المصطلح المستبد

في كتابه ( الأدب وفنونه) يقول الدكتور عز الدين إسماعيل إن التعريف يعني نهاية عملية التفكير، وذلك في سياق بحثه عن تعريف محدد للقصة القصيرة، لهذا يراها الفن السرد الأكثر تحرراً من قيود التعريفات الاصطلاحية. فهل يمكن للغة النقدية أن تبلغ درجة كاملة من الدقة العلمية بمعزل عن المصطلح؟

أم أن ثمة هامشاً يظل خارج محيط الدقة، يسمح بدرجة أعلى من الاختلاف الذي قد يصل ـ أحياناً ـ إلى حد التناقض ليؤكد حرية التعبير القصصي؟

في ظني أن هذه المساحة ـ الهامشية ـ هي الأكثر فاعلية ، والأكثر قدرة على حمل حالات قصوى من التعدد والاختلاف .

لدينا في الواقع مجموعة من الكوابح التي تحد من مساحة هذا الهامش ، هذه الكوابح هي في نفس الوقت ثوابت ومرجعيات توفرها شروط باتت مرغوبة في الإجراء النقدي إلى حد مفرط ، إلى حد يظن أنها كافية لضمان لغة نقدية أقرب إلى الدقة .. إن سلامة الإجراء تضمن سلامة المنهج ، وسلامة المنهج تحقق شرط الموضوعية ، هذا الكلام يصدق تماماً إذا كان هدفنا هو الموضوعية ، ولكن ..ألا تتعارض هذه مع معنى الإبداع بوصفه انحرافاً وتأبياً على الانتظام والدقة ؟ ثم بوصفه انحيازاً لموقف جمالي من العالم ؟.

إن درجة من الفتنة بين الناقد والنص تفيد الموضوعية مثل قليل من النبيذ ،وربما نحتاج إلى قدر أكبر من الإنصات الداخلي للنص دونما يقين ببلوغ الحقيقة .

سنحتج هنا بأن للعمل الأدبي نظامه الجمالي ، قانونه الداخلي الذي يتحكم في طريقة عمل وحداته الجمالية ، وهكذا تكون للناقد مهمة مقدسة ، هي الكشف عن طريقة عمل هذه القوانين .

ولكن أي شيء في الإبداع يماثل الواقع حتى نتصور أن قوانين الإبداع تماثل في مفهومها القوانين في الواقع ؟

نفس الأمر يمكن أن نقوله عن الدقة ،عندما يصدر إبراهيم أصلان معلنا عن مشروعه الجمالي في رواية مالك الحزين ..( يا ناثان أوصيك بالدقة لا بالوضوح )[1]

فهل الدقة هنا تنفي وجود الالتباس الذي هو شرط من شروط الإبداع ، وتجسيد لطاقته التخيلية الجبارة ؟

إن الواقع الإبداعي نفسه يختلف عن الواقع المعيش بقدر ما يتوفر له من درجات الالتباس ، ومن ثم فإن الدقة التي ينصح بها ، هي في تصورنا شيء مختلف عن مطلق الدقة ، أوهي دقة الالتباس .

نستطيع القول إن اللغة النقدية مهما بلغت دقتها فستظل عاجزة عن الإحاطة بالنص الأدبي ، وستظل ثمة مساحة منفلتة ومراوغة تتأبى على الاستسلام لما نظنه صواباً أو حقيقة ، ولا نبالغ لو قلنا إن هذه المساحة ـ بالضبط ـ هي مناط الأدبية في العمل الأدبي ، أي أن النص الأدبي يقع عادة في هامش الخطاب النقدي وليس في مركزه.

 إن هذا الأمر مهم جداً بالنسبة لناقد غير معنى بالموضوعية ، فالنص النقدي في النهاية ليس حكماً قضائياً ، بل هو نص مؤسس على نص ، ومن ثم فهو قابل للتداول بنفس الطريقة التي نتناول بها النص الأدبي ، بمعنى أنه يمكن إعادة إنتاجه عبر القراءة ، وفي هذه اللحظة فإن الفضاء أو الهامش الذي يفتحه النص النقدي يمثل طاقة العمل الحقيقية فيه ، كما أن هذه المساحة بمثابة الأس المجهول في الخطاب النقدي حيث تظل دائماً مستعصية على الإثبات.

