القهر والتهميش في ”الزّعيم يحلق شعرّه“ لإدريس علي

القَهر والتهمِّيش، في رِّوَّايةِ الزَّعيم يحلق شعرّه [¹]، لإدريس علي

”إذا أردت أن ترىٰ مجنوناً، فما عليك سوىٰ النَّظر إلىٰ نفسك في المرآة“

 

كلود كيتيل، تارِّيخ الجنون.

 

حوّل فلسفةِ الزَّعيم يَحلق شعرَّه:

 

الزّعيم لشدَّة خوفه علىٰ حياته، يجعل كل حرسه نساء! فكيف يثق أن يأتمِن ”حلاقاً“ علىٰ رأسه! حقا أنها مهمَّة خطيرَّة، فلا أحد يدري ماذا يدور في رأس ”حلاق“ من أفكارٍ، فيما يعبث مقصه الحاد برؤوس زبائنه! لذا واجب الزّعيم أن يحلق شعرّه بنفسهِ، حفاظاً على رأسه المقدّس!

الزّعيم ينام ويحلم، فتصبح أحلامه قرارّات.. فهو متقلب وحاد المزَّاج، ولا تُعرّف له رؤية واضحة للحيَّاة والكون والعالم، فصديق الأمس هو عدو اليوم، فهو مثل الطبيعة، يمّر بالفصولِ الأربعة. يخلط بين السياسة والدّين والعلم دون فرّامل.. فهو من أفتى بنقلِ (الكعبة) إلىٰ (ليبيا)، وظل يعتقد أن بلاده حاكم بلا شعب!

وهو من أفتى أن لا نقول ”(قُل) هو الله أحد“، فنحن لسنا جبريل. جبريل هو من قال للنبي الكريم (قُل).. إذن، علينا أن نقرأ بعدها (الله أحد)..

وهو من غيَّر التارِّيخ الهجرِّي ليبدأ بوفاةِ الرَّسول (ص) فيومِ وفاته هو بدّاية التارِّيخ، وليس يوم هجرّته، وهو وهو.. أنه.. الزَّعيم!

الرّأس الذّي يحمل هذه الأفكار العظيمّة، تتوجَب المحافظة عليه، بمنأى عن عبثِ الحلاقين!

لقد آثر إدريس علي وفقاً لناشرّه، علىٰ خلفية ثورّات الرّبيع العرّبي ”أن يرّحل قبل أن يرىٰ، كيف يرّحل الزُّعماء العرّب واحدهم تلو الآخر“.

في ذكرّىٰ الرَّاحل:

 

رُبما يجهل كثير من السودانيين المهتمين بالثقافة، الأدب النوبي المصرّي ورموزّه في مصر، رغم المشترّكات الثقافية والحضارّية، ووحدّة الهُوِّية والوجدّان والمصير.

وذلك ربما يعود لغياب مؤسسة الثقافة السودانية بالدرّجة الأولىٰ. والفشل في تعرّيف القارئ السوداني، بأشقائه النوبيين المصريين في إبداعاتهم السّردية، وهم كُثُر، فعلىٰ سبيل المثال لا ترد عبارّة (أدب نوبي) إلا ويخطر علىٰ الذِّهن كُتاب كبار كـ”حجاج أدول، محمد خليل قاسم، يحيى مختار، يحيى إدريس، حسن نور، وكُثُر غيرّهم من أجيالٍ مختلفة، ولعلها مناسبة في الذّكرى العاشرّة لرّحيل الروائي إدريس علي ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٠ أن نتناول قراءة رِّوَّايته الزَّعيم يحلق رأسه، التي لا نبالغ إذا قلنا أنها إعادة إنتاج لرِّوَّايته (المبعدّون).

إدريس علي من الرِّوائيين النوبيين المصرِّيين المميزِّين، الذين تأثروا كثيراً بالطيبِ صالح، بل كان يعتبرّه دوناً عن كلِ الكتاب أستاذه. لمع إسم إدريس بعد نشر رِّوَّايته (دنقلة)، التي ترجمها إلىٰ الإنجليزية بيتر ثيروكس، وقد فازت ترجمتها بجائزة أركنساو للترجمة العرّبية سنة ١٩٩٧.

