تعددية اللغة في رواية يناديها روح

الكتاب: يناديها روج 
المؤلف: نها عاصم
الناشر: دار غراب 2022
بإصرار جدير بالتقدير تواصل نهى عاصم إصدار أعمالها الأدبية التي تجمع بين القصة القصيرة والرواية وأدب المقالة، وكانت قد أصدرت عن دار أطلس  ثلاث قصص في ثلاثة كتب جماعية  بعنوان : حواديت للبنات، كما أصدرت عن دار همسة مجموعتها القصصية : سمية والقمر، ثم تتابعت إصداراتها ومنها رواية أمل حياتي، ورواية رسائل نادية، والمجموعة القصصية الإلكترونية: هزمتني زوجتي، كما خاضت تجربة الكتابة  في أدب الطفل وذلك في مجموعة أصدرتها بعنوان : " حواديت يا ولاد" ، ثم توجت هذه الإصدارات بروايتها : يناديها روح التي صدرت عام 2022م عن دارغراب للنشر والتوزيع.
     وهذا الإنتاج الأدبي المتنوع أكسبها دربة في تقديم شخصياتها ؛ فهي لا تلجأ إلى التقديم المجاني لأبعاد الشخصية، ولكنها تتخير من أبعادها بُعْدًا بعينه ترى أنه الأجدر بأن يقدم، بل إنها تنتقي من هذا البعد أو ذاك ملمحا بعينه أو عددا من الملامح لا كل الملامح، وتحرص على التلاؤم بين هذا الملمح أو تلك الملامح وبين أفعال وأقوال شخصياتها.
     يناديها روح رواية تقع في زهاء مائتي صفحة من القطع الصغير، مقسمة إلى اثنين وخمسين مقطعا، لكل مقطع رقم حسابي، يتصدرها إهداء إلى خال الكاتبة: الأستاذ محمد سامي؛ وذلك من قبيل اعترافها بفضله، بل إن وفاءها له جعلها تطلق اسمه على بطل الرواية وسارد أحداثها والمؤثر الأكبر في حركة الشخصيات والأزمنة ومجرى الأحداث.
     تتباين شخصيات الرواية أعمارا وذكورة وأنوثة وحظوظا من العلم، كما تتباين انتماءاتها الفكرية وهواجسها وأحلامها؛ فإلى جانب محمد سامي الذي بدأ يساريا ثم تحول عن اليسار لينضم في الجامعة إلى تيار ديني، ثم لم يلبث أن هاجر إلى أمريكا ليصبح روائيا وطبيبا متخصصا في التجميل تجاوزت شهرته أمريكا إلى غيرها من بلاد العالم، نجد ابنه عمر الذي يدمن القراءة  ويتطلع إلى إكمال دراساته العليا في إيطاليا، كما نجد هالة المثقفة الجامعية التي تعاني من نوبات صداع بعد أن اضطرت إلى طلب الطلاق من زوجها، ونجد أبا هالة المسكون بالخوف مما ينشأ عن زواج الأقارب من الإعاقات والذي بعثته مخاوفه على رفض زواج هالة من ابن عمها محمد سامي ، ونجد ندى ابنة هالة التي تحجب وجهها خلف نقاب وترى أن أباها " يحتاج إلى من يقومه"، إلى غير ذلك من الشخصيات ذات المشارب المتنوعة.
     إزاء تنوع الشخصيات لم يكن بد من أن تتنوع لغة الرواية  وتنفتح على نصوص تتعدد مراجعها؛ منها المقدس كالآيات القرآنية التي جرت بها ألسنة محمد سامي وهالة وغيرهما من الشخصيات، ومنها البشري ؛ كأقوال خالد محمد خالد وسعد زغلول وأشعار أمل دنقل وأبي العلاء، هذا إلى الأغاني وأمثال العوام.  
     أما لغة السرد فإن الفصحى المعاصرة هي الأكثر حضورا، ولا عجب؛ فإن محمد سامي الذي قام بأعباء السرد وبدور البطل، كان أديبا له بالعربية صلة وثيقة، وها هو يصف غرفة المعيشة وصفا يجمع بين دقة الكلمة وسلاسة التعبير بالفصحى المعاصرة؛ يقول: " في إحدى الأمسيات، جلست مع عمي وهالة في غرفة المعيشة التي عشقتها منذ الطفولة؛ إذ كانت مزيجا جميلا من أثاث يعود لعدة أجيال؛ مكتبة جدي، أريكة جدتي الاسطنبولي، ماكينة خياطة خالتي، وتلفاز ضخم حديث يضفي على الغرفة تناقضا كبيرا" ( الرواية، ص70).
