انتظار

ستأتي كاشراقة الشمس عقب المطر.
ستجلس أمامه في مهابة ، ويتقافزان بحديثهما من ضفة إلى أخرى.
سيشكو لها بألم وحدته، وكيف تبخر الأصدقاء ، الواحد تلو الآخر، كمدا أو عشقا أو جنونا أو اغترابا.
منهم من غيبه البحر ، أو هوى من ارتفاع شاهق ، أو قضى بمستشفى بداء غامض ،أو بغرفة باردة في إحدى دول الشمال الأوروبي.
ستأتي حتما.
جلس على نفس الكرسي بذات المقهى الذي يرتاده منذ عشرين عاما، بالقرب من حوض أسماك الزينة التي تسبح في حلقة مفرغة داخل المستطيل الزجاجي الذي تتوزع داخله أصداف بحرية ونباتات ( بلاستيكية ) وطاحونة تنفث فقاعات الأكسجين.
ستأتي.
وسيردد عليهابانشراح مقاطع كاملة يحفظها غيبا من رواية ( الحب في زمن الكوليرا).
سيبوح لها بشوق بكل أسراره الصغيرة التي كتمها في قلبه طيلة سنوات . وسيلقي عليها ما احتفظت به ذاكرته من دعابات سمعها طوال حياته.
سينقل لها بحنين أخبار حيهم ، وكيف آلت الأمور في شارعهم القديم .
وتلاشي الساحة التي ركض بها صبيا ، وعن حديقة الأطفال وكيف هجرتها أسراب الحمام ، ولماذا اختفت المراجيح وحلت محلها خيول خشبية لاتبرح مكانها وتخلو من أي تعبير.
سيخبرها بحزن عن تلك العجوز التي تعمل بمسح بلاط المستشفى لتؤمن مصاريف الدراسة الجامعية لابنتها الوحيدة.
وعن جارته الودودة التي تطوعت لغسل ملابسه ورتق جواربه ومده بوجبات الطعام.
ستأتي ، وسيتنادمان ، ويبكيان شوقا.
سيغني لها بمرح ،وسيشبك أصابعه بأصابعها ويغيب في عينيها.
ستأتي . لايساوره أدنى شك في هذا.
سيحدثها بفخركيف انفجر في وجه مديره الأجوف ذات يوم، وطرده من العمل.
سيخبرها بحميمية عن المدن التي عشقها ، وتلك التي حلم بها ولن يراها مطلقا،ومقاطعته للصحف ، وامتناعه – في السنوات الأخيرة – عن تناول لحوم الحيوانات ، لاخوفا من ( الكوليسترول) بل لقناعته بأنه ليس من الإنصاف افتراس الكائنات التي تشاركنا البر والبحر.
سيقرأ لها بوله النصوص التي جمعها والتي تحكي عن ضياع العمر والانكسارات والأطفال الذين يموتون جوعا والحروب المجنونة و سهاد المطلقات الطويل .
سيحكي لها بحسرة عن اللقاءات العابرة مع نساء كحبات الكرز صادفهن في صالات الانتظار بالمطارات أو ردهات الفنادق أو أولئك الرجال المنهمكين بأعمال لايعرفها أو سحنات رجال الشرطة المتشابهة في جميع دول العالم.
وسيبوح لها بانكسار عن لياليه الحزينة في أمسيات الصيف ، وزياراته لقبر أمه ورشه بالماء ، وإدمانه التدخين والقهوة وقراءة المعلقات.
اتكأ على عكازه ، نهض بتثاقل ،غادر المقهى المزدحم برواده، مضى يشق طريقه في ليل تكاثف ظلامه.

طرابلس/ 2010/ ليبيا