بدر الدين أبوغازي .. ناقد وعصر

بقلم: د. أمل نصر القدرة النقدية هي ملكة تتبع الوعي، ووعي الناقد هو كيان متكامل تسهم في تشكله عوامل عدة من أهمها الشروط الاجتماعية التي أحاطت بتجربته النقدية ومجموعة الأفكار التي سادت عصره، وأسهمت في إقامة أيديولوجيته الخاصة في الكتابة، ومعارفه التي أقام عليها مفهومه الخاص للعمل الفني الجيد ومعياره في التناول النقدي.

تشكل الوعي .. المنابع الأولى

مختار: النموذج الأول

جاء اتجاه بدر الدين أبو غازي النقدي متسقاً تماماً مع أفكاره الأساسية ومبادئه، وكانت إحدى أهم تلك الأفكار هي فكرة "الشخصية المصرية في الفن"، وليس في ذلك شيء من الغرابة حيث نشأ الناقد في كنف خاله فنان مصر مختار الذي أحاطه عصره بفكرة الحلم الوطني، تلك الشرارة التي بعثها مصطفى كامل فأشعلت وهج الحماس في جيل كامل، وامتد هذا الوهج إلى الفن المصري ليبحث مختار وجيله عن الشخصية المصرية في الفن وليتتبع جذورها الأولى، ليحاول وصل ما انقطع منها؛ من هنا أحيط بدر الدين أبوغازي من طفولته الأولى بعبق هذا الفنان الذي مثل مشروعه الفني حلما قوميا كبيرا، تابعه أبوغازي عندما شب بشغف ليشكل البذرة الأولى لإيمانه الكبير بفكرة ضرورة الفن, والتقط من ذاكرة والدته وشقيقتيه ذكرياتهن عن مختار وعكف على رسائله ومذكراته وأوراقه وكل ما كتبه مختار أو كتب عنه، يحاول استكمال صورة فنان مصر الكبير، ليشكل مختار بحياته وفنه وفكره أحد أهم العوامل المؤثرة في تشكيل وعي أبوغازي بقيمة الفن وضرورته.

وكانت صورة إزاحة الستار عن تمثال نهضة مصر إحدى الصور ذات البريق في ذاكرته، وقد رواها في رسائله الخاصة لابنته نادية حيث يقول في إحداها:

"عاد خالي من باريس وحمل بنبل ودون أن يشعر أحد كل مسئوليتنا، ونقلنا مرة أخرى إلى بيت آخر كبير، كانت هذه السنة هي سنة أزمة نهضة مصر، وظروفه الحالية ليست كما ينبغي، ولكنه أخفى عنا كل شيء وانتهت أزمته وأزيح الستار عن تمثال النهضة في حفل كبير مازلت أذكر صورا منه، وخروجنا في الليل في عربة ذات خيول فقد كانت السيارات شيئا نادرا في هذه الأيام نطوف حول ساحة التمثال يلألئها النور وجموع الشعب تتطلع إلى الأثر القومي الذي طال ارتقابهم له. وفي طريق عودتنا لمحناه في سيارة مع صحبة من الأصدقاء .."

واستقر في وعي الفتى مبكراً أهمية دور الفنان في البناء الاجتماعي، وضرورة الانسجام بين الحياة القومية والأثر الفني، وذلك لما أصره صغيراً وما تابعه كبيراً من الدور الاجتماعي للفن، والذي أخذه على عاتقه فنان مصر مختار، ولعلها ـ وللأسف ـ المرة الأولى والأخيرة التي تلتف فيها جموع الشعب المصري حول عمل فني يتحول إلى رمز لحلم وطني كبير، وأن يتخذ هذا صورة إيجابية فتجتمع صفوف المجتمع المصري للدفع بحركة الاكتتاب من أجل إقامة تمثال "نهضة مصر" الذي كان مثل دعوة دفعت المصريين نحو مظاهر النشاط الفني التي أعقبته وجعلتهم يشاركون فيها ويقبلون على معارض الفن.

الاهتمام بالأدب ورصانة اللغة

مثل اهتمام بدر الدين أبو غازي منذ الثلاثينات من القرن العشرين بالأدب أحد المؤثرات الهامة في صياغة أسلوبه اللغوي النقدي، وقد ألقى هذا الاهتمام ظلالاً واضحةً على تجربته النقدية خاصة في بدايتها، ويتضح ذلك في كتابه الأول عن مختار (1947) حيث يظهر جمال الصورة المجازية، ومتعة السرد الأدبي الروائي التي تابع من خلالها تجربة مختار، متبعاً خطاً بلاغياً في الحكي ورسم تفاصيل الصورة، يعيدنا لكتابات طه حسين الذي كان يحظى بمكانة مفضلة لديه، وذلك من حيث ترديده لنغمة معينة واختياره لكلمات مترادفة والتأثر بالتراث الشعري واستعمال التراكيب المتراصة، أو الجمل المتوازية.