إنها المساحة المحايدة التي يستوي فيها الأعمى والبصير ، لأن التحرك فيها لا يحتاج إلى البصر بل البصيرة ، هذه البصيرة ـ أيضاًـ شيء ملتبس ، أقرب ما تكون ‘إلى الحدس والتخمين ، إلى التنبؤ والمصادفة ، إلى آخر كل هذه المفردات التي تبدو مناقضة تماماً للدقة ، ومحبطة للنزوع العلمي .

في رواية ( فوق الحياة قليلاً ..) تقول هدى كمال للراوي ( إنكم تقرؤون القصص كما تقرأ العرافة فنجان القهوة )[2].

العرافة ..المعرفة ..مفردات من محيط دلالي واحد ،وكلاهما ينطوي على قدر كبير من الحدس ، والتنبؤ ، وكلاهما يحتاج لمدد من مصدر غير منظور كالموهبة .

تقول الأسطورة إن تريزياس تلقى موهبته من قبل كبير الآلهة زيوس وبها صار عرافاً .

ليس لدينا يقين أن الدقة العلمية يمكنها الإحاطة بكل شيئ ، ستظل هناك دائماً تلك المنطقة العمياء التي لايمكن حسمها أو توقع ما يحدث فيها ، يقول فرنسوا جاكوب في مقال له بعنوان أهمية اللا متوقع ..( اللا متوقع يدخل ضمن طبيعة المشروع العلمي ذاته ، فإذا كان ما سنكتشفه جديداً كل الجدة ، فهو إذن وتعريفاً شيء مجهول مقدما )[3].

سيصدق هذا تماما مع الإبداع بحكم صفته الإبداعية ، وكأن الارتياد النقدي في النص ليس سوى محاولة لاكتشاف المجهول ، إبحار في بحر الظلمات، وكأن أي نقطة فيه تصلح لأن تكون البداية ، إنها نقطة تساوى الصفر لأن المعطيات النقدية التي نملكها قبل تعاملنا مع النص ليست صالحة لأي شيء، فالنص نفسه هو نقطة البداية ، وكل شيء آخر يبقى خارجه ، هكذا ..فدقة الإبداع التي يتحدث عنها أصلان والتي أسميناها دقة الالتباس لا تنطوي على تناقض تماماً كما نتحدث عن جدية اللعب الذي يوفر قدراً من المحاكاة عن طريق الإبداع ، النقد هكذا يبدو كمحاكاة للإبداع / للنص ، أو هو إبداع مواز له ، قد يوفر التأويل هذا المعنى ، التأويل هو طريقتنا الخاصة جداً في ارتياد النص ، طريقتنا في الفهم الملتبس ، فهذه المساحة العمياء ستضاء لبرهة غير كافية لتحديد أي شيء ،ولكنها كافية لنبدأ لكلام عن تصورنا لما شاهدناه ، هذه المشاهدة المنقوصة الملتبسة هي كل معطياتنا الآن ، ولكنها على أي حال ليست تلك المعطيات التي حملناها دائما قبل التعامل مع النص ، ومنحناها الأهمية بوصفها مرجعيات .

يصدّر الدكتور صبري حافظ دراسته عن رواية سعيد نوح ( دائماً ما أدعوا الموتى ) بعنوان نقدي مثير ( تعدد الأصوات في رواية دائماً ما أدعوا الموتى )[4]

