بُن للحجة

تأخرت كثيراً ولا أريدها أن تغضب مني، هي بالذات لا أقدر على غضبها، خاصة أنها ستتصور أني صرت أهتم بطلبات “نبيلة” وحدها، والمشكلة هي أنني بالفعل كذلك، لنقل مثلاً بنسبة 99%، وكيس البن هو الواحد بالمائة المتبقية للحجة، ثمن كيلو بن محوج أحسنها تحويجة، لا يساوي المصروف اليومي للأولاد، باختصار.. ولا حاجة، مع أن الأمر من جهتها يبدو مختلفاً، فبدون أن تعلم أني في طريقي إليها أجدها دائماً في انتظاري، تخبئ لي الكبدة والأونصة “حوائج الفرخة”، من يوم ما طلعت لي أسنان تخصني بهم، هذا غير قالب “سكر النبات” وكأني مازلت صغيراً تصر أن تضعه، بيدها، على لساني، ولا شيء في الدنيا يفرحها مثل ابتسامتي في هذه اللحظة عندما تذوب الحلاوة في فمي، أما كيس البن، فيمنحها إحساساً بأني رغم كل شيء “مشاغلي وأعبائي لم أنسها، عندئذ تلمع عيناها بتلك بنظرة لا أراها في عين أخرى، نظرة ممتنة، حامدة شاكرة. كأني أهديها ذهب وليس “شوية بن”! تحبني أكثر من أبي، أشعر دائماً بذلك، هو صاحب الفضل، قدم لي كل شيء، غير أن ما قدمه هو شيء من كثير، بعض ما لديه، هي قدمت أكثر، حتى لو لم يبدُ على السطح سوى قالب سكر النبات. نبيلة هي أيضاً تقدم الكثير، بصراحة تركت كل شيء على كاهلها، أنا في شغلي وفي عالمي وهي تدير شئون الحياة.. البيت والأولاد، لكن عطاء الحجة مختلف، فأبي يعطيني ويريد بالمقابل ألا أخذل أحلامه بخصوصي، نبيلة تعطيني وتريد الكثير في المقابل، الود ودها أكون “خالص مخلص” لها وحدها، بينما الحجة وحدها تعطيني كل ما لديها ولا تنتظر شيئاً، تمنحني شيك على بياض، لذا أحرص على جلب البن كي تعرف أنها في بالي، ثمن كيلو يفرحها فتمطرني بدعواتٍ، تطيب لها نفسي أكثر من أي شيء آخر، لذا أطخ المشوار وأنا راضي حتى طاحونة الفيشاوي في آخر الدنيا، فأشتم رائحة تحميصه وطحنه ثم تعبئته في الكيس وهو لم يبرد بعد، لأجلها أحتمل طول لسان “يوسف القلش” الذي لم يدعني مرة أعود دون أن يسمعني تندره:
_ طب كنت خدلها كيلو على بعضه بدل الشح بتاع أهلك ده!
كيلو ياابن الأبالسة! ما أنا حياالله موظف، قال عد غنمك يا جحا.. من غير ما أعد، أهي واحدة “نايمة” وواحدة “قايمة”، لست مثلك وارثاً مطحنة تساوي الشيء الفلاني وقاعد أتسلى على خلق الله. هو يعرف “البير وغطاه”، لكن ما يغيظه هو أنه يحسبني آخذ البن لامرأة من زميلاتي في الشغل، ويموت حسداً نظراً لقلة حظه مع النساء، وأنا أستمرئ غيظه بضحكة عميقة:
_ أبوها راضي وأنا راضي.. مالك ومالنا إنت يا قاضي!
أودعه بضحكة بينما أردد في سري: الصيت ولا الغنى. لا أصارحه بأن أيام الشقاوة ولت، ومن ستر ربنا إنه مايعرفش نبيلة، شاهدة الإثبات الوحيدة على إن دوام الحال من المحال وإني عجزت على الشقاوة، ويبدو أن هذا ما يجعلها تشد حيلها في التندر عليّ:
_ اللي واخداه القرعة تاخده أم الشعور.
