تأملات شتوية

هو الإحساس المقّيت بالوحدَّة، في هذا العالم المرعب، ما يفتحك الآن على ”طاقاتِ“ الحنين، منهوباً بذِّكرياتٍ عتيقة، تخلّلتها وجوهِ أصدقاء قدامىٰ كنت تحبهم! ولطالما تمنيت في صقيعِ هذهِ البلاد، سماع أصوَّاتِهم، أو أن يكتبوا إليك ما يكفي، لتنقيةِ الحنين من الأسى!

لا زلت ”تتعشَّم“ أن يُطِّلَ وجه ما، لطالما انتظرته في عالمك ”المغزّول“ في الوحدَّة.. المعزّول داخلك، كرسائلِ البريدِ الوَّهمية، التي تَضّل طريقها، فتقعىٰ بين الأغبرَّةِ حزّينة، بائسة يتآكلها إنتظار قلق لمن يَفُض غِلافها!

يا صديقي الرِّسالة المهمَّلة كالأُنثىٰ العانسِ، كلاهما تتناهبه أشواق الانفضاض، وكلاهما يتكشّف غالباً عن خيبةٍ، بعد طول انتظار، فيتمنى لو أنه لازال منسياً ومهمّلاً، متوحداً في العزلة!

إنها لعبة الغُلاف.. الغُلاف الذِّي يُحيطنا، ولا يورِّثنا تمزِّيقه -أحياناً- سوىٰ الألم. لماذا لا تكتب إلى نفسك لتمزِّيق هذا الغُلاف، فتهدّئ ما تثيرَّه الوحدّة فيك، من إحساساتٍ بالغةِ الأسىٰ!..

كان ”الغفاري“ وحيداً، لا تؤانسه سوىٰ مشاعرِّه ككونٍ مهمل في غيابِ ”الربَّذة“، حتىٰ قضىٰ في بردِ عزلته، متدفئاً بدوافعِ الهَرّب، متجاهلاً الخيباتِ المنتظرَّة.

من بين تلافيفِ غفواتهِ السرِّية، حاول تفادي الغيبوباتِ المباغتة.. نفض عن رأسهِ التموجاتِ الدَّاكنة، وهو يحاول تبرئةِ نفسهِ من كلِّ الذِّكرياتِ المزعجة، دون جدوى.

رّتقَ -أو توهَّم أنه رّتقَ- بقايا الجراحاتِ القدّيمَة المتجددَّة، التي أبداً لم تندّمل، وهو يكرِّر محاولةِ الكف عن لعبِ دّور ”زرقاءِ اليمّامة“، والاكتفاء بالفُرجة علىٰ ذاتهِ، التي لم تعد هي ذاته-ذاتها.

في مثلِ هذا الطقسِ البارد، لا خيار له سوىٰ الاكتفاءِ بالاستمرَّارِ في التماسِ الدِّفءِ الكامن في الأشياءِ حوله، فيما يطل علىٰ فضاءِ ذاكرَّته، ذات السؤال القدِّيم، متنامياً كاللبلاب:

”كيف تحوّل الخالدون إلىٰ فانين، ووحدة البشر الآدمية إلى هذا التعدُّد الرّهيب“..

ويزيد السؤال القدِّيم روحه القلقة قلقاً على قلقها.. هذا النوع الغرِّيب من قلقٍ وتوتر، ”الأشبه“ بتلكِ القشعرِّيرة الحارّقة، إزاءِ ”مسلّمات“ لطالما تهرّب من مواجهتها، مدفوعاً برغبةِ السلام النفسي، لروحه المنخورَّة بـ ”تسوّس“ لم يُبق سوىٰ علىٰ بقايا من دوافعٍ قدِّيمة، لمقاومةِ ما يلفظه التاريخ، إلىٰ الحيَّاة اليومية من إجاباتٍ متعسفة، تنثر رماد كيانه المنهك، إلى أقصى حدود الريح.

تناول إحدىٰ صوّره الفوتوغرّافية القدِّيمة، وتساءل:

”هل هذا هو حقاً، أم أن انكسار الضّوء علىٰ سطحها الزّجاجي الشفاف، شكَّل فيها شخصاً آخر كان يشبهه!“

وهل كان يشبهه في كل شيء أم أن النَّاس فعلاً يتغيّرون، فلا يعودون هم ذاتهم بمرور الوقت!..


