بقايا اصبع طباشير

ينظر فى المرآة.. يتحسس وجهه المتغضن ولحيته النابتة .. زجاجة السائل السحرى أمامه يضع قليلاً منها على شعره وشاربه.. يتأمل صورتها المنعكسة أمامه . 
على السرير ترقد . نظراتها الذابلة تدور بأنحاء الحجرة .. تحتضن محتوياتها وكل ركن فيها .. سريرها .. دولاب ملابسها .. مرآتها .. أدوات زينتها . أبناؤها وأحفادها حولها .. عيونهم دامعة حزينة . بنظرة واحدة تشملهم تلملمهم فى أحضانها . تستقر نظراتها على وجهه الحزين وعينيه الملهوفتين .. تلمح يعض العبرات تجللهما . يقترب منها .. يداعب خيوط قطنية ناعمة . شبح ابتسامة باهتة ترتسم على شفتيها .. تحتضن كفها كفه .. يضم أصابعها بوله . عيناه تسكبان حناناً تغرق فى أمواجه . لطالما أذابتها عشقاً نظرة عينيه تلك .. تسبح معه فى زورق صفصافى باقتدار ثلاثون عاماً .. يمران بمرافئ عديدة .
"غداً تعودين لمملكتك .. رعاياك فى انتظارك يامولاتى "تدمع عيناها. " أتتذكرين .. زمان .. أول زواجنا ؟ "تتأوه بوهن . يمر شريط الذكريات أمامها . 
أصابعه تمسك بالماكينة .. يحلق لحيته .. يجتث بقاياها .. يتأمل شعره وشاربه .. ينتظر النتيجة بلهفة .
يدور قلقا جيئة وذهاباً خارج الحجرة .. يفتحون الباب المغلق .. يدعونه للدخول .. يضم كفه كفها بسعادة بوصول الراكب الأول "مبروك ابنتنا وفاء يا آدم" يتوالى وصول الركاب يسبقهم بكائهم .. حتى يكتمل الزورق . 
"لا ترحلى وتتركينى ! خذينى معك .. أو .. دعينى أرحل أولا" أنفاسها تتقطع .. تأتى من جب عميق . "ثلاثون عاماً يدك تربت على جرحى .. تمسح دمع حزنى " .
خيوط ليلية سوداء تداعبها أصابعه .. لا يكاد يصدق .. يبدو أصغر كثيراً .. يرتدى (حلة ) اشترتها له فى حفل خروجه على المعاش.. تيار هوائى بارد يدخل عبر الشباك المفتوح .. يتطاير شعره الفاحم .. يغلق النافذة .
الريح تعصف بالخارج .. تدفع النافذة بعنف .. أوراق الشجر تتساقط .. يهتز كفها بين أصابعه .. يقبض عليها بشدة .. يحس برودتها .. يفتح يده المضمومة .. لا يقبض سوى الريح ! 
ينتقى رباط عنق جديد .. له لون زاه . دقائق تمر حتى يحكم ربطه .. كانت دوما تتكفل بتلك الأشياء الصغيرة .
ظلام دامس حوله .. ليل الحزن طويل .. طويل . يتحسس الوسادة الخالية والفراش البارد بجواره . أشباح تتراقص حوله .. يقفز من سريره .. يوقد المصباح .. ينهنه .. يرتفع بكائه تدريجياً.. تقفز وفاء من جوار زوجها "الصبر يا أبى " "ثلاثون عاماً يا وفاء .. صارت جزءاً منى "تربت عليه .. تهدهده .. ينام.. تطفئ المصباح وتخرج . 
فى الصباح يذهب إليها .. يقف أمامها .. يترقرق الدمع بعينيه.. يرفع منظاره .. يسمح دمعه بكفه .. تناديه " ليتنى أستطيع التلبية" يبحث حوله .. لا يجد سوى أصبع طباشير .. يخط به بضع كلمات على شاهدها " أحزانى لفراقك أقسى من أن أتحملها........"التوقيع:آدم . 
يخلع منظاره .. يتركه بجوار صورتها الباسمة .. يتعطر .. يتأمل ملامحه بإمعان .. كتاب مفتوح ملقى بجواره .. يغلق صفحاته ويرحل . 
يهب فزعاً .. الأشباح تتراقص .. تتزايد .. تلتف حول سريره فى نصف دائرة .. ينهنه .. يتعالى صوته .. تهرع إليه بلهفة "عشرين يوماً مضت .. الحال نفس الحال ! صارحنى ياأبى .. أتنوى الزواج ثانية ؟!!!" ".............." .
يقف أمامها .. تناديه .. دمعة وحيدة تعلن استسلامها .. يسكبها .. يودعها أخر أحزانه .. تناديه ثانية .. يشيح بوجهه .. يبحث حوله .. بقايا أصبع الطباشير رخوة لا تصلح للكتابة .. لا يجد سوى قطعة طين .. يمسكها .. يدون على شاهدها .. كلمة واحدة يضيفها
" وحدى " .