الوجه الآخر للرياضة

ليست الرياضة مجرد جملة من الأنشطة البدنية والحركية،التي يؤديها الفرد بشكل يومي أو بشكل دوري،وإنما هي حق من حقوق الإنسان يتوجب على الدولة حمايته وصيانته،وذلك من خلال توفير مرافق لممارسة الرياضة مثل:(الفضاءات الخضراء،ملاعب قرب في البوادي والحواضر،مسابح مغطاة،قاعات رياضية متعددة التخصصات...) وإتاحتها في وجه العموم بما يحقق لكل المواطنين مزاولة أنشطتهم بشكل مريح ومنظم،والغاية من ذلك تحقيق التوازن الجسدي والنفسي في صفوف الأفراد،لأن الإقبال على الرياضة من شأنه ان يقلص خطر الإصابة من عدة أمراض ويقلص هامش الإضطرابات النفسية،لأنها تعمل على التنفيس عن الأفراد وتخلصهم من ضغوطات الحياة وصعوباتها.
إلا أن وظيفة الرياضة لا تنحصر عند هذه المؤشرات،بل تتجاوزها لتشمل بعدا آخر هو البعد الدبلوماسي،فهي أصبحت من المعايير التي تقاس بها عظمة الدول وقوتها،ويمكن التدليل على ذلك بتسيد الدول المتقدمة على سبورة الميداليات في مختلف الدورات الأولمبية،إذ عادة ما نجد دول الصين والولايات المتحدة الأمريكية و اليابان هي من تحتكر ترتيب الدول العشرة الأولى في الترتيب الأولمبي العام،وفي المقابل نجد الدول المتخلفة متذيلة الترتيب إذ نجدها في الصفوف الأخيرة وفي حوزتها رصيد محتشم من الميداليات لا يتعدى في أحسن الأحوال 20 ميدالية ملونة،إن هذا المعطى يبين كيف إستطاعت الدول المتقدمة إستغلال الرياضة كعامل بيرز قوتها على الصعيد الدولي ويقدم صورة رمزية عن عظمتها،ولا يتحقق هذا المراد إلا بتدريب الرياضيين جيدا ورصد إعتمادات مالية مهمة لهم،وتغذية مشاعر الولاء لديهم وإذكاء روح القومية لديهم.
لقد ساهمت الرياضة،عبر قاطرة الألعاب الأولمبية في إخماد نيران الحروب وقامت بلم شمل العالم تحت سقف واحد يطبعه التسامح والتنافس الشريف،ففي اليونان القديمة كانت الحروب تحرم في أوقات العرس الأولمبي وكانت القبائل المتحاربة تؤجل الحرب إلى حين نهاية الألعاب الأولمبية إحترام لقدسية هذا الحدث،مع العلم أن هذه القبائل المتحاربة كانت تلتقي فيما بينها في هذا المحفل الرياضي ويتبارى أبطالها فيما بينهم في قالب أخوي وحبي نابذ لكل أشكال التعصب والكراهية.
إن الرياضة أصبحت منذ فترة العشرينيات من القرن الماضي إلى الآن فضاءا للحروب الباردة والأيديولوجية،ففي حقبة الديكتاتوريات الأوربية
(الفاشية والنازية) كان الزعيم الفاشي موسيليني
يعتبر فوز المنتخب الإيطالي بكأس العالم لكرة القدم،بمثابة إنتصار الفاشية على العالم،وفي نفس الإتجاه صار حليفه العسكري،عدوه الرياضي الزعيم النازي هتلر،إذ إعتبر فوز المنتخب الألماني باللقب العالمي يعني إنتصار العرق الآري على العالم وإحكام قبضته عليه،وبناءا على هذه المحددات تتبلور أمامنا حقيقة مفادها أن هذان الزعيمان إعتبرا أن الرياضة وسيلة للدعاية السياسية وليس مجالا للمنافسة الشريفة والتسامح والروح الرياضية.