هزّ رأسه ينفض خواطرّه على الجليد، الذي كسا عتبةِ الباب.. إنه شتاء البلدَّة الصغيرَّة أقصىٰ الساحل الشرقي للأطلسي الرهيب.. مع مقدمه تختفي تلك الموسيقىٰ الساحرّة المنبعثة بنعومة وألق من كل أركان الغابة، التي تنكفئ البلدة الصغيرّة في حضنها الدافئ، تجترّ أحلام عشاقها.. يحل محل هذه الموسيقى شهيق كحشرّجةِ الموت والأنفاس الذّاوية.. تصبح الغابة متناهية الزّفرات.. تختبئ الغزلان في أماكن سرِّية، وتهاجر الطيور إلى بلدان مجهولة.. تتجمد الجداول وتصبح حافية من عشباتها الخضراء.. البرِّية اليانعة تذبل وتتساقط أزهارها الحالمة.

في مثل هذا الوقت من كل عام يدخل الناس في لجة انتظار الربيع.. متآكلين بقلقِ انتظارٍ ممض لذوبان الثلج وإنبعاث الحيّاة، من بين طبقاتِ الجليد المتداعية.. ليجددوا أنفسهم في التوحد مع الطبيعة المتوحدة في كل شئ، مشكَّلةً كياناً واحداً كلحظةِ الخلق الأولىٰ!


كان الثلج قد تساقط لثلاثةِ أيامٍ دون توقف، إلا لريثما تلتقط سماء البلدة أنفاسها لبرهة، ثم تمطر مرَّة أخرىٰ ندفها ناصع البياض.

خطا علىٰ الممشىٰ بحذرٍ محاولاً تجنب الانزلاق، بل كان ممتلئاً بإحساسٍ زلق، فالجليد يغطي كل شيء: الطرقات.. الأسقف المحدودبة.. الشوارع الخلو إلا من مارَّة متفرقين، انكمشوا على ذواتهم!..

الأشجار التي تحيط بالبلدة تجردت من أوراقها وصارت كأشباح أو هياكل، تثير رؤيتها في النفس إيحاءاتٍ غامضة كامساك الزّمن بالناس من ”أياديهم التي توجعهم!“..

إحساسات هي مزيج من الارتباك وقلة الحيلة، كتعثر المشي في نفق مظلم، تنتصب المخاطر في زواياه العديدة..

استرد نفسه من تأملاته الشتوية، وهو يحاول إزاحة الثلج عن صندوق البريد، وبأصابع مرتعشة التقط حزمة من الرسائل الباردة..

”ماذا ستكون سوى الفواتير الشهرية، التي لا يشعر حين سدادها سوىٰ بالوجع (الشبيه) بالآلام التي تنضح بها بيوت الطين، ذوات الأسقف الواطئة، في البلاد البعيدة!“.. آلام كآلام تمزّقات الأفكار الكبرى.

لفت نظرّه غُلاف رسالة كتب عليه عنوانه بخط اليد، على عكس الأغلفة الأخرىٰ!.. جذبه من بين الرسائل.. كان خطاً جميلاً مألوفاً، بدى كالمكتوب بأصابع مرتعشة.. ربما بسبب إحساسات لم يستطع صاحبها تفادي سطوّتها عليه..

لا يدري لماذا خطر على باله، في هذه اللحظة بالذات صديقه ”أباذر“، فكل رسائله مؤخراً تنم عن إحساسٍ مرير، ينضح بالخُذلان والتصدّع، جراء الأذىٰ المتلاحق لأصدقاء يحبهم!..

في سنوات دراستهما معاً كانت ملامح أباذر.. ”هذه الملامح التي ستلازمه طيلة حياته“ مرّسومة في أسىٰ غامض كأسىٰ الغريب الذي علقته بلاده على صليب، ثم حرضت أشقياء أطفالها وسفهائها على رّميه بالحجارّة وأكاليل الغار!..

ترى فيما فكر الغريب لحظتها.. ربما كان يحلم بحضنِ ”المجدلية“ التي لم تكشف تأملاته المبتورَّة تحت وطءِ النزف عن ملامحها الملتاعة.. ربما كان يحلم أو هو يحلم بحبيبة يلوذ إلى حضنها ضد الأسىٰ وعذاب الصلب!

وكما توقع لم يكن خطاً مألوفاً فحسب، كان غلاف الرسالة يحمل ختم البلاد الكبيرة.

ذكّره أباذر بصديقهما القديم ”عثمان“.. ثلاثتهم كانوا مسكونين بهواجس الوطن والتضحية.. في رسالة إلكترونية مؤخرا زفر أباذر في عمق حزن جديد:

”لقد أذاني كثيراً وعميقاً جداً.. لقد تغيّر عثمان، لم يعد ذات ذلك الصديق الحميم الذي تعرفه، فرياح التحولات التي ضربت البلاد الكبيرة، كنست كل ما ألفناه فيمن نحب!..