     وإلى جانب الفصحى المعاصرة نجد قليلا من الألفاظ العامية والمعربة التي تهجن بها نهى عاصم  لغة السرد، والتي لا حيلة للسارد فيها؛ وذلك مثل( المقروطة/ الميكرويف/الموبايل/ التاب/ السنومان" انظر على الترتيب الرواية  ص 15، 20، 83،  139). ومثل هذه الألفاظ لا تشكل أدنى تهديد للفصحى؛ لأن اللغات الحية لابد أن تقترض من بعضها، وهذه مسألة عرفتها العربية في أزهى عصورها؛ إذ تحل في شعر الأعشى والنابغة الذبياني وغيرهما من فحول شعراء الجاهلية أسماء خمور وملابس وأدوات الزينة النسائية التي هاجرت مع غيرها من المبادلات الثقافية الوافدة على العربية عبر وسائل الاتصال بدءا من رحلتي الشتاء والصيف مرورا بالرحلة إلى الحيرة والحبشة وأورشليم وغير ذلك من المعابر الحضارية.
     وأما في لغة الحوار فالتنوع اللغوي أكثر حضورا بحكم تنوع الشخصيات، وهو يأخذ شكل متفاعلات نصية تارة، واستدعاء لأعلام الفكر والثقافة والفن والسياسة تارة أخرى؛ أما المقدس من المتفاعلات النصية فمنه قوله تعالى: " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين" ( القصص، آية 56)، وقد حرصت نهى عاصم على المشاكلة بين الآية السابقة والسياق الذي اقتضى استدعاءها؛ فقد كان سامي وهالة في حوار مع ندى التي كانت تردد أن أباها يحتاج لمن يُقَوِّمُه، وتتهم سامي بالسلبية بحجة أنه لم يأمر جدها بالتوقف عن ممارسة الفن، وأن علينا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فما كان من سامي إلا أن قال لها : " ننهى ولا نخرب، ننهى ولا نقنع، وإن تعارضت وجهات النظر فليردد لسان حالك قوله تعالى: " إنك لا تهدي من أحببت...الآية" ( الرواية، ص62). ومنه استئناس هالة ردا على ابنتها ندى بقوله تعالى على لسان إبراهيم بعد أن أسدى النصح إلى أبيه فلم يجد معه النصح شيئا:" قال سرم عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا"( مريم، آية 46)، الرواية ص63.
     ومنه استدعاء الكاتب الناقد أحمد إبراهيم أحمد قوله تعالى: " من شاء فليؤمن" ليعزز بها رأيه في كونه لا يتخذ من الإسلام موقفا عدائيا، بل يقف موقف الضد ممن يروجون أفكارا دينية يسهل تبنيها إرضاء لحاكم من الحكام وتبريرا للخضوع وتغييبا للعقل، ( الرواية ص167)
     هكذا توظف نهى عاصم النصوص القرآنية لا في مجرد تنويع لغة الحوار بل في تأكيد احترام الإسلام لحرية الإنسان وإكباره مكانة الأبوين ولو كانوا عصاة أو كفرة، وفي إجهاض مقولات بأدلة لا يستطيع حملة الأفكار المتطرفة ممن هم على شاكلة ندى أن يجادلوا لا في سماويتها ولا في صحتها.
     أما تهجين لغة الحوار بالمتفاعلات النصية الأدبية فمنه ما جرى به لسان سامي حين فتح اليوتيوب ووجد أخبارا كثيرة عن ثورة يناير وثوارها ، فأخذ يتمتم بقول أمل دنقل:
"لا تصالح
ولو منحوك الذهب" ( الرواية ص12)
     ومنه قول هالة تخاطب سامي:
هل تذكر قصيدة أبي العلاء المعري؟
     غير مجد في ملتي واعتقادي... نــوح باك ولا ترنم شــاد
ولقد حرصت نهى عاصم على أن تشاكل بين النصوص الشعرية المستدعاة ووعي الشخصيات التي تستدعيها؛ لذلك لا غرابة في إجراء نصوص أمل دنقل وأبي العلاء على لسان سامي وهالة؛ فكلاهما له ثقافته الجامعية وميوله الفنية.
