعتقد أن الرسامين هم من يدهنون الجدران.

من عرفوا ماركيز وهو فى الرابعة، كانوا يأكدون أنه كان شاحباً وشارد الذهن، ما إن يفتح فمه حتى يقول أشياء مزعجة، لأن قصصه فى ذلك الوقت لم تكن سوى مقاطع من الحياة، كان يجعلها أكثر جاذبية بإضافة تفصيلات متخيلة ليلفت نظر الكبار، ولم تكن محاوراته معهم أفضل مصادر تخيلاته وكان الكبار يعتقدون أنه لا يفهم ما يقال وما يحدث حوله، وهناك أشياء كانوا يلغزونها عن قصد حتى لا يفهمها، بينما هو - ماركيز- يمتصها كالإسفنج ويعيد تفكيكها قطعة قطعة، وحين يقصها على من قصوها من قبل يصابون بالدهشة؛ ماركيز كان قليل الأكل دائمًا يرمش بعينيه كثيراً والأشياء التى كان يقولها يعتبرونها فى العائلة أكاذيب كبرى دون أن يفكروا أنها كانت صحيحة فى كثير من تفصيلاتها، وعلم بعد ذلك بسنوات بأن أحد الاطباء فى العائلة وكان الوحيد المدافع عنه إذ قدم برهاناً بأن هناك أسباباً علمية، تثبت أن أكاذيب الأطفال علامة على موهبة كبيرة.

دائما يحول ماركيز مفردات الحياة اليومية التى عاشها فى طفولية إلى عالم من الخرافات والأسطورة والسحر، الجدة التى تخرج أسنانها خارج فمها لتقوم بعملية التنظيف، هو لم يستطع التغلب مطلقاً على الخوف من بقائه بمفرده فى الظلام، كان يعتقد أن هذا الخوف له أصل محدد، لأن تعيش فى الليل تخيلات ممتزجه بتشاؤمات الجدة، ما يزال فى السبعين يرى فى الحلم اشتعال روائح الياسمين فى الممرات ويرى أشباح الغرف الفارقة فى الظلام، مختلطة دائماً بالأحاسيس التى كانت تغرق طفولته.. ويعترف ماركيز الآن خلال أرقى المرافق فى رحلاته حول العالم، بأنه يتحمل وزر ذلك البيت الأسطورى فى عالم سعيد تموت فيه يوماً.

هذا الكتاب يتحدى العرض الموجز، ويستعصى الاختزال، هو آلاف الحكايات القصيرة وسجل حافل بشخصيات مرت فى تاريخ الكاتب وعائلته ومنطقته، ليس هناك حدث مهم تستطيع أن تغفله، الكتاب مجموعة من تفاصيل دقيقة، بل متناهية فى الصغر، هى إحدى سمات الواقعية السحرية التى برز بها ماركيز الذى يكشف عن رؤية وقدرة فائقة، فى كلمة دالة صدرها مقدمة سيرته يصف فيها الحياة «ليست ماعاشها الواحد منا، بل ما يتذكرها، وكيف يتذكرها، ليحكيها»، فذاكرة ماركيز عين ترصد، وعقل يختزن، ورؤية تتوغل فى العمق، جزئيات فوق جزئيات يبنى عالماً شديد التماسك، هو أحد مقومات عبقرية كاتب فى حجم «ماركيز».

«أن تعيش لتحكى» الذى نشر بعض فصوله فى الصحف، كان نوعاً من الرد على من أشاعوا خطورة مرضه، قبل الكتابة كان يقوم بنشاط سياسى ملحوظ فى محاولة للبحث عن وسيلة يعيد الهدوء والسكينة لبلاده التى لا تزال تعيش أقدم حرب أهلية عرفها العالم.

جابرييل ماركيز الكاتب الكولومبى الرائع، ولد عام 1982 ونال نوبل عام 1982 والمعروف لدى قرائه العرب بـ «مائة عام من العزلة»، و «الحب فى زمن الكوليرا» و «الجنرال فى متاهة» من أهم الأصوات فى العالم التى أدانت الكيان الصهيونى، وذهب إلى الأرض العربية المحتلة، وأعلن وقوفه مع الشعب الفلسطينى البطل، الذى يتعرض لحرب إبادة قذرة أمام أعين العالم.

قام بترجمته الشاعر والناقد «طلعت شاهين» هو كاتب متخصص فى شئون إسبانيا وأمريكا اللاتينية، حصل عام 1993 على درجة الدكتوراه من جامعة كوملتنسى بمدريد عن أطروحته: النار والماء فى الاحتفالات الشعبية فى بورسعيد، من أهم دواوينه الشعرية «أبجدية العشق» و «كتاب العشق والدم» الذى صدر باللغتين العربية والإسبانية.

طلعت شاهين مترجم يحسن اختيار ما يترجمه، وحين يترجم ينقل لك روح وعبق النص وكأن النص كتب بالعربية.

من أهم ترجماته الرائعه «المطر الأصفر» لخوليو ياماثاريس، «دفاتر العنف المقدس» لخوان جويتبسولو، والشعر النسائى فى أمريكا اللاتينية مختارات، وجيل ما بعد الحرب فى الشعر الإسبانى المعاصر.