جئت بكِ الى الوجود لتزيدى عدد النساء الأحرار

قالت أمى نوال : " جئت بكِ الى الوجود لتزيدى عدد النساء الأحرار "

    الى كل مجتمع ، يظن ، أو حتى يخطر فى حلم من أحلامه ، أنه يستطيع بأدواته ، وخبرته التاريخية ، وموروثاته ، والنخبة التى ترقص من حوله ، واعلامه ، وثقافته ، وتشريعاته ، ومقررات تعليمه ، وأكاذيبه المغلفة بأسماء براقة ، أن يخنق الحرية ، أقول ، لن تستطيع .
     الى كل مجتمع ، يعتقد أن نجاحه فى خنق الحرية ، قد أتى ثماره ، لبعض الوقت ، نتيجة جهل الغالبية نساء ورجال ، أو خوفهم ، أو عجزهم ، أو لامبالاتهم ، أقول ، لا تبتهج ، فالمسألة مسألة وقت ، حتى تنفضح أدوات قهرك ، ويفيق الناس من خداعك ، وخيانتك .
      الى كل مجتمع ، يمارس العقوبات الجنائية ، والمعنوية ، والنبذ الاجتماعى ، والثقافى ، والاعلامى ، والأدبى ، ضد النساء والرجال ، الذين يعبرون عن رأيهم المسالم  المختلف عن القطيع ، أقول ، أنك مجتمع تشعر بالخوف ، والعجز ، وفقدان الحجة المنطقية العادلة ، وتدرك مدى ضعف الأفكار والممارسات والقوانين والمنظومات والموروثات ، التى تدافع عنها ، وتجعلها سوطا على رقاب البشر ، وتعرف أن البساط بدأ يُشد من تحت قدميك .
    الى كل مجتمع ، ينغص على النساء ، والرجال ، والأطفال ، حياتهم ، يجند الأوصياء فى كل مجال ، يتسلط باسم الأديان على أكلنا ، وشربنا ، ونومنا ، وعواطفنا ، وزواجنا ، ولبسنا ، وحبنا للفن والجمال والبحر والشِعر ، والموسيقى ، والرقص ، والصداقة ، والفرح ، أقول ، أنت كاذب ، وكذبك أصبح مكشوفا ، فأنت تزعم أنك بممارساتك التزمتية القاهرة ، تحمى الأديان ، وتتجنب الفتن ، والفوضى . بينما الحقيقة ، أنت تحمى خزائن الثروة ، وأراضى النفوذ ، وأطيان الاستغلال . هذا بكل بساطة ، ويسر ، قصة الأمس ، وقصة اليوم . لكنها لن تكون قصة الغد .
    الى كل مجتمع ، يداعبه كابوس أن بقدرته ، مهما كان جبارا ، أن يغلق أبواب الحرية ، وأن يكتم على أنفاسها ، التى بدأت تشق طريقها ، أقول ، عاجلا ، أو آجلا ، مثلما حدث لمجتمعات أخرى ، سوف تذهب مع الريح ، وتصبح فى خبر كان ، بثرواتك ، وجرائمك ، وأوهامك .
   لو استطعت المشى فوق الماء ، أو الحرث فى البحر ، تستطيع اذن أن تخنق الحرية . هذه كلمتى لأى مجتمع ، مازال يعيش فى الوهم .
     ما هذه المجتمعات التى تريد جوارى ، وعبيدا ، وليس مواطنات ، ومواطنين أحرارا ،  رغم أنها تصدع أدمغتنا كل يوم ، ليل نهار ، بالمواطنة ؟. مجتمعات مريضة بالجشع والعُقد والاضطرابات ، لابد أن تعالج قبل أن تأخذ زمام الحكم .
    رغم أننى لا أميل كثيرا الى " المطلقات " ، الراسخة ،  وأتردد كثيرا قبل الحديث والدفاع عنها ، الا أن " الحرية " ، استثناء وحيد أتشبث به ، وليس يقلقنى جلوسها وحيدة على عرش المطلق الثابت فى حياتى .