الدكتور صبري حافظ هو واحد من النقاد الذين أسهموا في التحقق النقدي لمبدعي الستينات ،ويمتد عطاؤه لمتابعة الكتاب الجدد ،ويعكس هذا قناعاته بتوسيع حقل معارفه النقدية وتعددها لتكون قادرة على مواكبة المتغير الجمالي ، وهو بدون شك واحد من النقاد الموهوبين، ومع ذلك فهو يردنا بسرعة إلى فكرة المرجعيات بداية من عنوان الدراسة بحيث نسأل أنفسنا ، كم مرة سمعنا هذا التعبير ( تعدد الأصوات ) ، هذه المرة لن تكون المرجعية ضالعة في صميم المنهج العلمي إلا بقدر ما هي واحدة من تداعيات الدقة ، حيث يعول على المصطلح ( تعدد الأصوات ) أن يهدف إلى معنى كامل الدقة ، إنها وظيفة المصطلح في كل الأحوال ، لكن دقة المصطلح لا تعنى إصابة الهدف، يقول الدكتور صبري حافظ: (إذا كانت رواية سعيد نوح الأولى ( كلما رأيت بنتاً حلوة أقول يا سعاد ) التي قدمتها في حينها للقراء قد استطاعت أن تخلق بتعدد الأصوات فيها، وتغير منظور السرد المستمر، بنية روائية قادرة على اقتناص تفاصيل الحياة في هذه المناطق العشوائية الجديدة من المدينة، فإن روايته الجديدة هذه تقتنص لنا في شبكة سردها المغوية، والتي تعتمد كذلك على تعدد الأصوات، مدى تدهور الحياة في المناطق الشعبية المركزية من القاهرة العريقة. وقد أضافت هذه الرواية إلى تعدد الأصوات سمة جديدة هي الاستخدام الحاذق للتناص،) .

تحتشد العبارة الضيقة بعدد من المصطلحات لا بأس به ( تعدد الأصوات ، تغير منظور السرد ، شبكة السرد المغوية، التناص) غير أن هذا القفز السريع من مصطلح إلى آخر دون سبر لأغوار أي منها قد يفقدنا الثقة في جدوى استخدامه ، وهذه واحدة من مشكلات خطابنا النقدي ..غواية المصطلح ، والاستخدام المفرط له على اعتبار أن ذلك يعطى انطباعاً بالعلمية والدقة .

يقينا أن مصطلح تعدد الأصوات ماثل بدقة في ذهن الدكتور صبري ، فهو يشفع المصطلح بمرادفه المفسر له ( تغير منظور السرد )،لكن هذا لا يعنى أنه ماثل بنفس الدقة في النص النقدي فالمصطلح واحد من معطيات الخطاب النقدي أما النص نفسه فيظل في منأى عن هذه الإعدادات المسبقة ،تكمن خطورة المصطلح في أنه يعمل كواحد من الكوابح التي تحد من اتساع أفق النص النقدي ، إن رصيد الثقة في دقة المصطلح واحتلاله منصباً متميزاً في مركز الخطاب النقدي يعمينا عن رؤية هوامش قد تكون ذات أهمية خاصة ، وفي نص الدكتور صبري يكون تعدد الأصوات مجرد معطى اصطلاحي، أما نص سعيد نوح ـ نفسه ـ فيمكنه أن يقدم معطيات مناقضة تماماً بداية من العنوان في الرواية الأولى ( كلما رأيت بنتاً حلوة أقول يا سعاد) ، وفي الرواية الثانية ( دائما ما أدعوا الموتى ..).

نلاحظ الإسناد المباشر للأفعال ـ في العنوانين ـ إلى ضمير المتكلم ، هل يعطينا هذا فكرة عن موقع الذات الساردة التي تسند كل الأفعال إليها ؟

يحدثنا سعيد نوح ـ شخصياً ـ بأن العنوان الأصلى للرواية هو ( دائماً ما أدعوا الموتى للوقوف بجوارى ) ،لسنا ملزمين بما لم يرد في النص ، ولكن ذلك يدعم ملاحظتنا عن سطوة ضمير المتكلم ، هذه علامة لغوية لا يمكن تجاهلها من بين معطيات النص .

النص ـ أيضاً ـ سيوقفنا على علامات أخرى داعمة ،هذا التماهي الواضح بين الراوي والمؤلف، سيحضر سعيد نوح شخصياً بصفته واسمه كراو للأحداث ، ثم كشخصية روائية مركزية يدور من حولها السرد سواء قامت بدور الراوي أو المروى له كشخصية روائية ،وفي الحالتين لا يقوم فعل السرد بعيداً عن سعيد نوح .

مثل هذه المعطيات النصية وغيرها ، تقلل كثيراً من فرص تعدد الأصوات بوصفه تغيراً في منظور السرد ، يمكننا الحديث ـ مثلاً ـ عن تعدد الرواة على الأقل ظاهرياً ، لكن تعدد الرواة لا يعني تعدد الأصوات ، كما أن العكس صحيح أيضاً ، فمركزية الراوي لا تعنى مركزية في منظور السرد .