لم يعد عثمان كما كنت تصفه:

”كعذراء صغيرّة لم تألف تكوّراتها النامية للتو بعد، فتحس بالخجل إزاء كل نظرّة عابرّة“

تغيّر كريفي خبيث، حولته المدينة إلىٰ كتلة من الأذىٰ الكلي، فبات لا يحمل داخله سوى الحقد تجاه أشياء يدركها ولا يدركها، وبإمكانه فعل أي شيء في سبيل تحقيق ما يريد“..

عندما رد على هذا البريد الإلكتروني لم يحاول تعزِّية أباذر في فقدانه لصديق قدِّيم، فقد كان يدرك أن الانهيار المدوي للأفكار التي لطالما آمنوا بها، لم يكن انهياراً لهذه الأفكار فحسب.. كان انهيارهم هم.. انهيار رؤيتهم لما حولهم.. الطريقة التي يحلمون ويفكرون بها..

كان انهياراً لكل شئ فيهم، حتى لطريقة مشيهم على الطرقات، في مدينتهم التي لم تنل سوى الوعود الكاذبة..

أصبحوا مشوشين تقلق الكوابيس من كل جنس ولون منامهم. لم يستطع عثمان تحمل كل ذلك فترك كل ما هو منهار ينهار..

كان يستطيع تصوُّر ما واجهه عثمان من تحد جعله ”يختار“ بين منطق ”العقل“ ومنطق ”الواقع“.. في مواجهة ”المنطق الخاص“ الذي صاغ حياته كلها منذ الطفولة الباكرّة.. ومنذ تفتح وعيه معهما على أفكار التغيير.

كان أباذر عادةً ما يحاول استفزاز شهيته للنقاش، دون أن يأبه إلىٰ أن هذا بالتحديد، أهم تغير في حياته.. ”فقدان الرغبة في أيّ سجال أو جدل“، وتقبل كل شئ بصمت.. وفي الحقيقة ليس تقبلاً، بقدر ما هو إحساس مزمن بـ ”اللاجدوى“.

يحاول استعادة جزء من ذكرياته القديمة مع أباذر.. كلاهما غاص في خاصرته نصل مباغت، مجهول المصدر، فأصبح يعاني نزيفه وحده دون غضب، فقط إحساس عميق بمرارّات الماضي والحاضر، واليأس الذي كالجمر أو النار المشتعلة داخلهما.


تمدد على مقعده المفضل، بعد أن أزاح الستائر عن زجاج بلكونة الصالة ونوافذ المطبخ، لا يريد لساتر أن يعزّل بصره عن الطبيعة في الخارج.. يحب مراقبة تساقط المطر والثلج أثناء قراءته لكتاب، أو مشاهدة التلفزيون، أو تأمل حياته المتهاوية..

ففي مثل هذا الطقس يفضل عدم الخروج والبقاء برفقة خمره المفضل، ولربما تجذب اهتمامه في مثل هذه الأوقات الثرثرات الفارغة، التي تفتق مشاعره على دلتا لحبٍ متجدد.. كأنّ حبه القديم لحبيبات عبرن وخلفت كل منهن أثراً عميقاً، يتراكم الآن مكوناً هذه الدلتا، التي قوامها مشاعرهن المتوحدة في مشاعر حبيبة واحدة.


فتح غُلاف الرسالة وعيناه تبحثان في لهفة عن توقيع صاحبها.. كانت فعلاً من أباذر.. بدى له غريباً أن يراسله بالبريد العادي، وهما على اتصال دائم عبر الشبكة الرّقمية، وآخر بريد إلكتروني منه، حول صديقهما القديم عثمان، كرّر فيه ذات المفردة التي يرددانها كل مرّة، للتعبير عن حالهما:

”بخير“

لكن كلاهما كان يعلم أنهما ليسا بخير، وربما أنه أفضل حالاً من أباذر، إذ سيخرج من هذه الدنيا بمحبة زوجته على الأقل، بينما لم يحصل أباذر حتى الآن سوى على محبته هو فقط.. لطالما سأله:

”لماذا لم تجب عن سؤال المرأة في حياتك حتى الآن؟“

فكان يجيب بكل الإجابات التي لا تخطر على البال، إلا الإجابة الوحيدة التي تؤرقه بغموضها الذي يلف الصّمت مجرد التفكير فيه! ”لكن هل هو متزوج حقاً؟!“

ألقى ببصره على البلكونة يحاول استعادة بعض الذِّكريات القديمة.