                 فأنا أؤمن ب " الحرية " ، ايمانا مطلقا ، راسخا ، لا يشوبه شك ، أو تردد ، كما أؤمن بنفسى . بل أن ايمانى بالحرية ، ربما يكون الايمان الوحيد ، الذى يزداد يقينا ، وزهوا ، مع مرور الزمن . ويصبح مع ذبول كل الأشياء ، وردة فيحاء العبير ، أعلقها على صدرى ، وعلى خصلات شعرى .
        أؤمن ب " الحرية " ، ايمانى بأن " الانسان " ، أهم من الفلوس ، وأن " العدل " ، هو الذى يجعل النظام السياسى ، " جميلا " ، وأن " الثورة " ، هى التى تجعل الشعوب ، " نبيلة " ، وأن " شجاعة " القول ، والسلوك ، هى ما تجعل المرأة " شريفة " ،  وما يجعل الرجل " شريفا " .
      أؤمن ب " الحرية " ، مثلما أؤمن ، بأن الموسيقى ، سر من أسرار الكون . ومثلما  أؤمن بأن " الألم " ، هو أهم كتاب نقرأه ، لنتعلم كل ما هو ضرورى لمواجهة الحياة .
    ايمانى بالحرية ، مثل ايمانى ، كما قال " غاندى " ، بأن " الفقر " ، موجود ، لأننا نأخذ أكثر من احتياجنا .
       أؤمن ب " الحرية " ، مثل ايمانى أن " رق الحبيب " ، من ألحان " القصبجى " ، طفرة جينية فى تاريخ الألحان ، وأن الحضارة التى تقطع من أجساد ، وعقول النساء ، تحمل داخلها بذور الفناء ، ومثل ايمانى ، بأن " العمر" الحقيقى الذى نعيشه ، لا يرتبط بتاريخ الميلاد ، أو زحف التجاعيد .
           أؤمن ب " الحرية " ، كما أؤمن ، بأننا لا نستمتع بالحياة ، الا اذا تصالحنا مع " الموت " ..
       أؤمن بالحرية ، مثلما أؤمن باستحالة انتمائى لهذا العالم ، بكل أفكاره ، وأهدافه ، ومخاوفه ، وعقائده ، ودمويته ، وعنصريته ، وذكوريته ، وغروره ، وغطرسته ، وعنحهيته ، وحماقاته ، وعبثيته .
       ايمانى بالحرية ، كايمانى بأننى جئت الى الحياة ، من رحم " أم " ، لا تتكرر ، قالت لى أمى نوال  منذ طفولتى : " تكونين حرة أو تموتين " ... " " جئت بكِ الى الوجود لتزيدى عدد النساء الأحرار ".
          أرى " الحرية " ، مصيرا محتما ، علي البشرية ، مسيرة من الضياء ، لابد من السفر اليها . وهى لنا ، ب " المرصاد " ، تراقب ، وتسجل ، وتقرر ، وتخطط .  قد نتأخر .. قد نتعثر .. قد نتوه . لكن المسيرة محسومة  مسبقا ، لصالح " الحرية " .
ف " كل منْ عليها حر " .. و" كل نفس ذائقة الحرية " .. " وانا للحرية واننا اليها لراجعون وراجعات " .. " الحرية حق " .. " الحرية واجب " .. " الحرية قدر ".
      اذن التخلى عن الحرية ، ليس ضعفا ، أو يأسا ، أو انهزامية ، أو لامبالاة ، انما " خيانة " للحياة نفسها التى أوجدتنا ، وجعلتنا حراسا عليها.
ولابد من محاكمة وعقاب منْ ارتكب أى شئ ، يعوق الحرية ، فى حق نفسه ، وفى حق الآخرين ، وفى حق الحياة . والخيانة كما نعرف ، جريمة كبرى ، ان استشرت ، تصبح أخطر من الأوبئة .
        والسؤال ، من أين يأتى ، الشعب ، بحريته ؟ .
       بكل بساطة ، الشعب الحر ، يساوى مجموع ، نساء أحرار + رجال أحرار + أطفال أحرار .  