ونفس القول ينطبق على تعدد الضمائر ، حيث يكاد يكون هناك خلط بين تعدد الأصوات ، تعدد الرواة ، تعدد الضمائر ، غير أن فرط ثقتنا في دقة المصطلح تصرفنا عن تحرى الدقة في استخدامه كما تحد من قدرتنا على الإنصات للمعطيات الداخلية للنص الأدبي ، وهي في النهاية تحد من فضاء التلقي للنص النقدي .

3ـ النمط وتداعياته

عادة ما يسعى النقاد إلى إضفاء تصنيفات وتقسيمات ، ليس بين الأنواع الأدبية فحسب بل وربما للتفريق داخل النوع الواحد ، فلدينا ما نطلق عليه رواية الحرب ، رواية الريف ، الرواية البوليسية ، ويمكننا أن ندخل في إطار أكثر اتساعاً ، الرواية الاجتماعية ، الرواية التاريخية ..الخ.

تقوم هذه التقسيمات على رصد ظواهر موضوعية أو تقنية متكررة وغالبة ، يراها النقاد قابلة لتحقيق معنى التخصص الروائي ،ومن ثم ، ينجح النقاد في إضفاء طابع التخصص العلمي على أبحاثهم ،  في سياق التخصص الروائي يقدم الكتور محمد حسن عبد الله ، بحثاً هاماً عن ( الريف في الرواية العربية ) [5]، وفيه يرصد عدداً كبيراً من الزوايا التي تتناول الريف في الرواية ، مشفوعة برصد دقيق لمظاهر النشوء والارتقاء بهذا التخصص الروائي .وهكذا تدفع العلمية الأدب في اتجاه التخصص.

ولا شك أن هذه التصنيفات قد خلقت أنماطها القرائية تبعا لنوع وطبيعة الخطاب الذي تتوجه به إلى قارئها، والتي من شأنها أن تصنع معاييرها الجمالية التي تناسبها ، فالقارئ سيبدأ في توقع تلك المعايير الجمالية و الموضوعية بمجرد أن ينتهي من تصنيف العمل الذي يقرأ .

يعرف الناقد الألماني r. h. gass) ) أفق التوقعات بمعايير جمالية هي ( معرفة جمهور القراء الأوائل بنوع التجربة التي يقرؤها، وتجربة ذلك الجمهور من خلال أعمال سابقة عودته على أشكال أدبية محددة ، وعلى مواضيع محددة تعالج على نحو معين ) .[6]

فعلى سبيل المثال، سنجد أن عنصري التشويق والإثارة ، يدفعان القارئ إلى توقع النمط البوليسي ، أما إذا استخدم الكاتب تقنية تقوم أساساً على ربط القارئ بالعمل ربطاً تشويقياً ، كإخفاء الفاعل لحدث ما مؤثر ويحدث انقلاباً كبيراً في اتجاه السرد ، فإن هذه التقنية ستدفع العمل إلى النمط البوليسي بقوة أكبر .

هكذا تعانى رواية منتصر القفاش ( أن ترى الآن ) كما تعانى رواية أمبرتو إيكو ( اسم الوردة ) وهما تستفيدان من النمط البوليسي.

في الروايتين حدث له طابع انقلابي ، يقلب الأحداث رأساً على عقب ، وهذا الحدث تظل دوافعه مجهولة ليس لدى شخصيات الرواية فحسب ، ولكن لدى القارئ أيضاً ، ومن ثم ، يبدأ القارئ في الانهماك مع شخصيات الرواية في البحث عن ( من القاتل ) في رواية إيكو ، أو من (أرسل مظروف الصور ) في رواية القفاش ،على أي حال سيحدث للقارئ نوع من الإقامة والتوحد عندما يجد نفسه وقد تبنى طريقة الكاتب ( المعروفة له ) في التعامل مع الرواية .

ربما لا ينتهي بنا الأمر إلى تصنيف نقدي واضح لأي من الروايتين بأنها بوليسية ، ومع ذلك فثمة احتمال قائم أن يبدأ القارئ في التعامل مع الروايتين على أنهما كذلك .