وفي نفس السياق شهدت حقبة الثمانينات من القرن المنصرم،صراعا باردا،بين المعسكرين الشرقي والغربي،الشرقي بقيادة الإتحاد السوفياتي،والغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية،إتخذ من الألعاب الرياضية مسرحا له
بحيث كان يتم تفسير تتويج بطل بميدالية ذهبية أولمبية ينتمي لدول المعسكر الشرقي بمثابة إنتصار للإتحاد السوفياتي وإبراز قوته للعالم.ونفس الأمر ينطبق على المعسكر الغربي،فتتويج بطل ينتسب إلى هذا المعسكر بقلادة ذهبية أولمبية يعني إنتصار الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها الخارجية وتلميع صورتها أمام العالم،وهنا يبرز دور الإعلام كفاعل في التسويق لمثل هكذا أيديولوجيات،وهنا تبرز قضية التشفي ،إذ يتم تفسير فشل أبطال هذان المعسكران في التتويج الأولمبي بفشل سياساتهما وعدم كفاءتهما لقيادة العالم.فتتويج بطل أمريكي باللقب الأولمبي يوازيه خطاب إعلامي يروج لعدم أهلية المعسكر الشرقي على مختلف الأصعدة،والعكس صحيح.
إن تتويج سعيد عويطة ونوال المتوكل بميداليتين،ذهبيتين أولمبيتين في فترة الثمانينات من القرن الماضي،ساهم في تقديم صورة مشرفة عن المغرب وعن مؤهلاته البشرية،إذ قبل هذه الفترة لم يكن يعرف الكثيرون المغرب وبفضل هذان الإسمان البارزان،في عالم ألعاب القوى صار المغرب معروف لدى ساكنة العالم ومن الراجح أنهما ساهما بهذا الإنجاز بدفع الكثير من السياح إلى زيارة المغرب والتعرف على عاداته وتقاليده وساكنته إذن لعب البطلان دور السفيران اللذان سوقى للبلد من بوابة الرياضة،وأعطا درسا للعالم مؤداه ؛أن الرياضة عالم لا يؤمن بالمستحيل،عالم الأجدر فيه يرصع عنقه.
لم تسلم الرياضة من عفن السياسة،ولا من مؤامراتها الخبيثة،ففي السنون الأخيرة برزت قضية الصحراء المغربية على الواجهة الرياضية،بداية بإنسحاب الجزائر من كأس إفريقيا لكرة القدم المصغرة لعام 2020،كتعبير منها عن رفضها حضور حدث رياضي تنظمه مدينة العيون التابعة للصحراء المغربية،ففي إنسحابها عدم إعترافها بمغربية الصحراء،وهذا غيض من فيض فهي لديها سوابق في هذا المجال إذ سبق لفرقها أن إنسحبت من بطولات إفريقية لكرة اليد أقيمت بنفس المدينة
تعبيرا عن عدم إعترافهم بكون الصحراء مغربية.
ودفع تشويه معالم خريطة الصحراء المغربية وإلحاقها بالتراب الجزائري في حفل إفتتاح بطولة إفريقيا لتنس الطاولة والتي جرت أطوارها قبل الجائحة بالجزائر،إلى إنسحاب البعثة المغربية من المسابقتين تعبيرا عن إستنكارها لهذا الفعل الشنيع الماس بكرامة الوطن.
لكن الرياضة ليست دوما مجال لتغذية النزاعات وتأجيجها بل لها وجه حميد،يتجلى في العمل على توحيد الشعوب وتآزرها والدليل على ذلك نجاحها في تطبيع العلاقات بين الدول وتحسينها،بحيث إستطاعت الرياضة ردم الصراع بين الكوريتين الشمالية والجنوبية،إذ شاركت كورية ببعثة موحدة تضم أبطال الكوريتين في مسابقات رياضية من قبيل:(الألعاب الآسيوية لعام 2018،فريق كرة السلة موحد،وفي الألعاب العالمية للمعاقين لعام 2019،ببعثة موحدة في جميع الرياضات)بعد هذه المشاركات عادت العلاقات بين البلدين إلى الحركة على مختلف المناحي بعدما كانت محظورة فيما مضى.إذ مجرد مصافحة بطل كوري جنوبي لبطل كوري شمالي تعني إعدام الإثنين أو سجنهما مدى الحياة