أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي ضمن حوار شهر يونيو 2009

تعقيب على "حضارة السؤال وحضارة الجواب" بقلم علي محمد


استكمالا ً للرد او التعليق على الملاحظات التي وردت على كتابي،:" أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل " ، الذي اختاره "منتدى الكتاب العربي"، ليكون كتاب الشهر، في حزيران/يونية 2009 يسرني أن أرفق ردي على تعقيب الأستاذ علي محمد، وبذلك تتم ّ إجابتي على جميع الملاحظات.

وتفضلوا بقبول تقديري وشكري لجهودكم العظيمة في هذا المجال الثقافي المتميز.

علاء الدين الأعرجي
نيويورك، في 17/10/2009


1- لاشك أن الأستاذ علي محمد قدم دراسة تستحق الاهتمام تحت عنوان "حضارة السؤال وحضارة الجواب".
2- مع أن هذه الدراسة وضعت في تاريخ سابق على بحثنا (3/10/2004، كما هو واضح في تاريخها المدون فيها )، ولا تتعلق مباشرة بالكتاب موضوع البحث:"أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل"، غير أن وضعها، من جانب الباحث، في سياق التعليق على الكتاب يـَفترض وجود علاقة ما، بينها وبين هذاالكتاب.
3- ومع أننا نوافق على وجود هذه العلاقة غير المباشرة، على وجه العموم، غير أننا كنا نتوقع من كاتبها المحترم ان يجشم نفسه بعض العناء، لتوضيح أوجه الترابط ، حسب رأيه، ومدى توافق أو تعارض الأراء التي يطرحها مع اتجاهات الكتاب.
4- وكملاحظات عابرة على الدراسة؛ نحن نتفق مع كاتبها أن حضارتنا هي حضارة جواب وليست حضارة سؤال، ولكننا نرى ، بعين الوقت، أننا لا نمر الآن بدور حضاري أصلا، بقدر ما نمر بدور انحطاط على شتى المستويات. وبناء على ذلك فإنني أقترح أن يطلق على دراسته تعبير" ثقافة السؤال وثقافة الجواب"، علما أنني أميز بين الثقافة والحضارة، خلافا لعدد من الباحثين منهم تايلور وهانتغتون. فأنا أرى أن الثقافة تتعلق بسلوك وخصائص جميع الشعوب سواء المتخلفة أوالنامية أو المتقدمة، بينما يمكن أن نطلق تعبير "الحضارة" على المجتمعات المتحضرة أوالمتقدمة، القديمة أوالحديثة ( شرحت هذه النقطة في ص39من كتابي ). ويرى توينبي أن عدد الحضارات في التاريخ ، لا يتجاوز 21حضارة، من بين عدد لا يحصى من المجتمعات الأخرى.
5- ولإثبات مقولتي أننا نمر بدور انحطاط أشير إلى الفصل الأول، حيث وضعت 17 مؤشرا على هذا الإنحطاط الذي قد يؤدي إلى السقوط التدريجي أو الانقراض. وقد وضحنا ذلك بما فيه الكفاية. ومع ذلك، لايعني ذلك أن نستسلم إلى اليأس، إذ يوجد في هذه الأمة طاقات هائلة لو استغلت على نحو كاف ومدروس، لأمكن إنقاذ هذه الأمة من هذه الغمة. وقد بينت في كتابي هذا أننا يجب أن نتحول من الاعتماد على عقلنا المنفعل(ثقافة الجواب) الي محاولة استخدام عقلنا الفاعل(ثقافة السؤال)، مؤسس الحضارا ت ومنقذ الشعوب من التخلف والتبعية(انظر موضوع "العقل الفاعل المبدع ينشئ الحضارات " ص170 من الكتاب). كما أعتقد أن للمثقفين العرب في المهجر دورا كبيرا في حفزطاقات هذه الأمة. بل تقع عليهم مسؤولية كبرى في هذا المجال. وقد كنت قد اقترحت وفصّلت وكتبت الكثير(جمعت ورقة العمل وبعض المقالات في كتاب مخطوط)، حول تنظيم أكبر عدد من المثقفين في المهجر في مؤسسة ثقافية علمية موسوعية، تعمل على بحث وسائل دعم الوطن الأم في مختلف الميادين.