إن القارئ سيفكر على هذا النحو نتيجة لتعوده على وجود مثل هذه الخصائص في أعمال سابقة صنفت على أنها بوليسية ، سوف يشير هذا إلى خطورة هذه التصنيفات من ناحية على المتلقي ، ومن الأخرى يشير إلى عدم دقتها وحسمها في كثير من الأحيان ، وسنقف عندئذ في منطقة مراوغة شديدة الالتباس .

من المهم جداً أن يلتفت النقاد إلى هذا الأمر ، فعلينا ـ مثلاً ـ ونحن ندرس ( زينب ) لهيكل ، أن ندرس كيف استقبل القراء الرواية حين ظهورها نتيجة لتعودهم على نمط معرفي معين عن أدبيات الريف ، وعلى نحو ما تلخصه صورة شائعة عن( الفلاح مرتاح البال ) من سلبية وهامشية ، وربما سذاجة على نحو ما صورته مقامات المويلحي .

وعلينا أن نتصور ـ أيضا ـ أن هيكلاً بوصفه قارئاً ، قد تأثر إلى حد كبير بصورة الفلاح الساذج كنمط ثقافي سائد ، ومن ثم فعندما ينحرف ( هيكل ) عن هذه الصورة ، فإنما يراوغ نمطاً سائداً ، أو بمعنى آخر ..يبدع أدبا وينتج وعياً جديدا ً بقدر هذا الانحراف ، وكأن الأدب في أحد معانيه ، نوع من الخروج عن السياق .

يلفت عبد المحسن طه بدر (في الروائي والأرض ) النظر إلى قدر السلبية التي دمغت صورة الفلاح في رواية ( زينب ) ، إنه يعترف بأن هيكل يصور بؤس الحياة في الريف ، ثم يستدرك بسرعة ( لكنها الحياة العاطفية لا المادية ) [7]، سيبدى محمد حسن عبد الله دهشته من رغبة صاحب (الروائي والأرض) في فرض نمط معارفه على هيكل ، إن مغزى هذه المفارقة يتمثل في أن الناقد ـ أيضاً ـ معرض للوقوع في فخ النمط ،ومع ذلك يمكن القول وعلى نحو ما يلاحظ دكتور محمد حسن عبد الله إن الدكتور (بدر) لم يلتفت إلى بؤس الحياة المادية في الرواية، وهي في الحقيقة كثيرة وإن ظلت رهيفة وجزئية، ومع ذلك يمكننا تفهم دوافع (بدر ) وهو يقلل من شأن الحياة العاطفية بلا رغبة موضوعية في مراوغة نمط معارفه المادية الاشتراكية .تلك التي دفعته إلى البحث عن الطرح الطبقي الباكر في رواية هيكل، والذي نشك في أن هيكلاً كان مهموماً به كصاحب الروائي والأرض ، ربما هناك مفارقة هامسة بين وعيين لطبقتين اجتماعيتين ، طبقة الوجهاء التي يمثلها ( حامد )المتفرج على الريف من شرفات المدينة ، وكأن الريف ليس سوى مثير حسي وعاطفي ، وطبقة الأجراء الفلاحين التي يمثلها ( إبراهيم ) المنغمس في هموم واقعه الفقير ، إن أحداً لا يمكنه أن يحب (زينب الفلاحة ) كإبراهيم ، ألا يعنى ذلك شيئاً؟

من الغبن أن نهمل ملاحظات كهذه ونحن ندرس _ فيما بعد _ رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي ، التي تحولت هي أيضاً إلى نموذج ونمط يقدمه النقاد بتكريس قيمي لكثير من الكتابات الروائية التي تناولت الريف ، لا نبالغ إذا قلنا بأن الشرقاوي وفي سياق شلال النمط المتدفق، قد تأثر إلى حد واضح برواية ( فونتمارا) للإيطالي (سيلوني) .  وعلى نحو مماثل سوف يختزل بعض النقاد ( حرام) يوسف إدريس في كونها أول رواية تجسد حياة عمال التراحيل وكأنها دعوة إلى نمط جديد، إن أخطر ما في التنميط النقدي هو قدرته على اختزال العالم ، ومن ثم يؤسس لنمط قرائي بطبيعة الحال كنتيجة للتداول النقدي المعتمد على مرجعيات معرفية .