استلهمت رِوَّايات إدريس تجاربه في حرب اليمن، كمجند بالجيش المصرِّي، وعمله في ليبيا ١٩٧٦– ١٩٨٠ كما رّكزت أعماله السَّردية، على التهميشِ الذِّي يعانيه النوبيين. وضياع أرضهم وآثارهم وتارِّيخهم، ثمناً لبناءِ السَّد العالي.

فازَّت رِوَّايته ”إنفجار جُمجُمّة“ عن معرضِ القاهرّة الدّولي للكتاب، بجائزةِ أفضل رِّوَّاية مصرِّية سنة ١٩٩٩ وكذّلك جائزة الدّولة التقديرية. ورِّوَّايته الأخيرّة ”الزّعيم يحلق شعرّه“ كان قد كتبها قُبيل وفاته في ٢٠١٠ والتي هي موضوع هذه القراءة.

كانت هذه الرِّوَّاية، من الرِّوَّاياتِ الممنوعة والمحظورَّة، طوال الفترَّة التي سبقت الثورَّة المصرّية ²⁵ يناير ²⁰¹¹، لانتقادها نظام الرّئيس الليبي الرّاحل العقيد معمَّر القذّافي.

من أعمالهِ المهمّة إلىٰ جانبِ هذه الرِوَّاية موضوع قراءتنا ورِوَّاية (دُنقلا) ”(المبعدّون)، (وقائع غرّق السفينة)، (اللعب فوق جبالِ النوبة) و(النوبي)“ ومجموعته القصّصية ”واحد ضد الجميع“.

عوالم إدريس علي:

 

العوالم السّردية لإدريسِ علي، محتقنّة بمشاهد الفقر والعوّز والذُّل والمسكنّة، وانتهاك الكرّامة الإنسانية، فقد كان الرَّاحل مسكوناً في عوالمهِ الرِّوَّائية بالمهمَّشين، في أحلامِهم المنكسرّة ووجوههم الغامضة، والقمع المؤسس الذّي يعانونه..

بناء ”شخصية المهمّش“ في النَّصِ من أصعبِ الأمور، نظراً لحاجة بناء هذا النّوع من الشخصياتِ في السَّرد، لقدراتٍ خاصة، مصدرّها الفهم العميق لشخصية المهمّش، وخصوصية ثقافته ومجتمعه، الذّي شكَّل رؤيته للحيَّاة والكون والعالم، والتفاعل الوظيفي بين هذه العناصر، وبين مكوّنات الثقافة السائدّة، التي يعاني تحت وطأتها.

إدريس يستحضر حكاياتهم ومشاعرِّهم تجاه ما يحدّث لهم، من قمعٍ وإقصاءٍ منظّم، لعزّلهم عن الحضورِ الإنساني في الواقع، كأن استحضارّه لهم في النَّص السَّردي، بمثابةِ العزاء لتغييبهم المتعمّد، في واقعِ الحيَّاة المعاش، هؤلاء السباكين والسمكرّجية والعتالين وعمال اليومية، الذِّين تبدّدت ظلالهم في ”الرِّوَّاية الجديدَّة“ تحت طائلة الضغط العالي للشخصيات، التي تُجسِّد المثقف المأزوم من إيقاعِ العصر المتسارِّع، والعزّلة والمشاعر التي علبتها التكنلوجيا!

جميعهم يعودون إلىٰ وطنهم (السَّرد).. الوطن الغرّيب والمغرّب عند إدريس علي.. يحتلون مواقعهم ويقولون قولهم، لهذا المثقف المختبئ بين جدرّانِ معارِّفه وأفكاره، ليفتحوا ثُغرَّة بين هذه الجدرّان، تمنحه التواصل معهم.. يطرّحون أفكارّهم المدهشة، وآرائهم البسيطة في أفكارّه.