ولا عجب في ارتكاز أبو غازي على أصول أدبية فهو يقرر في كتابه "الفن في عالمنا" أن:

"النقد يقتضى بالضرورة ثقافة فنية شاملة وثقافة أدبية معادلة لها. والناقد يترجم الإحساس بالعمل التشكيلي إلى لغة مكتوبة, وبأداة هي الكلمة. ومن ثم فهو يتطلب حساً أدبياً وموهبة حتى يستطيع بالكلمة أن يصوغ ما يستعصى على الكلمات… إعداد الناقد الفني ليس بالأمر اليسير، فهو مزاج من إعداد المؤرخ والأديب والفنان …"

ثم بدأ أبو غازي من الأربعينيات في تكوين ثقافته الفنية الخاصة، مستجيباً لحبه للفنون ليعد نفسه وبجهد ذاتي لدوره كناقد، وبدأت كتاباته تنحاز تدريجياً للغة التشكيل خاصة في دراساته عن الفنانين, لكنها لم تكن إغراقاً في متابعة الشكل وتنحية العوامل الأخرى المحيطة بالعمل الفني، بل ربط دائماً مفردات الشكل بما يمكن أن تستدعيه من دلالات وروابط تعقد الصلة بين الفنان ومجتمعه وبين الفنان وتراثه القومي، وصولاً لتأكيد ما استقر من سمات في تجربة كل فنان توضح ملامح الشخصية المصرية التي حاول أبوغازي تتبعها في جيل الرواد.

وكان لقدراته اللغوية وموهبته الأدبية دوراً هاماً في مساندة أفكاره وتقريب رؤيته للأعمال الفنية، وقد أسهمت ثقافته البصرية في تطوير قدرته على التعبير، كما أسهمت قدرته اللغوية في ترجمة خبرته الجمالية إلى كلمات فجاءت كتاباته بلغة جزلة ممتزجة بثقافة بصرية أسهم في تعميقها علاقاته القريبة والطيبة بالفنانين.

وعلى الرغم من عمق كتابات بدر الدين أبو غازي إلا أنه لم يقدم لغة معقدة ذات اشتقاقات أو تخريجات غير مألوفة، أو متعالية أو مغرقة في تغريبها تحاول أن تحتل مكانة متسامية على حساب القارىء فيشعر أنها لغة متعالية تبحث في عالم هو في الأصل بعيداً عنه، فيفقد الثقة في نفسه أو يشعره بانفصاله عن ذلك العالم وتتحقق حالة الانفصال بين المتلقي والمبدع، لأن الناقد لم يحسن تقديم دوره كما نرى في بعض نماذج الكتابات النقدية الآن، بل قدم أبوغازي لغة عميقة بسيطة تحيط بالعمل الفني كمنتج بصري كما تحيط بسياق عصر الفنان وبظروفه الحياتية وتضع تجربته في موقعها المناسب في تاريخ الفن، وهو بذلك يجمع أهم صفات الناقد الجيد.

متابعة الدراسات النقدية

تابع بدر الدين أبو غازي بجهد دؤوب الدراسات النقدية في الخارج، حيث أن الكتابات العربية في ذلك الوقت لم تقدم دراسات في النقد الفني بقدر ما قدمت إشارات إلى أهمية الفن وتبصيراً بقيمته، ويتضح وعي أبو غازي الكبير بالدراسات الأوروبية في النقد من خلال كتاباته النقدية التي أشار فيه إلى بعض أعلام النقد ومناهجهم لاكتشاف العمل الفني فيكتب عن الدور الجماهيري للناقد كينيث كلارك ويعرض لهربرت ريد ونظرته الجمالية التي تعنى بالبحث عن قوانين البناء الداخلي للعمل الفني. ويكتب عن أندريه مالرو وحواره الدائم مع فنون الحضارات للكشف عن الفكرة التي آمن بها وهى أن الفن هو انتصار للإنسان على العبودية ورسم العالم غير المرئي.

ثم يتطرق إلى رينيه ويج الذي كانت مهمة الفن الرئيسية عنده هي خلق وسيط بين الإنسان والكون، وأظهر اهتماماً واضحاً بالجمع بين الفنان والأثر الفني في إطار العصر الذي ظهر فيه. وقد تناول بدر الدين أبو غازي مناهج النقاد مالرو ورينيه ويج وريد تفصيلياً في دراسته المسماة "بين الفن والنقد"، ووصفهم قائلاً "هم نماذج لقمم عليا في تقويم العمل الفني وربطه بالتيار الحضاري ليمثلوا بذلك الحكمة الكبرى في النقد"، وهذا بلا شك هو النهج الذي تلمسه بدر الدين أبوغازي بوضوح في مساره النقدي، ومثَّل بالنسبة له أحد منابعه الأصيلة في مراجعاته للفنون الجميلة.

ونظراً لثقافته النقدية التي ثابر على دعمها فهو يحمل أفكاراً نقدية معاصرة للغاية، على سبيل المثال يرفض تقييد رؤية العمل الفني بتحديد فلسفي مسبق أو تأصيل العمل الفني على أساس تبني فلسفة معينة للجمال، وقد اعتبر ذلك خسارة للفنان والمشاهد وقيدا نظريا لابد وأن يتمرد عليه الإبداع الفني. كما اعتبر أن العمل الفني نفسه هو محور النقد واندماج الناقد في العمل وتحليله إياه واكتشافه هو المطلب الأساسي أياً كان منهج الناقد.