وعلينا أن نتخيل هذا التحريك الواسع لأنماط ارتبطت برواية الريف سواء على مستوى الشخصيات أو الموضوعات ، وربما اللغة _ أيضاً_ كأداة تعبير جمالي ، وكأن الأدب غير معنى سوى بخلق الأنماط .

إن ( ثلاثية ) نجيب محفوظ تتحول بعد ذلك إلى نمط آسر لرواية الأجيال،ليتجاوز صداها الأدب إلى الدراما التلفزيونية.، كما لا يمكن إغفال أن نقاد   ( موسم الهجرة إلى الشمال ) جعلوا منها نموذجاً تقود في غوايتها كتاباً كثيرين تعرضوا في رواياتهم لموضوع العلاقة بين الشرق والغرب،إن أصداء هذا النموذج تمتد بعيداً جداً ، حتى أننا نسمعها في (دنقلة) رواية إدريس على ، و(صقار) رواية سمير غريب، رغم إن هذا يحتاج سماعة طبيب محنك، إن الأمر يتعلق في تصورنا بالسلطة التي يمنحها النقاد لنص ما لمجرد أنه يتوافق مع نمط معارفهم النقدية، ليصبح النص قيمة معيارية ، تدفع المبدع ـ أحيانا ـ والقراء عادة إلى مؤاخاة النمط ، إن سلطة النص هي التجلي الأخير لمسلسل السلطات الذي يمتد من اليقين النظري للنقد مروراً بالناقد ذاته، ومن ثم سيكون السؤال ملحاً ، كيف يمكننا قطع مسلسل القمع الذي يصل منتهاه عند القارئ ؟

يضع (با تريك زوسكند) عنواناً تفسيرياً لروايته (العطر) بأنها ( قصة قاتل ) ، يثير العنوان فضول القارئ ويدفعه إلى الاعتقاد بالسمت البوليسي للرواية ، ربما يكون للعنوان فوائد تجارية مستفيدا ًمن تأثير النمط الواسع على القراء، غير أن القارئ لها سيكتشف أنه أمام رواية مخالفة لتوقعاته.

في( اسم الوردة ) سنجد أن حادثة القتل بمثابة تطور مفاجئ على حياة الدير ، الهادئة ومن ثم تبدأ بعدها عملية البحث عن القاتل ، لكن ( امبرتو ايكو ) ينحرف كثيراً عن هذا الهدف المحدود الذي يشتهر في الرواية البوليسية ، وسوف يواجه القارئ بعدد كبير من المفاجئات مختلفة الدلالات كنتائج غير متوقعة للبحث عن قاتل ، وشيئاً فشيئا تتحول عملية البحث في حد ذاتها إلى غاية فنية وجمالية من حيث قدرتها على الوعد بمزيد من السرد وليس مجرد وسيلة لمعرفة القاتل الذي لم يكن غاية السرد بطبيعة الحال .

وعلى نفس المستوى يمكن التعامل مع رواية ( اسمي أحمر لأورهان باموق ) ، فلن يظل السرد محصورا في دائرة البحث عن قاتل النقاشين ، إن الراوي نفسه يعلن عن نيته في إخفاء القاتل عن القارئ عمدا ، هذه حيلة تضمن استمرار القارئ في الارتباط بعمل ضخم وصعب ، وهكذا يجد القارئ نفسه منهمكاً في استقصاء فكرى وجمالي عن تاريخ النقش الإسلامي المعقد، ومنشغلاً _ تماماً _ عن القاتل.

أما عند منتصر القفاش ، فالبحث هو موضوع الرواية ، كما كان موضوع روايته السابقة( تصريح بالغياب )، سيتحول البحث عن مرسل مظروف الصور أو عن كراسة المذكرات إلى بحث في تاريخ الشخصية .