وعلى خُطىٰ أستاذّه الطيب صالح في ”دّومةِ ود حامد“ و”بندر شاه“ و”عُرس الزِّين“ و”موسم الهجرّة إلىٰ الشمال“، قدّم إدريس علي، في نُصوصه شخصيات مغيبة، همشّها القمع والانقلاب علىٰ (مشروعِ المنوِّر الغرّبي)، وفشل مشاريع التحديث في العالمِ الثالث، بتقنياتٍ حدّيثة وبلغةٍ بسيطة مؤثرّة وفعالة، في نقلها لجوهرِ فكرَّة الشخصية، ونشاطها في ”تارِّيخ النّص“، وكشفت شخصياته، عن الجانبِ الخفي والمعقد في الإنسان.. الجانب الذي يُفصح عنه في غفلةٍ منه.

الزّعيم الرأس:

إهتمامنا بهذه الرِوَّاية لا يتأتى من قيمتها الفنية والجمالية، فكثيرّة هي النُصّوص التي تفتقر للقيمّة الأدبية، لكنها تنال حظاً من الشهرّة، لكونها مُنعت أو حُظرّت من قبل السلطات والأجهزة الرّقابية نسبةً لطبيعة موقفها الآيديولوجي أو لإدعائها موقفاً سياسياً.

ولذلك ستنصب قراءتنا لهذه الرِوَّاية، علىٰ مضمونها، كرِوَّاية اشتغلت علىٰ فضحِ الواقع، الذي تصوغه الديكتاتورية بشكلٍ عام، من خلالِ النموذّج الليبي على عهد العقيد القذّافي.

تاتي هذه الرِّوَّاية عبر لُغَّةٍ واقعية قحَّة، بسيطة وسهلة.. تستلهم أدب السيرَّة والمذكرّات والتوثيق، لُغَّة مزِّيج من الفصحىٰ والمصرّية والليبية، تخلو تراكيبها من التعقيدِ والتعمُّل، تخرج من القلبِ وتسرّي بتوترٍ أسيان إلىٰ القلبِ، فتحقنه بجيشاناتها، وهي تجوس في دهاليزِ قضايا وأحداث كبرىٰ، شكَّلَّت مفترقاتِ طُرُّق في مسارّاتِ المجتمعات العرّبية.

بعض الشخصيات التي تستضيفها الرِّوَّاية متصلة بتجربةِ الرَّاوِّي، فهي واقعية معروفة في المشهد الثقافي العرَّبي، كيوسف السباعي، عزيز المصري، محسن الخياط، إلخ..

بل الرَّاوِّي هو الكاتب نفسه وباسمه الحقيقي (إدريس). فعندما يقع في قبضةِ أجهزّةِ الأمن الليبية، في فترّةِ العداءِ المستحكم بين نظامي العقيد القذافي وأنور السادّات، يُستنجد له بأصوله السودانية ”يا جماعة إدريس هادا مملح وصاحب صغّار، وهو سودّاني رُّغم جواز سفرِّه المصرِّي، أسألوني عن أهلِ النوبة [²]“

وقائع الرِوَّاية تجري في مكانين: مصر، وليبيا، وفي زَّمنٍ مضطرّب ”عقد السبعينيات من القرنِ الماضي“، في ذُروَّةِ إحتقانِ الشارِّع العرَّبي، بسبب اتفاقية التطبيع، التي عُرّفت بكامبِ ديفيد، والتي عقدّها الرئيس المصرِّي الرّاحل أنور السادات مع إسرائيل، وردود الفعل الحادَّة والعنيفة تجاهها ”لم أُشاهد في حياتي حشوداً بهذهِ الكثافة، مظاهرات في كلِ مكان.. صرّاخ، وعيد.. وكلها في الغالبِ موجهة ضد مصر، وكان فنان الكاريكاتير الزَّواوي قد نشر صورّة صاخبة، لهذا الصخب المجنون وكتب تحتها (مسيرَّة تشجب وتؤيد المسيرَّة اللي فاتت)[³]“