كذلك فهو يرى أنه "ليس على الناقد أن يقيد المتلقي بموازين حساب محددة تحول دون استمتاعه الحقيقي بالعمل الفني. لابد له أن يترك المتلقي لخياله. ويدعه يقرأ العمل الفني بنفسه ويضيف إلى ضوء الناقد ضياء من عنده، لا أن يقرأ للمتذوق العمل نيابة عنه ويلقي إليه بحكم صارم … الناقد يلقى ضوءا ولا يمسك صولجانا."

وهو في ذلك يلتقي مع نظرية جماليات التلقي (إحدى النظريات التي أسهمت في إعادة تشكيل النظرية الجمالية المعاصرة ووجهت اهتمامها منذ البداية إلى المتلقي بهدف كشف الدور الذي يلعبه في التعامل مع الأعمال الفنية، وقد كان لها الإسهام الأكبر في التركيز على علاقة العمل الفني بالمتلقى لتكوين تاريخ جديد للعلاقات بين الفن والجمهور. وتقوم على افتراض أنه ليس للعمل الفني معنىً ثابتاً، وإنما ينتج المعنى بواسطة المشاهد أثناء فعل التلقي).

عصر بدر الدين أبوغازي

أعان بدر الدين أبوغازي في بنائه لثقافته النقدية توجه مفكري عصره نحو الإعداد لنهضة في مجال الفنون وإيماناً بضرورتها، ذلك العصر الذي وصفه أبوغازي "بالشمولية والتعدد واللقاء بين أهل الفن وأهل الأدب"، وإذا تأملنا الإطار الفكري الذى أحاط بموضوع الفنون الجميلة في العصر الذي عاشه أبوغازي واستقى منه إيديولوجيته الخاصة التي أطلق من خلالها مراجعاته النقدية سنجد أن مقومات هذا الوعي بدأت في مصر مع بداية القرن العشرين في كلمات لطفي السيد وقاسم أمين وفرح أنطوان ومحمد عبده.

كما كتب المازني في كتابه "حصاد الهشيم" يحدد رسالة فن التصوير تحديداً ينطوى على بصر وفهم كذلك تناول بنظرته اللماحة معارض الفنون في العشرينيات بالرأى والتحليل، وراح هيكل يدعو إلى "المصرية" في الفن، وكانت كتاباته عن إيثاره للفن القومي ودعوته لاستلهام التراث، وكان للكاتبة مي تأملاتها الرومانسية أمام عباقرة عصر النهضة الأوروبية.

وكتب سلامة موسى عن الجمال وفق فلسفته الطبيعية التطورية محاولاً وضع نظرية في الفن تمزج بين مادية الغرب وروحانية الشرق. ثم جاء توفيق الحكيم ليوجه جانبا كبيرا من عنايته لدراسة الفن والتعمق في فلسفة الجمال والنفاذ إلى باطن الخبرة الجمالية والانتباه لأهمية الأسلوب في الفن حيث رأى أن الغاية تفنى ويبقى أسلوب الفن خالداً وضمن كتابيه "زهرة العمر" و"تحت شمس الفكر" العديد من الآراء المهمة في مجال الفنون الجميلة. كما نجد أحمد أمين يدعو في كتاباته إلى توثيق الصلة بين الفن والمجتمع.

ونجد العقاد يصيغ أول فلسفة جمالية في الفكر العربي وحدت بين الجمال والحرية عرض ملامحها في كتابيه "المطالعات"، و"مراجعات في الأدب والفنون"، وبالرجوع إلى كتابات بدر الدين أبوغازي نجد توافقاً بين آرائه وآراء عباس محمود العقاد وإيماناً منه بتلك الآراء، بل أنه قام بدراسة عميقة بعنوان "العقاد والفنون التشكيلية"، أفصح فيها عن يقين العقاد بضرورة الفن للمجتمع ودوره كرائد طليعى يدافع عن الفن ويؤكد ضرورته ويحاول أن يضعه في مكانه الصحيح في حياة الأمة.

ولقد التقى أبوغازي مع العقاد في الكثير من مبادئه في الفن، واقترب أيضاً من موقفه من الفن الحديث إلا أن موقف الأول كان أكثر موضوعية في عرض تلك الاتجاهات ومبررات قيامه من خلال كتاباته، ونستطيع أن نتابع ذلك من خلال عقد المقارنة بين نصين الأول للعقاد في إحدى مقالاته الأخيرة يقول فيها:

"إن السيريالية وما إليها من تلك التقليعات هى (موضات) من قبيل العمائم الأميركية في العصر الحاضر، وإننا يجب أن نفرق بين التطور والموضة؛ فالتطور عمل مستمر تتوالى حالاته على التتابع نتيجة حيوية لما تقدمها، ولكن الموضة على خلاف التطور عمل متقطع متقلب يغلب فيه تعمد الغرابة والمخالفة وكل ما يلفت النظر إلى حين."

أما النص الثانى فهو لبدر الدين أبوغازي فى دراسة له ضمنها كتابه "الفن في عالمنا" تحت عنوان "العالم المعاصر وموقف مصر من الاتجاهات الجديدة" يقول فيها:

"الفنان ليس صانع أزياء يتلون حسب موجات (الموضة) ليروج بضاعته، وإنما هو صانع للقيم الوجدانية العليا. عليه أن يلتزم صدقه الفني الخاص ليقدم فناً جديراً بمعنى الفن ورسالته، ولسنا نناهض الابتكار والتجديد، فالفن كالحياة يخضع لحتمية التطور غير أن التطور لا يصح أن يكون افتعالاً .. وفرق بين حتمية التطور الذي يأتي من طبائع الأشياء وبين افتعال التطور الذي يقصر الأشياء على المضي في اتجاهات ضد طبيعتها."