ونجيب محفوظ _ المحنك _ لن يتردد في استخدام عنصري التشويق والإثارة ليربط القارئ بالعمل طوال الوقت ، هذه المرة لن يمارس لعبة الإخفاء التي يلعبها إيكو أو باموق مع القارئ ، ولكنك في ( اللص والكلاب ) بدءاً من العنوان ، وصورة الغلاف ، أمام رواية بوليسية ، فثمة حوادث قتل وسرقة ومطاردات بوليسية ، إن جو الجريمة وعالمها السري من مؤامرات وتحالفات وخديعة ، يسيطر تماماً على الرواية ، ولكننا بطريقة ما سنجد أنفسنا متعاطفين مع ( سعيد مهران ) غافرين له كل خطاياه التي لا يغفرها القانون ، وسنكون طوال الوقت مفعمين بالشفقة والتعاطف ، وكأننا نقرا عن واحد من أبطال المآسى الكبرى ، أوديب مثلاً ..

بهذا الغفران يسقط القارئ كل مؤهلات النمط البوليسي السافر ، ويبقى شيء آخر على جانب كبير من الأهمية ، تلك الأهمية التي نتعامل بها مع ( ديستيو فبسكى ) في الجريمة والعقاب .

هذه أعمال كان من الممكن أن تكون نمطية تماماً ، لولا قدرة كتابها على مراوغة النمط، سواء بالوسائط التقنية أو اللغوية ، أو باختلاف وجهة المنظور ، الذي يقف وراء السرد ، يبدو الأمر كما لو كان لعبة اختباء قديمة بين طرفين ، سيسعى النقاد إلى خلق أنماط كتابية ، وسيسعى المبدعون إلى مراوغتها.

وجدير بالذكر أن القارئ _ أيضاً _ عليه أن يتحمل قدراً من المسؤولية في مراوغة النمط ، فالقراءة الأولى ( الخطية ) لرواية محفوظ _ مثلاً _ قد تغوينا بالنمط البوليس ، لكن القراءة الثانية ، بعد أن نتعرف على خاتمة الأحداث ، ستوقفنا _ بلا شك _ على طاقة إبداعية متجددة.

ما المطلوب من الناقد إذن ؟

 سنسعى إلى إجابة مبتسرة ، يمكننا أن نعطل خط الإنتاج الآلي الذي يمدنا بالنقد حينما نعبث بمصادر الطاقة التي تغذيه ، نتحدث هنا ـ مرة أخرى ـ عن اليقين النظري / الأيديولوجي ، عن مرجعيات الوعي المدرسي التي تحكمنا وتجعل منا حكاما على المبدعين ، إن التخلي عن هذه المرجعيات يجعل الناقد في كل مرة يبدأ من نقطة صفرية ، ويجعل النقد في حد ذاته مغامرة ترقى إلى مستوى الإبداع عندما يبدأ الناقد بتتبع علميات المراوغة في النص الأدبي .    

وبالتأكيد ، فإن فعل المراوغة ليس شيئاً في حد ذاته ، ولكن ما تنتجه المراوغات من حيل وأساليب وتقنيات أولى بالاهتمام النقدي ، فهي فضلاً عن نزوعها الاستكشافي لمناطق وعى سردي جديدة ، وقيم جمالية مختلفة ، فإن تقنيات وأساليب المراوغة ستنشأ عن ضرورة فنية ، وتتولد عبر لحظات المواجهة بين الوعي القرائي للكاتب والوعي الإبداعي له ، بمعنى أنها ليست شيئاً مسبقاً ومعد سلفاً، فكثير من النصوص الأدبية نجحت في مراوغة النمط بصور مبتكرة ، لكن نمط الأداء النقدي يلقى بظلاله الثقيلة عليها.

[1]  ــ

  [2]  ـــ فوق الحياة قليلاً ـ سيد الوكيل ـ أصوات أدبية ـ العدد211

[3] ـــ أهمية اللا متوقع ـ فرنسوا جاكوب ـ مجلة الثقافة الأجنبية ـ العدد 109ـ ترجمة د. نور الدين شيخ عبيد.ــ

[4] ـ ـ المقال منشور على شبكة ( العرب اون لاين ) ـ الصفحة الرئيسية

[5] ـ الريف في الرواية العربية _د. محمد حسن عبد الله _ عالم المعرفة _ العدد 143

 [6] _ نقلاً عن (نظريات القراءة والتأويل وقضاياها ) _ د. حسن مصطفي سحلول _ منشورات اتحاد الكتاب العرب _ سوريا

[7]  _ الريف في الرواية العربية _ د. محمد حسن عبد الله _ عالم المعرفة _ العدد 143