فهذا المشهد لم يكن في ليبيا أو مصر وحدهما، فقد انتظمت ردود الفعل ”ضد التطبيع“ كل الشوارِّع العرّبية، فالرَّاوي الكاتب المصرِّي، الذِّي أُغلِّقت بوجههِ سُبل الحيَّاة، في ظلِ هذه الظروف، التي ألقت بظلالِها، لا على الموقف العرّبي من النظامِ المصرّي فحسب، بل على الشعب المصرّي أيضاً.. يُقرِّر الاغتراب إلى ليبيا، التي يحكمها مجنون، يتوَّهم أنه الحافظ لتراثِ الأمة وورِّيثها الشرّعي ”بحثت عن مخرجٍ وفشلت.. لأن بضاعتي الكتابة.. كائن مقعد ومكلكع.. حَشوت رأسي بعصيرِ الكُتب، ووقفت عارياً أمام ضرورّات الحيَّاة [⁴]“

في ظل تلك الظروف الصعبة، وذلك التوقيت المضطرِّب، يُقرِّر الرَّاوِّي المتكلم بصوتِ الأنا الاغتراب في ليبيا ”فعندما ضاقت بي الحيَّاة علىٰ سعتها في القاهرَّة، وتحت إلحاحِ زَّوجتي، أن أجد حلاً لهذهِ الأزمة الإقتصادية الخانقة، قرّرت الخروج لدنيا الله الواسعة، وتجرّبة حظي مثلما فعل غيرِّي، لأن بيتي كان خاوياً من كلِ مظاهرِ الحيَّاة الحدّيثة [⁵]“

تتناوَّل الرِّواية الأوضاع الاقتصادية المترّدية، للدّولة المصرّية، والتفسخ الأخلاقي، وأوضاع الدّولة الليبية على عهدِ القذّافي. فترصد معاناةِ المغترِّبين من العالمِ العرَّبي في ليبيا، ولجؤهم للغِّش والخدّاع والتنازّل عن كرامتِهم الإنسانية، في سبيلِ كسب العيش، والعنصرّية والاستعلاء الليبي، تجاه أشقاءه العرّب، الذِّين أجبرتهم ظروف الحيَّاةِ، للعمل لديهم ”رّفع الكفيل الليبي يده البدائية الطويلة، إلىٰ آخر المدّىٰ. وبكل الغِّل والغّيظ والإحباط، هوّىٰ بكفهِ الخشنة علىٰ صدّغ مبيض المحارَّة المحتال، في صفقةٍ دّوت كالقنبلةِ، وبصق علىٰ وجهه ساباً: قوّاد ولد قحبة [⁶]“

”اعترفوا جميعاً للكفيلِ المزعوم، قد حصل من كلِ واحد منهم مائتي جنيه، نظير شهادّات الخبرّة المزورّة، وإضافتها علىٰ جوازِ السفر، وكانوا يعتقدون أن الكفيل، علىٰ علمٍ بهذهِ الإجراءات، وأنه يتقاسم المبلغ المدفوع مع المبيض، الذي أوهمهم بذلك [⁷]“.. (لكن أنت غشيت المقاول) (كله بثمنه) (دفعت له إيه) (كتير) (زّي إيه) (جوزته أختي جواز عرّفي لمدّة أسبوع، بألفين جنيه بس) (يعني ضحيت بأختك علشان تسافر) (زّواج على سنةِ الله ورسوله) [⁸]“

تتناول الرِّوَّاية بالسخرِّيةِ، مبادئ (كتاب القذّافي الأخضر)، الذي حرّف فيه (رأس المال)، فيركز علىٰ مبدأي (شُركاء لا أُجراء والبيت لساكنهِ) ”كل ليبي يستأجر بيت من ليبي آخر، صار البيت له (من غير قروش؟) (ببلاشٍ) بات المسكين يهزّي من شدّة وقع الخبر.. كيف يبني بيتاً من حُرِّ ماله الخاص، ويستولىٰ عليه آخر بلا مقابل [⁹]“