        حينما ننطق فى مجتمعاتنا ، بكلمة " الحرية " ، تنتفض ، وتتحفز ، وتتشنج ، و الاتهامات ، والادانات الأخلاقية .  
   نسأل أول ما نسأل : " يعنى ايه حرية "... " مافيش حرية مطلقة " .. " وايه حدود وسقف الحرية دى " .. " وعايزين الحرية دى ان شاء الله عشان تعملوا بيها ايه " .. " عايزين حرية انحلال زى الغرب الكافر " .. وغيرها  من الادانات الحمقاء التى ترادف بين " الحرية " وقلة الأدب ، وقلة الحياء ، وقلة رجاحة العقل ونظافة القلب .
       مع أن كل الادانات ، والتخوفات ، الأخلاقية ، لابد أن تنصب على " القهر " ، وليس على " الحرية " . وليس من المفروض ، وليس من الطبيعى ، أن نسأل عن حدود الحرية ، ولكن عن حدود القهر . والذى يخيفنا المفروض أن يكون القيود ، وليس التحرر .
       ومن تجاربى ، ومن تأمل صفحات التاريخ قديما ، وحديثا ، يتضح لنا أن أكثر الناس اتهاما للحرية ، وادانة للأحرار نساء ، ورجال ، هم أكثر الناس فسادا أخلاقيا .
هى من نتاج " أخلاق الحرية " .       كل فضيلة يمكن أن نتصورها ، وكل رذيلة ، يمكن أن نتوقعها ، هى ارث مباشر أو موروث من أخلاق القهر " . الحرية تصحح نفسها بالتجربة ، والمعرفة المتراكمة ، والشجاعة ، والتقدم ، والنور والجمال ، والحساسية للحقوق الأخلاقية للآخرين . وبالتالى تنتج " المناعة الأخلاقية " .   بينما القهر ، يعيد انتاج المزيد من الجهل ، والخوف ، والتأخر ، والظلام ، والقبح . وبالتالى يقود الى  الهشاشة الأخلاقية " .
     نقول " الموت علينا حق " ، وكذلك هى " الحرية علينا حق " . الحرية ، هى أول السطر ، وخاتمته .
     البشر يمرضون بالروح والجسد ، من " قلة الحرية " ، وليس من " قلة الفلوس " ، أو من " قلة الحب " ، أو من " قلة الصداقة " ، أو من " قلة الأهل ".
   وأنبل الثورات ، التى تتغلغل داخل النفوس ، هى الثورات من أجل " الحرية " ، وليس من أجل رغيف عيش ، وزجاجة زيت ، وكيس سكر .
     وأجمل ما غنى " عبد الوهاب " من تأليف " أحمد رامى " ، أغنية " أحب عيشة الحرية زى الطيور بين الأغصان " .
      ولو كان صحيحا ، ولا أعتقد ذلك ، أننا كلنا نحب الحرية ، يظل السؤال الأكبر الأهم المحير ، لكن " الحرية بتحب مين ؟ ".
    الحرية ، تحب منْ يحبها ، ويشتهيها ، ويسافر لها ليلا ، فى عز البرد ، والظلام ، والمجهول ، ودون حقائب ، دون ماء ، أو زاد ، أو صحبة .
     الحرية فى منتهى الكرم ، والتواضع ، لا تطلب شيئا ، الا أن نحبها ، حتى تمنحنا كل كنوزها ، وأسرارها .
    أغلب الناس ، لا يحبون الحرية ، اما أنه شئ فى الجينات الطبيعية ، أو أنهم استدمجوا القهر ، وتأقلموا معه ، ووجدوا فيه الأمان ، والراحة ،  الى درجة أنهم أصبحوا يكرهون الأحرار من النساء والرجال .
     ومعهم حق ، فالحرية ، خطر ، ومتعبة .
      قال فريدريك نيتشة ، 15 أكتوبر 1844 – 25 أغسطس 1900 ،
أحد الفلاسفة الذين أحبهم ، " عِش فى خطر " . وأعتقد أنه كان يقصد ضمن ما قصده ، " عِش فى حرية ".