وللموضوع صلة طبعا، ولاسيما في الجزء الثاني للكتاب، إن شاء الله.
6- وعودة إلى "حضارة( ثقافة) السؤال وحضارة( ثقافة) الجواب"، أرى أن عنوان كتابي نفسه يشير إلى أننا نعاني من "ثقافة الجواب" كما أطلقت عليها في هذه المداخلة . فأزمة التطور الحضاري سببها في المقام الأول العقل المنفعل بالجواب الجاهز ، الذي لا يأتيه الباطل من أي جانب.
7- ونحن نفسر هذه الحالة بنظريتنا في " العقل المجتمعي"، بما أنها تحلل وتفسر البناء السوسيو – إبستمولوجي للعقل المجتمعي العربي، الذي تشكل تدريجيا، من تراكم الأحداث التاريخية وتفاعلا تها ديالكتيكيا، خلال الفترة المظلمة، بوجه خاص. وترتبط نظرية العقل المجتمعي بنظرية "العقل الفاعل والعقل المنفعل"، بوشائج عميقة، وكلتاهما إخذتا حيزا مهما من هذا الكتاب.
8- إن هذين النظريتين تفسران وتؤصلان لماذا أصبحت ثقافتنا وما تزال ثقافة جواب، لاسيما منذ أن دخل العرب والمسلمون في عصر الظلمات، منذ خمسة إلى سبعة قرون مضت.
9- إذا ً ، نحن حاولنا معالجة الموضوع، في كتابنا، من جذوره الأصلية العميقة. فالعقل المجتمعي هو سبب ظهور ثقافة الجواب، لدى الشعوب المتخلفة، التي تستخدم عقلها المنفعل، فتظل تتحرك وتراوح في مكانها. هذه الحركة يسميها الفقيه المعتزلي، إبراهيم بن سيار النظـّام، "حركة اعتماد"، ويمكن أن نطلق عليها بالتعبير الحديث "حركة استاتيكية". كما أنه ( أي العقل المجتمعي) سبب ظهور ثقافة السؤال، لدى الشعوب المتقدمة التي تستخدم عقلها الفاعل. فتظل تبحث وتنقب وتستكشف، فتـُنتج و تـُبدع، فتزداد تقدما، وتتكرر الدورة. وتسمى هذه الحركة حسب تعبير الفقيه النظـّام، "حركة نقلة"، لأنها تنقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى، في نظرنا. وبتعبيرنا "حركة ديناميكية".(انظر مخطط دورة العقل الفاعل ودورة العقل المنفعل بالتفاعل مع العقل المجتمعي، ص184 من الكتاب)
10- مع تقديري لدراسة الأستاذ علي محمد، فإنني أرى أن صياغتها الأدبية تطغى أحيانا على قيمتها العلمية، مما يفقدها قيمتها الفكرية والموضوعية، كما يجعلها غير مفهومة في عدد من المناسبات، لاسيما بالنسبة للقارئ العادي .
11- ومن جهة أخرى، أعجبني بعض تحليلات الكاتب وملاحظاته الذكية، ومنها:
- فهو يقول مثلا أن "الكون برمته يتأثر بحركة جناح فراشة." فبالإضافة إلى الصورة الأدبية والفنية الجميلة التي يخلقها هذا التعبير، قد تكون هذه ا المقولة صحيحة من الناحية العلمية، باعتبار أن كل شيء يحدث في الكون، يتأثر بكل شيء، مهما كان تافها في نظرنا. فالأحداث متفاعلة ومتكاملة، متجاذبة ومتنافرة، متصارعة ومتضارعة. وأترك للعلماء القرار النهائي. ويمكن ربط هذه المقولة بمقولته التالية:

12- "عندما تنطلق أية عملية فيزيائية، ينطلق وفي نفس اللحظة كابح لها ينمو بنموها . كما أن آثار الفعل لا تتلاشى بانتهاء الحدث، بل أنهما معا يشكلان إضافة للزمكان. وبناء عليه وعلى غيره ستسحب الفيزياء في المستقبل اعترافها باللانهاية وبكل مرجعية مطلقة".