من المقارنة يتضح تقارب الرؤى والإيمان المشترك برسالة الفن والتحذير الضمني من المحاولة المستميتة للحاق بالتيارات المتدافعة التي اعتبرها بدر من إفراز مجتمعات تعيش حياة متباينة عن حياتنا، والاتجاهات المتطرفة التي تحملها فنونها هي من ظواهر التطرف والتمرد والتحطيم في حياة هذه المجتمعات.

وكانت إشارات بدر الدين أبوغازي واضحة في كتاباته تعكس خوفه من ضياع الشخصية المصرية وراء مجاراة كل جديد يظهر في عالم الفن، وكانت هذه الكتابات تحمل طابعاً تنبؤياً لما آل إليه حال الفن المصري الآن وبعد مرور أكثر من ربع قرن على رحيله، لكننا لا نجد الآن من يتصدى لترسيخ فكرة الشخصية المصرية في الفن أو كأنها أصبحت دعوة من الدعوات القديمة التي انتهت بغياب الأفكار القومية ورحيل فكرة الحلم القومي، وتراجع حس النضال من أجل الوطن ليصبح الجميع غارقين في وادى السيلكون الذي انصهرت فيها كل الهويات.

الشخصية المصرية في الفن

كانت فكرة الشخصية المصرية في الفن هي الفكرة الرئيسة التي توجه من خلالها أبوغازي في تناوله النقدي للفنون.

كتب يقول في دراسته عن الفن المصري الحديث في كتاب "محيط الفنون" يشير إلى "الحقبة التي أعقبت قيام ثورة 1919 التي تماثل عصر الإحياء الأوروبي حيث اتجه فيها النظر إلى مجد البلاد القديم وعراقتها تؤكده الكشوف الأثرية الباهرة التي تمت في تلك الفترة وتساندها رغبة المصري في استعادة أمجاده ليقيم عليها حاضره. وكانت الروح الوطنية المتأجحة في النفوس تزهو بفكرة المصرية."

إنه الفكر ذاته الذي انطلق منه بدر الدين أبوغازي وتبناه في مجال النقد الفني، لقد حاول دائماً ربط الفن التشكيلي المصري الحديث بجذوره المصرية، وأكد على أهمية العودة إلى المنابع الأولى ونحن نستقبل التيارات الوافدة الجديدة وعياً منه بالمأزق الذي وقعت فيه الفنون الجميلة المصرية حين فقدت اتصالها واستمراريتها منذ العصر العثماني، مما جعل دور الفنان المصري المعاصر أكثر صعوبة وتشكلت عنده هوة تاريخية كان عليه أن يخطو عبرها ليعيد بناء ما انقطع من أواصر بينه وبين تراثه الفني الأول حتى يستطيع الوصول لشخصية فنية مصرية، وربما كانت هذه هي الثغرة التي استند إليها إيميه آزار في كتابه "التصوير الحديث في مصر" قائلاً:

"لا أعتقد أن بالإمكان تصور أن فن التصوير يبدأ في بلد بلا تصوير متخذاً مانيه أستاذاً ومعلماً له … ومن ثم كان من الجلي أن المصورين المصريين كانوا، والحالة هذه يخرجون من عدم؛ إذ لم يكن لديهم أية تقاليد حية في مجال التصوير." ص22

وإذا كان آيميه آزار جهل أو تجاهل تاريخ التصوير المصري معتبراً أن تاريخ التصوير يبدأ باللوحة المسندية التي قدمها عصر النهضة فإن أبوغازي كناقد مصري وطني عرف دائماً كيف يستدعى هذا التاريخ في الفنون المصرية المعاصرة، ويحض على دعم هذا التواصل وبناء الجسور التى انقطعت بين تاريخ الفنون المصرية قديماً وحديثاً، وقد أفرد جزءاً كبيراً من كتاباته عن تاريخ مصر وما قدمته للتراث الإنساني في فن التصوير، نشير لمقتطفات من نموذج منها أورده في كتابه "رواد الفن التشكيلي" حيث كتب:

" … ولقد اتخذ المصريون هذا الفن (يقصد فن التصوير) أداة للتعبير قبل الإغريق بستة آلاف كما أشار بلينوس الأكبر .. وكان محور الفنان المصري القديم تصوير مشاهد الحياة الدنيا وخدمة الحياة الأبدية معاً. وظل فن التصوير يبعث كل يوم براعات جديدة ويتعمق التيارات الخارجية دون أن تؤثر على أصالته … لا الأمثلة التي قدمته من آسيا الصغرى ولا من تعاليم الإغريق ولا الغزو الروماني … وعندما فقدت مصر الفرعونية استقلالها مع الغزو البطلمي والروماني قامت في عصر الاضمحلال مدرسة فنية جديدة تعتبر طليعة لفن التصوير هى مدرسة الفيوم وهي مدرسة مميزة المعالم في فن تصوير الأشخاص تعد اكتشافاً للون كقيمة أساسية مع النفاذ إلى التعبير الداخلي العميق عن جوهر الشخصية، مدرسة تقدمية أدرك العالم نداءها بعد قرون من الزمان. وإلى جانب مدرسة الفيوم كان فنانو العصر الصاوى يبحثون بشغف عن (الصورة الواقعية).