     وإلى جانب إسهام النصوص القرآنية والشعرية في تنوع لغة الحوار، نجد  نصوصا فكرية تسهم في هذا التنوع، بعضها عربي وبعضها الآخر عالمي؛ أما العربي فمنه- أولا- قول المفكر المصري خالد محمد خالد: " لا تجعل مثلك الأعلى فردا، ولكن اجعله فكرا" (الرواية ص13) وقد أجرت نهى عاصم كلام خالد محمد خالد على لسان بطل روايتها: محمد سامي - أو سامي كما كانت هالة تناديه- بينما كان يتذكر شبابه وكيف كان يعكف على قراءة كتب الفكر اليساري التي ورثها عن أبيه، ويعارض عبادة الفرد واتخاذه مثلا أعلى في الفكر اليساري.
     ومنه- ثانيا- قول سامي يخاطب ندى: " هناك  ضرورات تبيح المحظورات" (الرواية ص 36) . وقد استدعى السياق أن يستأنس سامي بهذه القاعدة الأصولية ليقنع بها ندى التي كانت فاقدة الوعي مما حمل أمها على استدعاء سامي بالتليفون ليفحص حالة ابنتها، فلما أفاقت الأخيرة صاحت بأمها: " كشفتِ وجهي له" فما كان من سامي إلا أن ذكَّرَها بالقاعدة الأصولية التي تجعل المحظور مباحا عند اللزوم والتي طالما كانت ندى ترددها دون أن تعقلها.
     ومنه- ثالثا- قول الفنان أحمد زكي في فيلم:" ضد الحكومة: "كلنا فاسدون، لا أستثني أحدا، حتى بالصمت العاجز قليل الحيلة" ( الرواية ص192).
     ومنه –أخيرا- قول الروائي المصري  منير عتيبة: " الزمن: ذلك المعنى الغامض السائل الذي نعيشه دون أن نمسك به، ويعيشنا خصما من أعمارنا دون أن نفهمه" (الرواية ص201).
     وأما النصوص الفكرية العالمية فمنها قول الكاتب البرازيلي جورجي آمادو: " ليس للسعادة تاريخ، ومع حياة سعيدة لا تؤلف رواية" ( الرواية ص180) وهو قول يلائم وعي روائي مثل سامي.
     وهناك تهجين للغة الحوار بالأغاني والأمثال؛ أما الأغاني فمنها استدعاء هالة أغنية الفنانة شادية:
" خايفة تلاقي وردة تحلو في عينيك..
تنساني وتميل تقطفها بإيديك" ( الرواية ص92)
     وأما الأمثال  العامية فمنها أن سامي تذكر قول جدته: " يا بخت من وفق راسين في حلال" (الرواية ص115)، وقوله: " اللي يخاف من عفريت يطلع له" ( الرواية ص117)، ومنها قول السيدة العجوز: " يا مآمنة للرجال يا مآمنة للمية في الغربال" ( الرواية ص77)
     ومهما يكن من أمر فهذه التفاعلات تعكس جانبا من ثقافة نهى عاصم ، وتعكس حرصها على ألا تعرف الرواية لغة واحدة ، وأن التنوع اللغوي لا يقتصر على هجرة النصوص من مراجعها واستقرارها في  المتن الروائي، بل يمتد ليشمل اللغة المهنية التي جرى بها لسان سامي غير مرة ؛ كالغدة والهيدروكورتيزون وبيكربونات الصوديوم وكلوريد الماغنسيوم، هذا إضافة إلى الألفاظ والجمل المكتوبة بالإنجليزية؛ كقول عمر يحيي أباه وهما في أمريكا:
 Hi man" " (الرواية ص17)،
 وقوله:
" we are here for you، hello Alex ،  What a Start ، "( الرواية ص20).
     مؤكد أن التنوع اللغوي لا يقتصر على المتفاعلات النصية التي تهاجر من مراجعها لتحل بجوار أقوال الشخصيات، بل يمتد إلى المزاوجة في الرواية العربية المعاصرة  بين العربية وغيرها من اللغات الأجنبية. مؤكد أيضا أن نجيب محفوظ أجرى كلمات إنجليزية على لسان الشيخ درويش في زقاق المدق، كما أجرى إبراهيم عبد المجيد ألفاظا وتراكيب إنجليزية على لسان بعض شخصيات روايته: لا أحد ينام في الإسكندرية، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: أين حق القاريء الذي لا يجيد لغة أجنبية؟