ولكنني لا أجد تناقضا مع اعتراف الفيزياء باللانهاية، بل بالعكس ؛ فاللانهاية قد تنسجم أكثر، مع رأيه في الكبح المصاحب لكل عملية فيزيائية، بحيث تستمر هذه العمليات إلى ما لا نهاية. أما سحب الفيزياء للمرجعية المطلقة، فهذا وارد.

13- وأخيرا أشير إلى هذه المقولة المعروفة عن نظرية النسبية، وتعليقي عليها ، يقول :
- "وفي إسهام آخر يحرر أينشتاين مساحة جديدة من الوعي البشري لصالح اللامركزية؛ حيث سيصف بضعة مراقبين لحدث ما، ومن مواقع رصد مختلفة له، سيصف كل منهم الحدث ببيانات تختلف عن بيانات الآخر، ولن يكون أحدهم أقرب إلى الحقيقة من سواه".
وأعلق عليها كما يلي:
على الصعيد الأجتماعي، يقصد الناقد بذلك، أن الآراء المختلفة بِشأن نفس القضية، أمر طبيعي جدا، وهذا قياس معقول ومقنع، لاسيما لانه ربطه بحقيقة علمية . ولكن العقل المجتمعي السائد والمتخلف، في مجتمعنا العربي الإسلامي، لا يقبل هذا الطرح. بل عقلنا خاضع في الأغلب الأعم، للرأي الواحد: رأي الزعيم الأوحد، أو خاضع للقيم والمسلمات التي يفرضها العقل المجتمعي نفسه، على أفراد الوحدة المجتمعية، وأكثرها مسلمات موروثة، تمتد جذورها إلى عصور سحيقة أحيانا. فالقتل غسلا للعار مُسلمة قابعة ومتجذرة في العقل المجتمعي، وتعود جذورها إلى العصر الجاهلي، حين كان وأد البنات متبعا. فحَرَمَه الإسلام،"وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت. . .." ومع ذلك ظلت آثاره باقية، بل تطورت وتكيفت إلى معاقبة المرأة بالقتل من جانب الأسرة حتى عند الشُبهة، مع ان الإسلام تشدد عمدا وحقا في إثبات واقعة الزنى، أكثر من إثبات أية جريمة أخرى. وقد قـُتل ظلما وصبرا آلاف الضحايا من الفتيات بعمر الزهور، اللواتي ثبتت براءتهن بعد فوات الأوان. وهذه إحدى المسلمات الكثيرة التي يفرضها العقل المجتمعي والتي لا تقبل النقاش، حتى من معظم رجال الدين الصامتين، الذين يخضعون هم أنفسهم لأوامر ونواهي العقل المجتمعي، التي ترقى حتى على قواعد الدين.
14- لماذا علقت، في هذه الفقرات الأخيرة، على بحث الأستاذ علي محمد؟ مع أنني لست مطالبا بذلك. ربما لأنني أحرص على التعبير عن تقديري للفكرة التي تستحق التقدير، كاعتراف بفضل صاحبها ، بقدر حرصي على نقدي للفكرة التي تستحق الرد وربما التعديل والتفنيد، ليس من باب المعارضة والتنديد، ولكن من باب الكشف عن نقاط قوتها وضعفها، أو تناقضها مع الواقع، اوغير ذلك .
ونكتفي بهذا القدر.
علاء الدين الأعرجي