ترى ما الذي دفعه لكتابة رسالته بالبريد العادي!.. يقول إنها رسالة مختلفة، أراد لها أن تصل عبر وسيلة أكثر صدقاً.. غير معلبة.. وسيلة بإمكانها أن تحفظ شيئاً من روحه وانفعاله، وبصمات ورائحة عرقه، وآثار الغبار الذي حوله، وحالته النفسية في اللحظة التي كتب فيها ما كتب.

لم يكن أباذر ”بخير“ كان مؤرقاً بمناظر الجثث والحرائق، وتداعي الحياة حوله في مغيب البلاد الكبيرة.. قال إنه ربما يستقيل قريبا من المنظمة التي يعمل بها، ويهرب مثل كل الذين هربوا أو سيهربون..

كانت كل تساؤلات ما قبل الانفجار الهيولي العظيم، والهبوط تشغل باله، فيتأمل في الخطيئة الأولى:

”هل كانت خطيئة!“

ويتذكر حوارهما القديم المتجدد:

”فتحت ثمرّة الشجرّة وعيهما إذن على سوأتيهما، فتغطيا بأوراق الشجر!“

”سوءة؟ ولماذا هي سوءة.. تخيل أن يكون جزء من جسدك سوءة!“

فيتذكر إبن الراوندي في الزمرد.. ”ربما أن لعبة البريد العادي، وقلق انتظار الرّد، هذا القلق المضني والتحفز في توقع ردود ربما تكون مخيبة.. ربما أن هذه اللعبة راقتني! حسمت ترددي وبدأت في الكتابة إليه دون أن أستهل رسالتي بالعبارة المعلبة: [عزيزي أباذر]“

قادته لعبة الرسالة إلى التساؤل:

”هل فعلا لديه صديق اسمه أباذر.. وهل.. “

لم تمنحه تأملاته الشتوية أيّ إجابة شافية، فهرب إلى كاساته المعتقة يرتشف الحنين.. فيمضي به الحنين كموج هادر، يقذفه بين أنياب أغانيهما الحزينة، التي تنغرز هي الأخرى في شرايينه.. تشد أوردته لتعزف موسيقى أشد سرية من حقيقة الوجود!

موسيقى غامضة لمغنين مجهولين، جابوا كل مدن الخطايا، فراودت شهواتهم حبيبات كالعصافير المهاجرّة من المواعيد والوعود، إلى أوكار الشعر والمنفى، في شتاءات وسنى كهذا الشتاء الحزين. كتب إلى أباذر عن الروتين، وصديقهما اللدود ابن الراوندي وعن تلك الشجرَّة التي كانت تنمو في حواراتهما القديمة.

”بل شجرتان.. واحدة للمعرفة وأخرى للجهل. واحدة لإرادة الاختيار، والأخرى للا-اختيار“

”بل واحدة للحياة [الخلود] وأخرى هي شجرّة الموت [الفناء]“

”المعرفة هي جوهر الحياة، فلا خلود دون معرفة“

”الصحيح هو أن وجود شجرتين منحنا حق الاختيار بينهما“

يلوذ أباذر بصمته العميق الذي تميز به. نوع خاص من الصَّمت، ليس سهلاً انتزاعه منه.

طيلة الشتاء ظل يكتب له عن المغامرات الصغيرّة والجرائر الكبيرّة، وذاكرتهما المشتركة في هذا الفضاء المعزول.. وظلت كتابته تحاول أن تستعيد في استماتة، حواراتهما القديمة، التي شملت حتى المقدمات الأولى ”لانتحال“ واقع مغاير لواقع البلاد الكبيرة، و”إحلاله“ لينتج فيها كل هذا الدّمار المرعب والجنون.

كانت خيوط النور تغسل آخر ليالي شتاء البلدة العتيقة، التي استفاقت للتوّ من تابوت الثلج الكئيب، فأخذ ضوء الشمس يسند جُدُر البيوت.. هياكل الأشجار.. الفضاء الرّحيب للبلدة الصغيرة، التي تبدت عن مفاتنها فيما تبقى من بياض الشتاء الناصع، الذي توحي بقاياه في فتاتات الجليد المتشظي على الطرقات بأشواق مرتقبة، تحاول الانعتاق من حبس أكثر الفصول قسوّة، لتنكفئ في أنفاس الربيع الحميم، على ذكريات الصيف الماضي، والمصايف الملتهبة بأشواق المحبين. كانت البلدة بكل كائناتها تستعد لربيع جديد.

 قرأ ما كتب عدة مرّات، ثم خطر بباله لسبب غامض أن يمزّق كل هذه الأورّاق، التي أنفق في كتابتها شتاءً كاملاً.. مزّق الأوراق إلى قطعٍ صغيرّة، ثم كوّمها في المدفأة، التي كانت لا تزال مشتعلة.

برينسس آن، شتاء ٢٠٠٨