تقولها بقلب جامد إذا طولت في الكلام مع إحدى البائعات في السوق كي أستنفر غيرتها. آااه من غيرتها! آااه. الحجة نفسها كانت تلومني عندما تراها غاضبة، تقول:
_ أمك معلش. لكن مرتك مش هتتحمل دلعك الماسخ دِه.
بل يصل بها الأمر إلى العبوس في وجهي إلى أن أصالح نبيلة، مع أنها عادة ما كانت تودعني بعبارة:
_ ربي يا خايبة للغايبة.
ثم أحجمت عنها بعد وفاة أبي ووقفة نبيلة الشهمة معها. صارت تخجل من نطقها لكني أقرأها في عينيها. إشتريت البن ليلة “إمبارح”، فأين هو؟ لابد أن تكون نبيلة وضعته في أحد الأدراج، داء فيها الست نبيلة إخفاء الأشياء كي لا يبدو البيت مبهدلاً. لكن ركبتي تؤلمني، لم تعد تحتمل القيام والقعود، نبيلة أصغر مني وصحتها أحسن..
_ نبيلة. يا نبيلة.
الآن ستأتي غاضبة وتمطرني بوابل تأنيبها:
_ عايز إيه يا خويا؟ انت مابتبطلش طلبات!
تعبك قوي أني أستريح شوية!
لسانها حافظه صم، بس عارف ان قلبها طيب،
_ نبيلة.
لكن من هذه التي أرسلتها بدلاً منها؟
_ أيوة. عايز حاجة؟
عمال أبحلق فيها وبرضو تمعنت في ملامحها ولم أتذكر أني رأيتها من قبل، فقلت بحرج:
_ لامؤاخذة.. أنا عارفك طبعاً بس يعني الإسم.. مش انتي بنت إبراهيم …
ولكن لماذا تنفجر في الضحك؟
_ إيه يا بابا؟ أنا غادة بنتك. نسيتني؟
_ هه! غادة!
يا مصيبتك السودة يا “نبيه”! نسيت بنتك! لملمت روحي التي تبعثرت وابتسمت:
_ معلش يا غادة أصلك متغيرة شوية. إنتي قصيتي شعرك؟ مش كده؟
ابتسمت بارتباك وهي تلملم شعرها المنساب فوق ظهرها ثم تأتأت:
_ أأ..آه.. يعني..
تمالكت نفسي وقلت أتجاوز هذه الجزئية الغبية حتى لا تتضخم ويتداولونها في البيت بإشفاق كأني.. عجزت وخرفت. قلت لنفسي:
_ عادي يا واد يا نبيه.. كل الناس بتنسى. إجمد. إياك تظهر ضعيف قدامهم.
ركزت في سبب ندائي فتذكرت:
_ طب شوفيلي يا ست غادة أمك ودت فين البن اللي جبته ليلة امبارح من عند يوسف القلش؟ بسرعة عشان عايز ألحق أوديه للحجة قبل الدنيا ما تليل.
ولكن لماذا تحملق بي على هذا النحو؟ لماذا تضرب كفاً بكف؟
_ لا حول ولا قوة إلا بالله! يا بابا أمي وجدتي ويوسف القلش كمان.. كلهم.. من زمان.. ربنا
يرحمهم. تعيش وتفتكر يا حج.
صدمتني المفاجأة وأحسست بجبل ضخم كنت أعتلي قمته ينهار كحبات الرمل، وبصعوبة سألتها والدنيا تدور بي:
_ إزاي الكلام ده كله يحصل وأنا ماأعرفش!
كادت تضحك ثم توقفت، وقالت بإشفاق:
_ ماتعرفش إيه يا راجل يا طيب!
ولكن متى؟ وكيف؟ كيف هان عليهما أن ترحلا وتتركاني وحدي!! انتبهت على صوتها:
_ مش تقوم بقى نغير البامبرز؟
رددتُ في نفسي متلعثماً: بام..بامبرز؟ لمن تقول هذا الكلام؟
تلفتُ فلم أجد بالغرفة سواي.