بيوت و رمال

اعتاد على المرور من هنا . تحمل حميره، رمالا على أظهرها . يسوقها نحو أماكن ا لبناء أ و الترميم ، داخل المدينة العتيقة.
ينادونه باسمه . (Juanito ) . هو ذاك الاسباني الأصيل، النازح من بلاد الأندلس، تجاوز الخمسين من عمره .
يشتغل بحميره ، منذ أ ن وطأ ت قدماه ، شمال المغرب ، أيام النزوح الاسباني إلى هناك.
الجميع من أهل البلدة ، يعرفونه . يتعامل معه الكل بحذر زائد ، حازم في عمله .
حميره هي الأخرى لا تكل ، فكم من بيت ، من بيوت تطوان ، حملت رمال بنائها .
كانت ذا أصل إسباني ، لونها أشهب ، ولها علو كعلو البغال . ذات أرجل قوية ، صبورة ومدربة ، تدريبا كان يجعلها ، تمر وسط الأحياء ، بازدحاماتها وفوضويتها ، دون أن تحدث أية خسارة .
كانت سبعة ، بعدد أيام الأسبوع ، وكان لكل واحد منها ، يوم راحة ، خاصا به. فحين يعمل الستة ، يظل ا لسابع في عطلته الأسبوعية ، في زريبة ، بمكان يسمى ( عقبة الحلوف ) .
كان موعدي في جلسة المساء ، حين تميل الشمس ، تاركة ظلها قرب باب دكاننا. فتنشر حرها المسائي ، على باقي السطوح المجاورة ، والفجوات المنسية .
كنت أخرج كرسيا خشبيا ، أجعله مقعدا لجلوسي ، في انتظار قافلة الحمير ، المحملة بالرمال . وكان لها قائد ، يتقدمها بناقوس ، علق في عنقه . فكانت تسير على إيقاع خطواته .
كانت شمس الصيف الحارقة ، تدفع حشد المارين ، ليستنجدوا بظل الألواح الخشبية المثبتة فوق أبواب الحوانيت ، تحميهم من لفحاتها .
وكنت أنا أستغل اللحظة . فأخرج لجلستي المعتادة .. وكانت عند عصر كل يوم. أستأنس بظل الكروم ، التي تتدلى بين ألواح متشابكة ، والمثبتة على الجدران .
يخبرني والدي ، أن وقت الصلاة الوسطى قد حان . أنتظر وباقي الصغار ، حتى يعود والمصلون من المسجد .
كانت جل الحوانيت ، في هذه اللحظة ، تقفل أبوابها . توجه أصحابها لأداء الصلاة . نستغل نحن الصغار اللحظة ، للقيام ببعض الشغب الطفولي ، بجانب الحوانيت المغلقة .
أذان العصر ، لحظة كانت تحرك في سكون نفسي ، شعورا بالهيبة والوقار .
لا زلت أذكر ، كم كنت أصيغ السمع للمؤدن ، وهو يؤدن ، حتى ينتهي من الأذان . إن هذه اللحظة ، لحظة عبادة . كم كان صوت المؤذن ، وهو يؤذن ، يثيرني ويدغدغ إحساسي . حين ينبعث شجيا ، من مكبر الصوت ، المعلق في أعلى الصومعة ، بمسجد حينا بالعيون .
مسجد ، تعلمنا فيه الصلاة وتلاوة القرآن . بصومعته المطلة بعلوها ، على سطوح الحي المتهرئة .
وأنا جالس كعادتي ، إذا بالحمَّار يصل المكان الذي أوجد به . يمر (Juanito ) بحميره ، وقد حمل كل واحد منها ، حمله من الرمال .
كان عليه ، أن يقطع بها المسافة ، الفاصلة ما بين باب المقابر- حيث توضع الرمال- وباب النوادر.
يتكفل هو بحميره ، على حملها ، ثم إيصالها إلى المكان المحدد. مكان إفراغها.
كان مروره ، من هنا ، يعني أن بناء سيقام أو ترميم شيء فيه .. في اتجاه مستقيم. كانت قافلة الحمير ، تمر بخطى متناسقة ، على إيقاع ضربات ناقوس قائدها.