وكانت مدرسة الإسكندرية تحاول الجمع بين نظرة الشرق والغرب وبعثت مراسمها أعمالاً بدأ فيها التعدد والاختلاف … ثم بدأت مرحلة جديدة بحلول العناصر القبطية الوطنية … وظهور فن مميز يستمد عناصره الزخرفية من أصول شرقية بيزنطية … حتى بدأت مصر عصرها الإسلامي الذي تميزت معالمه في العهد الطولوني فأخذ التصوير يتسلل من خلال المنسوجات في شكل وحدات زخرفية ثم ظهرت الصورة البارزة في قصور الأمراء وصور الحظايا والقيان. وتجلت شخصية التصوير المصري الإسلامي في العصر الفاطمى في لوحات جدارية تمثل الأمراء في مجالس الطرب والرقص ومناظر الصيد والسفر وتجمع بين التجريد الزخرفي وعناصر التشخيص التصويري، كذلك ظهرت مدرسة لتزيين الكتب بالصور في العصر الفاطمي، كما استخدم اللون في البناء في العصر المملوكي. وحين اختفت المدارس الفنية الكبرى لم يفقد الشعب شغفه بالتعبير اللوني من خلال آثار الفنون الشعبية حتى جاءت الحملة الفرنسية وتوافد بعدها الفنانون الأجانب يصورون مصر ويملأون قصور الأغنياء بالصور الشخصية وبلوحات المناظر بأكاديمية تعليمية هابطة … وعندما أخذت مصر تتلمس الحاجة إلى العودة للتعبير الفني لم تلتفت إلى هذا البناء الفني الشامخ الذي شادته حضارتها وإنما بدأ تعليم الفن في مدرسة درب الجماميز سنة 1908 أو في مراسم الفنانين الأجانب بأساليب أكاديمية غربية …"

وهو كناقد مصري تحمل كتاباته شكلا من أشكال النضال الوطني في المضمار الذي اختاره محاولاً من خلاله إعادة بناء الشخصية المصرية في الفن المعاصر وإستدعاء حضورها الأول وكتاباته سجلاً لأفكاره ورسالته وإيمانه بضرورة الفن، فبالإضافة لكتبه التي ضمنها تلك الرسالة ودافع عنها نجده يقوم بدراسات حول: الفنون الإسلامية من منظور جديد للتراث، والنحت في الفن الإسلامي، ويقدم دراسة عن مكانة الفن في الحضارة الإسلامية وبحثاً عن الشخصية القومية وانعكاسها على الفنون في مصر عبر العصور، كما يقدم بحثاً عن الطابع القومي في الفنون العربية ومكانة الفن في المجتمعات العربية القديمة الذي قدمه في المؤتمر الأول للفنون التشكيلية في الوطن العربي.

ودفاعاً عن هذا التاريخ للفنون الجميلة المصرية الذي توارى انبرى بدر الدين أبو غازي يكرس لأهمية عقد الصلة بيننا وبين فنوننا التراثية ويحمل الدعوة إلى الإنتماء القومي ويضمنها جل كتاباته النقدية، إيمانا منه بأهمية ذلك في تحقيق توازن أكبر في استقبال الاتجاهات الفنية الماصرة واعتداد أقوى بالشخصية الفنية المصرية التي تراجعت تحت عدة عوامل أوجزها أبوغازي من خلال كتاباته في: ظهور الفن المصري المعاصر بعد فترة صمت عن التعبير الفني جعل عملية الإمتزاج الحضاري التي درجت عليها مصر في مراحل سابقة عدة تصبح أكثر صعوبة بسبب انقطاعها الزمني عن ممارسة الفنون والذي توازى مع التلاحق الكثيف للتيارات الجديدة في الفن الأوروبي، وكذلك اقتناع الكثير من الفنانين بالتعاليم الأكاديمية الأوروبية، أو اتباع مذهب بذاته، أو الانقياد لبريق بعض الفلسفات المعاصرة وتبنيها دون تقديم مردود تشكيلي هام لها، ودون أن تكون ذات ارتباط بواقعنا المصري.

ونستطيع متابعة تلك المفاهيم أيضاً من خلال دراساته لفناني مصر, فقد كان يتلمس دائماً ملامح الشخصية المصرية؛ إذ كان يكتب وهو يحمل فكره معه في قراءة وتقديم أعمال الفنانين إلا أنه لم يكن يفرض مسبقاً هذا الفكر بقدر ما كان يستنبط من أعمال الفنانين ما يتسق مع بحثه عن معالم تلك الشخصية.

وإذا تتبعنا ذلك من خلال كتاباته فنجده يقول:

"كان طموح هذا الجيل يستحث به الخطى فلم يقنع بمصر موضوعاً له، وإنما أراد أن يبتدع أسلوباً مصرياً يصوغ منه روح مصر في تماثيله ولوحاته وأن يعوض ما فاته في مرحلة من اتصال قريب بالتراث المصري."