وتتناوَّل الرِوَّاية الأذَّى، الذِّي ألحقه الليبين بالعمالة المصرِّية، نتيجة (حرب الأيام الأربعة)، حتى الأطفال شنوا غارّات عُدوّانية علىٰ مساكنِ المصرّيين، وكان الشعب يُمني نفسه بقضاءِ الجيش الليبي، على مصر”عندما مرَّت أمام المنصَّة (منصَّات صوارّيخ أرض-أرض)، وصفها المذّيع بأنها (الصّوارِّيخ العابرّة للقارّات)، وتستطيع الوصول إلى أي مكانٍ في العالم، بينما الحقيقة أن مدّاها لا يزيد عن مائةِ وخمسين كيلو، فلو أُطلقت من (طبرقٍ) ستسقط في (السلوم)، وعندما انتهت الحرّب ولم تنطلق هذه الصّوارِّيخ، أُصيبوا باحباطٍ شديد.. واكتشفوا أن زّعيمهم كذَّاب كبير من طرّاز أبو لمعة المصري [¹⁰]

وفيما تتناول الرِوَّاية حيَّاة البسطاء، المهمشين في بلدانهم العرّبية، خلال النموذّج الذي يقدّمه بُسطاء المصرّيين من العمالةِ الوافدّة، في فترّة اضطراب فكرّي وسياسي، سيلازم المنطقة لعقودٍ قادِّمة، تتناوَّل كذلك تأثير هذا الاضطراب، علىٰ الجهاز القيمِّي العرّبي، وتمزُّق العلاقاتِ الأخوّية بين العرّب.

فالرّاوِّي يُقدِّم نفسه كشاهدِ عيان، علىٰ الأحداثِ الكارِّثية، أثناء عمله في ليبيا. في تناوله لنهجِ القذَّافي وأجهزته القمعية في الحكم، وإدارَّة شؤون الدولة، والتعامل مع المغترِّبين العرّب، حيث يكشف كيف ينسحب نظام تفكير الدّولة، علىٰ أسلوب التعامل الهمجي للشعب، مع العمالة الوافدَّة ”ولما أشار لهم الكفيل ناحيةِ العجان، والذّي كان منزوياً في رُّكنٍ باكياً، وحين حاولوا الإمساكِ به، جرّىٰ ناحيةِ الكفيل، وتشبث به: أنا في عرضك يا حاج، والله لاجوزك أختي التانية ببلاش [¹¹]“

قدَّم الكفيل بلاغ للجان الثورّية بأن المصرّي سب ليبيا والزَّعيم، وهي من أخطرِ الجرائم.

”سألت الكفيل الذي بدىٰ منتشياً: (عملت فيه إيه، ومين دول؟) (اللجان الثورية) [¹²]“

يتناول الكاتب كذلك تكميمِ الأفواه، وأزّمة حُرِّية الكتابة، في ظلِ النُظُّمِ الاستبدّادية، واضطرار الفنان، للتنازلِ عن ا(لكتابةِ عن الواقع) كما هو بفسادهِ وانتهاكاته ”(أنت كاتب عن (السلكاويةِ)، وتعرضهم للنّصب من المقاولينِ المحلييين، وممارّسات الشرطة ضدّهم) (هذه حقائق وليست من الخيالِ) (هنا لا يعرّفون مسألة تدرّج الألوان، يا أبيض يا أسود)، ص: ²¹“

”ويبدو أن اللجنة الشعبية، اتخذت قراراً سرياً دموياً بشأنِ الحاج عبدالله. داهمته سيارّة مجهولة فكسرّت عموده الفقرّي وساقيه [¹³]“

ويتناول الراوِّي معاناةِ العمال البسطاء، والظروف القاسية، التي يعيشون ويعملون فيها، والعلاقات المثلية في هذه الظروف، وإضطرّاره لنسيانِ فكرَّة كونه كاتب، والعمل كعامل يومية ”جبل من الرّمالِ عليٰ إزالته حتىٰ المغيب، لكي تُحتسب يوميتي، وهذه الرِّمال بحاجة إلىٰ لودر وليس كوريك ومقطف [¹⁴]“