كانت لحظة مثيرة ، يختلط فيها الإعجاب بالدهشة ، حين ترى ، سماط القوم ، وقد تسمروا في أماكنهم ، جاحظين . ينظرون إليها بإعجاب . وكأنهم في سرك ، هو الحي..كان عرضا مسرحيا بحق.
صوت الحمَّار Juanito)) ، وهو يخاطب حميره ، ويوجهها ، بلهجته الإسبانية الأندلسية: (Arre Pobre) . سر أيها المسكين.
لفظة يخاطب بها الحمَّار ( Juanito) ، حميره على متابعة السير ، نحو المكان المخصص ، لإفراغ الرمال.
(Arre) لفظة ، تجعل من قائد الحمير ، ذي الناقوس ، يغير في اتجاهه يمينا أو يسارا. كان يتم ذلك ، حسب تكرار عدد مرات اللفظة .. وكنا نحن الصغار ، نتهافت على تتبع أحداث هذا السرك الممتع ، في مشهد ، قل نظيره ، في ذاكرة شعب .
كان تناسق خطواتها ، على إيقاع ضربات الناقوس ، وتحركها المتقن . يرسم لوحة ساحرة لمروض ، في شخص الحمار ، ومهرجين في حميره .
كان خطابه لها ، كلمات متناسقة ، بنغمات موسيقية ، إسبانية أندلسية . من تراث ( الفلامينكو) .
الآ أنه ما كان يثير فضولي ، فأظل أتبعها ، لمسافة طويلة ، هو تناسق خطواتها ، ونغمات الحمَّار (Juanito ) ، المسترسلة عبر طريق الحي ، بصوته الجهوري ..
في صيف ذاك العام . وفي يوم من أيامه . كان قد تأخر الحمار (Juanito ) ، عن موعده ولم يمر . وقد تكرر ذلك طيلة أيام الأسبوع ، فأحسست بأني فقدت شيئا كان ينعش ذاكرتي .
وفي إحدى المساءات ، بينما كنت جالسا كعادتي . تناهى إلى سمعي ، صوت ناقوس يسمع خافتا . قفزت من مكاني كالمذعور ، ولحظة ، بدأت أرقب قافلة الحمير ، تقترب نحو مكان وجودي . الحمار وراءها يوجهها ، بصوته وسوطه . مازالت الحمير بعيدة . صوت الحمار لا يسمع جيدا .
لحظة . ثم بدأت كما قبل أسمع صوته ، بشكل أوضح . كان فيه شيء من التغيير. لم يكن بالصوت ، الذي اعتادت أذني سماعه .
قافلة الحمير تقترب ، تمر أمامي ، أنظر إليها، هي نفسها . كان صوت الحمَّار الذي تناهى إلى سمعي ليس هو .. الحمَّار متستر وراء حميره . ضائع في زحمة المتبضعين .
ها هو يقترب . أرقبه من وراء الحمار الأخير . حدجته ببصري . تفحصت لباسه ، القبعة هي نفسها ، القضيب الذي يهش به على حميره ، هو ذاته ، لكن هو ليس (Juanito ). الذي أعرفه . إن الذي عرفته إسباني ، أما هذا فمغربي .. لكنها نفس الحمير . لماذا لم يأت ..؟ أين هو ..؟ أين ذهب ..؟
أسرعت إلى الحمَّار ، سألته وأنا أتفحصه . نظر إلي مبتسما ثم أجابني : أنا هو..
كان (Juanito ) . في هذه اللحظة ، يرقد جثة بمقبرة المسيحيين ، التي كانت توجد في أعالي جبل درسة .
صعدت طريق الجبل ، مسرعا ألفها . كان قبره لا زال حديث البناء . تغطيه أكاليل زهور . وقفت أنظر إليه ، من باب المقبرة الحديدي . وكان مغلقا .
كانت تقف أمامه عجوز إسبانية . يلفها معطف أسود ، وكانت بيدها باقة ورد أصفر. استدارت نحوي .. شخصت إلي ببصرها ، ثم غابت وسط المقبرة .
كانت تخطو بخطى وئيدة . ترسم خطواتها على التربة المبللة ، بندى الخريف.