وبالطبع كان مختار هو فنانه النموذجي الذي خصه بأكبر دراساته النقدية ليس فقط لتشربه القريب لأفكاره ودوره الهام في بنيانه الفكري وأيضاً النفسي كخال عائل لأسرته يعينها على حياة كريمة بعد وفاة الأب في سن الشباب، بل أيضا لأنه كان مثالا للفنان الذي وجد سبيله إلى فن مصر القديم يستخلص منه صورة عميقة للروح المصرية دعمها بدراسته للفنون الغربية فاستطاع تقديم نموذج للشخصية المصرية المعاصرة، حيث "تمثل شخصية مختار في النحت تعبيراً تشكيلياً متكاملاً عن روح مصر .. وجاءت أصالة فن مختار من منابع ثلاثة: التراث، والبيئة، والعصر … كانت في أعماله روعة التمثال المصري القديم، ورقة تماثيل التناجرا، وسمو المئذنة، ورشاقة الإناء الإسلامي."

لقد رأى أبوغازي أن فن مختار قد تمثل القيم الحضارية للتراث الفني المصري في العصور المختلفة مع إدراكه لثقافة الفن المعاصر وتياراته، وكان هذا هو التصور الأمثل عنده لتقديم فن مصري معاصر يحتفظ بالشخصية المصرية دون انغلاق.

وإذا كان مختار هو الفنان النموذجي في تحقيق الشخصية المصرية في فن النحت عند أبوغازي فإن محمود سعيد كان بالنسبة له هو الفنان "النموذجي" الذى استطاع أن يقدم معادلاً تشكيلياً لما كانت ترنو إليه أفكار بدر لإقامة شخصية مصرية في فن التصوير، فقد قدم ـ كما يقول أبوغازي ـ "فناً مصرياً دون أن يكون تقليداً لطراز من طرز الفنون التي أبدعتها مصر .. تتمثل مصريته في التقائه بالخصائص الأصيلة التي انبعثت من تقاليد مصر الفنية، ونفس الوقت تأمله للتقاليد الفنية التي ظهرت على شواطئ الغرب من جيوتو حتى العصر الحديث."

فقد استطاع محود سعيد أن يلمح جلال الصمت والإحساس بالأبدية وهى جوهر الفن المصري القديم, فكتب عن سكينة الأبدية حتى في مشاهده التي تعج بالحركة كمناظر الصيد والذكر الزار والمدينة والصلاة، وهذا ما نجده فى تصاوير جداريات الدولة الحديثة.

كما كتب أبوغازي عن الرؤية الأسطورية للأشياء عند محمود سعيد وقدرته على الجمع بين الواقع والرمز فى أعماله ممتلكاً سر تحويل العالم العادي بمفرداته إلى عالم أسطوري خاص ينبثق في أرض غريبة ويبعث للرائى بأحاسيس مبهمة. ويشيد بقدرة محمود سعيد على تحقيق شخصيته المصرية في التصوير من خلال نزوعه إلى الاهتام بالكتلة ومتانة الأداء وقوة التكوين مع روعة التبسيط وقدرته على الجمع بين صياغة كبار أساتذة الفن الأوروبيين وبين الصياغة المصرية القديمة.

ويكتب أبوغازي عن محاولة ناجي لخلق أسلوب مصري جديد عن طريق إدماج فن التصوير الأوروبي مع المقومات المصرية التي اهتدى إليها من نظرة إلى الجو المصري والآثار القديمة ويسجل أن ناجى قد "بشر بالعودة إلى الفرسك المصري القديم، وأشار إلى ما يمكن أن يؤديه التصوير من رسالة اجتماعية حين يخرج من نطاق لوحة المرسم إلى جدران المباني العامة ليسجل مشاعر عصره ومثله وأحداثه."

وعلى الرغم من إشارته إلى الأسلوب الأوروبي لمحمد حسن، فإنه يلوح بمصرية الموضوع وانعكاس صفاء الجو وإشراق الشمس المصرية على الكائنات المصورة، حيث كان الروح القومي في عصر الإحياء المصري يذكى فكرة "تحقيق الذات المصرية" في كافة مجالات الحياة، فالتمس محمد حسن تحقيق هذه الفكرة عن طريق "مصرية الموضوع".

ويتوقف عند إحياء محمد حسن لدور الفنان الصانع بمدلوله المصري القديم، فاللغة المصرية القديمة لم تعرف التفرقة بين الفنان والصانع، حيث كان الفنان المصري القديم هو مبتكر الفكرة وصانعها … وقد لمس محمد حسن مجال الفنون التطبيقية والحاجة إلى إحيائها باعتبارها من مقومات عصر النهضة المصرية على اعتبار أن الصناعات الفنية في مصر مثلت قوة شعبية حاول أن يطمسها الطغاة في عصور سابقة.

ويشير بدر الدين أبوغازي إلى أثر تصاوير الكنائس وخطوط النقوش المصرية القديمة على أعمال راغب عياد الذي خرج من هذا الجيل فناناً متمرداً على الصورة التقليدية لمصر وتناول حياتها الشعبية بخطوط جريئة لها وشائج ترتد إلى أسلوب الفنان القبطي والفنان الإسلامي في معالجة صوره. كما أشار إلى مكانة يوسف كامل التي تتمثل برأيه في أنه "مضى بخط الفنانين المستشرقين نحو نظرة مصرية وجو مصري، ولقد كان جو مصر وطبيعتها في حاجة إلى هذا الوجه من وجوه التفسير الفني للأشياء ضمن أساليب التعبير المتعددة."