ودفءِ العلاقاتِ الإنسانية بين العمال البسطاء، الذِّين وجد نفسه بينهم، فرُّغم أنهم مسحوقين، إلا أنهم يُحيطونه بدفءٍ غير محدّود ”ولا يهمك يا خال، أنت هنا بين أهلك وحباييبك، والبرابرّة إخواننا. وحتى لو كنت نصرّاني، كنا شلناك وسطينا [¹⁵]“

ويتناول تجرِّبة تشرّده ”قضيت ثلاثة أيام، فوق مقاعد الحدّيقة، أنام ملئ جفوني متوسداً يدي، ومحتضناً حقيبة ملابسي، لا أخشى مُدّاهمة الشرّطة لأن أوراقي سليمة، ولا عبث التوانسة المتشرّدين بجيوبي، لأني لا أملك ما يمكن سرّقته [¹⁶]“

”تصوّر أن الواحد منهم يهرّب إلىٰ مالطة ليزّني ويسكر، لكنهم إذا وجدوا مفطراً في رمضانِ، جرّسوه في الشوارّع، خصوصاً من التوانسةِ والمصرِّيين [¹⁷]“

”في اليوم الأول لعملي، عثرت على ورقةٍ مالية من فئةِ العشرّة دنانير، فقمت وكما هو واجب بتسليمها للغرّياني، فقال بلا مبالاة دسها في جيبك [¹⁸]“

وعندما يجد مدير الصَّالة الليبي الحاج عبد الله، حافظة بها خمسمية دينار يحتفظ بها، وعندما تسأله الشرطة يُنكر، ويضطر للاعتراف بعد جَهد ”جاء بالحافظةِ كما هي، ونظراً لأن الشاكِّي أجنبي، انتهت المسألة على خيرٍ. اكتفى الضابط بلومِ الحاج عبدالله.. ثم أعقب ذَّلك قراراً من اللجنةِ الشعبية [¹⁹]“

باعفاءهِ من عملهِ، علىٰ أن يصرّف راتبه كاملاً، وعمله الإضافي شهرياً، وهو جالس في منزلهِ، لكنه لم يكُف عن الحضورِ اليومي، والمناكفة، وسؤال الأستاذ خالد بالحاحٍ ممل، عن الأرباح ونصيبه، وكأنه يتعامل مع محل بقالة، لم يكن يريد أن يفهم أن هذه مؤسسة، لها ميزّانية سنوية فيها خسائر ومصروفات، وبنهايةِ العام تُحتسب الأرباح، بعد خصم كل ذّلك.

في الواقعِ بتطبيقِ العقيد القذافي قانون ”شُرّكاء لا أُجراء“ الذّي ورَّد في كتابهِ الأخضر، أصبح العمال شركاء في رأسمالِ الشرّكات التي يعملون بها، فأصاب ذلك أصحاب رأس المال بالغُبنِ ”علمنا أنه كان من الأثرياء، وصاحب توكيل سيارّات (فولفو السويدِّية)، ولما صدرّت قوانين (شُرّكاء لا أُجراء)، تآمر عليه ملاحظ العمال، وكان بينهما مشاحنات من قبلٍ، لكثرَّةِ تغيبه عن العملِ، فانتهز فرّصةِ صدّور القانون، وانتزّع منه الإدارة في الانتخاباتِ، وزِّيادة في التنكيلِ، أسند إليه مهمَّة حرَّاسة مقر التوكيل ليلاً، فانسحب المسكين وقبع في منزلهِ، وعندما حاوّل المسكين الهرّب بأسرتهِ عبر تونس، قبضوا عليه عند بوابةِ الحدّود، وفرضوا عليه الإقامة الجبرِّية، ولولا أنه ينتمي إلىٰ قبيلة كبيرَّة وقوِّية، لحبسوه أو أعدموه [²⁰]“