ويلمح إلى أصالة الرؤية المصرية في تجربة الجيل الثاني الذي اهتدى بتجربة الجيل الأول كما ظهر في أعمال إبراهيم جابر، وعبدالقادر رزق، وأحمد عثمان، ومنصور فرج، ويشير إلى المصرية التي تتجلى بصورة أخاذة في أعمال عبدالسلام الشريف الذي استوحى صنعته الفنية من عمال "الخيمة" وحقق بهذه الطريقة صوراً مصرية في أحاسيسها وفي بساطة تكوينها وجمال خطوطها.

بينما أبدى أبوغازي بعض التحفظ على تجربة الجيل الثالث الذي ضم رمسيس يونان، وفؤاد كامل، وكامل التلمساني، بسبب تأثرهم بالثقافة الأوروبية، ووصف بعضهم بأنه يعوزه العمق والأصالة الفنية وغلبة ثقافتهم العامة على مقدرتهم الفنية. ولم يتوقف طويلاً عند أعمال هذا الجيل باستثناء حامد عبدالله الذي تحمس كثيراً له لأنه رأى فيه صاحب نظرة باحثة في أصول الفن الفرعوني، استطاع أن يكسب فنه من خلالها الاستقرار والدوام فكتب قائلاً:

"وقوام نظرية حامد إن الضوء في مصر يسطع فيضعف حدود الأشياء ويسيطر على مساحة واسعة من الفراغ مكوناً هالة حول الأشكال وهو في شعاعه الساطع يكاد يمحو الظل فينعدم تباين الألوان وتهدأ وتؤدي شفافية الظلال إلى تلاشي العمق فتبدو المناظر ذات بعدين … لقد أقام دعائم المدرسة المصرية في التصوير، مدرسة خاصة تدرس النور من وجهة النظر المصرية لا على طريقة اللمحة التي اتسمت بها أعمال الانطباعيين."

لقد وجد تفسيراً ذا جذور مصرية لتناول حامد عبد الله للضوء في أعماله في الوقت الذي كان يمكن فيه أن يقرأ ناقد آخر هذه الأعمال على إنها تعكس أصداء التجريد في التصوير الغربي.

كما أشار لاكتشاف وجه مصر من خلال فن الطفل والفنون التلقائية على يد حبيب جورجي، والنفاذ إلى باطن الحياة الشعبية كما اتجه حسين يوسف أمين وأصحابه وارتباط الفن بالطبيعة المصرية من خلال قراءة مثابرة للتراث المصري كما فعل حامد سعيد ومريدوه.

وفي النحت يشير أبوغازي إلى أن جمال السجيني يسجل أحداث وقته على ألواح النحاس كما سجل النحات المصري القديم معارك أبطاله وانتصاراتهم، ويشير إلى استيعاب آدم حنين لأشكال البيئة المصرية مضفيا عليها ملاح العصر العتيق لتعيش في عالم الجوهر النحتي، ثم يتقل بنفس الرؤية الباحثة عن الملامح إلى المصرية فيشير إلى تجربة النحاتين الجدد ـ في ذلك الوقت ـ فيكتب عن قدرة صالح رضا على إبداع صيغة نحتية جديدة تحتوى الفلكلور الشعبي والزخارف العربية، وعن تماثيل أحمد عبدالوهاب التي تمضي على خط التراث المصري الممزوج بأساليب المحدثين، وعن تماثيل محيي الدين طاهر للفتاة المصرية التي تكشف عن جماليات الحارة المصرية.

ثم يعود للتصوير ليتوقف في تجربة الأخوين وانلي وتحية حليم عند تصويرهم لحياة النوبة واستتحضارهم لأجوائها اللونية، ثم يتوقف عند استلهام الحياة والأساطير الشعبية عند عفت ناجي وعبدالهادى الجزار وجاذبية سري وحامد ندا وحامد عويس كل بمدخله الخاص.

وهكذا يتضح لنا منظور بدر الدين أبوغازي الواضح في تناوله النقدي للفنون، الذي كان يحمل رسالة قيمية هامة أخذ على عاتقه القيام بها وهي تكريس سمات الشخصية المصرية في الفنون التشكيلية.

المنهج النقدي لبدر الدين أبوغازي

يقول بدر الدين أبوغازي في كتابه "الفن في عالمنا"، "إن الأثر الفني هو محور النقد، واندماج الناقد في الأثر، وتحليله إياه، واكتشاف سر جماله، هو المطلب الأساسي أيًّا كان منهج الناقد وأسلوبه … وإلى جانب الأثر الفني هناك الفنان منتج الأثر، والظروف المحيطة به، تلقى أضواء على تقويم الأثر وتحديد مكانه من عالم الإبداع، وهناك أيضاً التناول التاريخى للعمل الفني … الحكم على العمل بوصفه نتاجاً لفترة معينة … فكل عمل فني ليس إلا نتاجاً لنقطة معينة في الزمان والمكان … ومن ثم لا نستطيع أن نستبعد العصر والبيئة في حكمنا."

وهنا يعلن بدر الدين أبوغازي بوضوح عن منهجه النقدي الأقرب وهو المنهج السياقي ومن المنطقي أن يكون المنهج السياقي هو أنسب المناهج التي كان لابد وأن يتبعها أبوغازي حيث أن النقد السياقي هو ذلك النوع من النقد الذي يبحث في السياق التاريخي، الإجتماعي، النفسي، للفن. فسياق العمل الفني يشمل الظروف التي ظهر فيها العمل، وتأثيراته في المجتمع، ويشمل بوجه عام جميع العلاقات المتبادلة بين العمل وبين الأشياء الأخرى.

والناقد السياقي يدرس العمل الفني على أساس المؤثرات التي تمتد خلف التركيبات المرئية للعمل الفني، ومن حيث المؤثرات البيئية والثقافية المحيطة بإبداع العمل الفني، والظروف الحياتية للفنان، ويقوم باستخدام ما تقدمه المعرفة الإجتماعية بما يسهم في فهم مضمون العمل الفني، كذلك فإن نظرية النقد السياقي بينت لنا أن خلق الفن ليس مسألة إلهام فردي فحسب بل هو نشاط إجتماعي من بين أوجه النشاط الأخرى. فالنظرية السياقية وضعت الفن في إطاره الطبيعي، فالفن الجميل ليس سراً روحياً غامضاً وإنما ينشأ في ظروف الحياة البشرية، ويفي بحاجات بشرية.

وفضلاً عن ذلك، فإن أصول الفن متعددة إلى غير حد. وبقدر ما تؤدي إلى جعل العمل الفني على ما هو عليه من تركيبة الباطن، فانها تخلق قيماً مختلفة في النواتج الفنية لمختلف العصور والثقافات.

وبالفعل فقد تحققت بوضوح ملامح المنهج السياقي في كتابات بدر الدين أبوغازي، على سبيل المثال في تناوله النقدي لتجربة الفنان الكبير محمود سعيد أشار إلى ظروفه الحياتية "كرجل قضاء موزع بين رغبته الدفينة في أن يهب للفن حياته وبين التزامات المجتمع الذي فرض عليه أن يكون من رجال القضاء وأن يظل منتظماً في سلك يتطلب التوفر على الجهد والبحث، بينما صوته الصادق يدعوه إلى الانطلاق من قيود مجتمعه ومنصبه. وهذا وجه آخر من الصراع في نفس محمود سعيد … صراع بين المذاهب الفنية المختلفة وصراع بين نفسه والمجتمع."

كما يشير إلى ملامح عصره حيث كان أحد أفراد جيله دائب البحث في سبيل إيجاد فن قومي يستلهم البيئة المصرية مضموناً وصياغة وكان من القلة التي استطاعت أن تحقق فكرة الشخصية المصرية في الفن في ظل التيارات المتعددة التي أحاطت بميلاد الفن المصري المعاصر وألقت على جيل الرواد مشقة رحلة عميق الأبعاد متعددة الطرق بعد فترة صمت عن التعبير الفني.

وقد تكرر ذلك الارتباط السياقي في جميع كتابات أبوغازي ملتفتاً إلى أن كل إبداع محاط بعوامل وأطر عدة لا يستطيع الناقد الواعي أن يتجاوزها حتى لا يتحول نقده فقط إلى متابعة شكلية للعمل الفني فينزع عنه أحد صفاته الهامة كظاهرة إنسانية سيتردد صداها في أجيال أخرى قادمة.

وفي النهاية كانت هذه محاولة لإلقاء الضوء على تجربة نقدية جادة نعترف فيها بقيمة بدر الدين أبوغازي كناقد مصري كبير في ظل تجربة النقد التشكيلي التي مازالت قائمة على الجهود الفردية علنا نكرر من خلالها دعوته "في الكلمة إحياء لفنون الشكل .. ولا نهضة فنية بلا نهضة في النقد تواكبها."

ونختتم بكلمته "النقد مطلب وقضية، وليس بعسير إذا ما هيأت الدولة الظروف لنماء النقد وازدهاره من أن يصدر عن مصر وجهة نظر أصيلة في النقد."

المراجع:

ـ بدر الدين أبوغازي: رواد الفن التشكيلي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2007.

ـ صبري منصور: دراسات تشكيلية، سلسلة آفاق الفن التشكيلي، 2000.

ـ بدر الدين أبوغازي: المثال مختار، سلسلة آفاق الفن التشكيلي، 2003.

ـ بدر الدين أبوغازي: الفن في عالمنا، دار المعارف، مصر، 1973.

ـ زكريا إبراهيم، فلسفة الفن في الفكر المعاصر، مكتبة مصر، بدون تاريخ.

ـ بدر الدين أبوغازي: محيط الفنون، دار المعارف، مصر، بدون تاريخ.

ـ بدر الدين أبوغازي: مصر في رؤى فنانيها، دراسة منشورة بمجلة الهلال, دار الهلال، العدد الماسي ديسمبر 1967.

ـ ناجي رشوان: الوعي الحضاري وأساطير التصوير، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية (107)، 2000.

ـ سامي إسماعيل. جماليات التلقي. المجلس الأعلى للثقافة. 2002.