”وحدثت اشتباكات ظريفة قبل إجراء الانتخابات، بين الحاج عبدالله عامل النظّافة، وزَّعيم المعارَّضة والغرّياني مدير الصالة، يقول الحاج عبد الله مازحاً للغرّياني (توا رأسي برأسك أنت تكنس الصالة يوم. وأنا يوم) فياخذ الغرياني الكلام بجدية ويرد غاضباً: (شني أنت مهبول، هادا رّزقنا. أنت ناسي أن أنا اللّي شغلتك معانا) (باهي هذا كان قبل الثورّة) فيتدّخل مصطفى بيت المال ليغيظ الغرّياني: (الحاج عبد الله عنده حق، وهو شرِّيك، ومتساوٍ معنا في الحقوق والواجبات، ويستطيع أن يقصيك عن وظيفتك، ويحوّلك إلىٰ عامل نظّافة، ويجلس مكانك)… (هذا نوع من العدالةِ الاجتماعيىة) (ياخدوا رّزقنا؟) (هذا قدرّكم) (يعني أنت مع الزَّعيم) (انا مع النَّص الأصلي، الذي ارتكز عليه الزَّعيم لتقديم رؤيته الخاصة) (وايش هو النَّص الأصلي) (كتاب رأس المال لماركس) (وايش هو ماركس الميبون هادا) (هو أصل النظَّام الإشتراكي في روسيا والصّين) (يعني الزَّعيم شيوعي) (هو بلا هُوِّية، خلط كل الأورّاق في بعضها كشرِّي [²¹]“

ويتناوّل الراوِّي كيف منح العقيد قذّافي، إمبراطور أفريقيا الوسطىٰ (جان بيدل بوكاسا) ٢٠ مليون دولار، في إحتفال رّسمي نظير إسلامه، فأخذها الرّجل عائداً إلى بلاده ليرتد هناك.

ومثلما يحدّث في كلِ الأنظمة الاستبدادية، يتحوّل المسؤولين والشركاء، إلىٰ مجموعات (مافيا ومرّاكز قوّى)، فيستشرىٰ الفساد والنهب المنظم، والتلاعب بالمستنداتِ الرّسمية، خاصةً المالية.

الجرّيمة تنسج خيوط بعضها، فالسلوك نفسه الذّي يمارسه رأس السلطة، متفشي في كلِ مرّافق الدّولة والمؤسسات، بغضِ النَّظر عن طبيعةِ المؤسسة، سواءً كانت وزارَّة أو صالة عرض سينمائي، أو حدّيقة عامة.

الميزّانيات الضخمة تتسرَّب بهدوءٍ إلىٰ جيوب القلة، الجرّيمة هي القانون، الذي تنتظم فيه الحيَّاة الليبية على عهد العقيد القذّافي، فيصبح القتل لأتفهِ الأسباب أمراً عادياً.

وآخيراً، إذ كانت رواية إبراهيم الكوني ”فرسان الأحلام القتيلة“، تحكي الوقائع والأحداث أثناء الثورّة الليبية، فإن هذه الرِّواية، تكشف عن الأسبابِ التي قادت لهذه الثورّة، ولكن تظل المفارّقة التي يحكيها الواقع الآن، عن ثورات الرّبيع العربي ملخصة في سؤال واحد: هل ضاعت كل تلك الدماء في سبيل التغيير هدراً؟!

هامش:

[¹] إدريس علي، الزعيم يحلق شعره ”حكايات من مدينة الاختفاء المتكرر، دار وعد للنشر، القاهرة، الطبعة الثانية، القاهرة ٢٠١١

[²] السابق، ص: ¹¹¹

[³] نفسه، ص: ¹⁷/¹⁸

[⁴] نفسه، ص: ¹⁶

[⁵] نفسه، ص: ¹⁵

[⁶] ص: ⁹

[⁷] ص: ¹⁰

[⁸] ص: ¹²

[⁹] ص: ¹²⁶

[¹⁰] ص: ¹⁰²/¹⁰³

[¹¹] ص: ¹²/¹³

[¹²] ص: ¹³

[¹³] ص: ⁵⁵

[¹⁴] ص: ²⁷

[¹⁵] ص: ²⁶

[¹⁶] ص: ³⁷

[¹⁷] ص: ³⁶

[¹⁸] ص: ⁴¹/⁴²

[¹⁹] ص: ⁵²

[²⁰] ص: ¹¹⁶

[²¹] ص: ⁴⁶/⁴⁷