(القصير)..شنجهاى الشرق... جنوة المصريين ...نيويورك العرب فى العصور الوسطى

الكل متعجب و تعتريه الدهشة! لماذا أنت ذاهب إلى القصير؟ هل هناك شىء يُرى أو يمكنك فعله؟ كان هذا رد فعل أغلب المصريين الذين لا يعرفون عن معالم بلادهم إلا الهامشى اليسير الذى تبثه وسائل الإعلام وأنا لا ألومهم على تقصيرهم ما دمنا نعيش فى عصر يلعب فيه الأعلام المرئى دورا لا يستهان به، فلقد كنت مثل هؤلاء، لا أعلم عن القصير إلا الاسم و كونها مدينة ساحلية جنوبية صغيرة تطل على البحر الأحمر.

لم ينجنى من جهلى سوى عملى الصحفى الذى دفعنى إلى أن أتابع أخبار أحد الرحالة الشباب، الذى جال القطر المصرى كله فوق دراجة و توقف لعدة أيام فى القصير و بدأ يحكى لى النزر اليسير عن تاريخها وأحوالها، والحق أننى كنت قد وضعتها منذ عدة سنوات فى أجندة عملى الاستقصائى وذلك استكمالا لعدة زيارات كنت قد قمت بها لمدينتين تتساويان فى الأهمية مع القصير ولم يثننى عن زيارتها إلا بُعد المسافة، فهى تقع على بعد حوالى 700 كيلومتر من القاهرة و 150 كيلو متر جنوبى مدينة الغردقة.

لم تكن المدينتان الأخريان سوى (فوة) بمحافظة كفر الشيخ التى تقع على الضفة المقابلة لمدينة رشيد و( قوص) عاصمة الصعيد القديمة و نبراس العلم فى العصور الوسطى والتى تبعد 30 كيلو متر إلى الجنوب من مدينة الأقصر.
  لكن لم (فوة) و(قوص) و ( القصير)؟

المدن الثلاث كانت مراكز إشعاعية تجارية هامة، (فوة) بسبب قربها من فرع رشيد و(قوص) لوقوعها على طريق الحج الذى يقود إلى ميناء القصيرـــ أهم مركز لتجمع الحجيج من سائر بلاد المنطقة فى العصور الوسطى والذى لم يتبدل إلا عند افتتاح قناة السويس.
  ومن العجيب أن هذه المراكز التجارية قد حظيت أيضا بأهمية روحية دينية، فورد إليها المتصوفة من جميع أنحاء العالم! فاغلب المتصوفة بطبيعتهم لا يعملون إلا بالتجارة، وذلك تقربا للرسول الكريم الذى عمل بها، و لأنهم كانوا يتحكمون بها فى أوقاتهم فيتفرغون للعبادة وقتما يشاءون ويقبلون على العمل فى أوقات أخرى محددة بحيث لا ينقطعون عن العبادة. عندما مات هؤلاء المتصوفة بنيت أضرحتهم ومساجدهم فى هذه المدن و كان من الطبيعى أن يبرع المعماريون فى تشييدها لتتناسب و قدسية هؤلاء الصالحين، فتدهش عندما تلج أيا منها، كما يسرق لبك جمال معمار البيوت العادية وما يزينها من زخارف و أشكال وألوان. فلقد حرص البناءون ألا تكون البيوت المجاورة لهذه الأضرحة أقل جمالا وهيبة.

لقد أعلنت اليونسكو مدينة فوة أكبر رابع محمية أثرية إسلامية فى العالم!! ففى مساحة لا تتعدى ضاحية المعادى القديمة يوجد بها أكثر من ثلائمائة مسجد وضريح و وزاوية وبيت أثرى! أما قوص فمشهورة بالمسجد العمرى وهو ثانى مسجد بناه القائد (عمرو بن العاص) فى مصر بعد مسجده الشهير فى الفسطاط، علاوة على محطات القوافل التجارية وقوافل الحجاج التى كانت تمكث هناك عدة أيام قبل أن تواصل السير إلى القصيرــ نعم القصير، شنجهاى الشرق، وجنوة مصر و نيويورك أفريقيا.
 
منها انطلقت حملات الملكة حتشبسوت إلى بلاد ( بنت).لك أن تتخيل صورة تلك المدينة التى كانت تمثل فى العصور الوسطى نهاية ( طريق الحرير) البحرى فى العالم. إليها تفد كل تجارة قارة آسيا، من الصين، الهند، إيران وغيرها، تفرغ السفن بضائعها فى الميناء فيتم تحميلها فى قوافل لتعبر الصحراء المصرية حتى موانى البحر المتوسط فيعاد شحنها فى سفن إلى أوربا، كل ذلك مقابل إتاوات كبيرة جعلت من مصر أغنى دول المنطقة حتى نهاية عصر المماليك. الحجيج يحطون أيضا فى تلك الميناء فتنتعش حركة البيع و الشراء فى حلهم و ترحالهم و تنتشر السفن بين ما هو متجه للحجاز و ما هو قاصد الهند و الصين.
 
المسافة بين الغردقة و القصير قصيرة و لكن تنتابك رهبة وأنت تسير بمحاذاة البحر الأحمر، البحر هناك واسع فسيح، آفاقه بعيدة لامتناهية، الساحل متعرج تعرجا مخيفا، فتراه يبعد عشركيلومترات عن الطريق ثم يقترب منه فيصبح على بعد أقل من نصف متر! يوجد بالمدينة الجديدة منتجعات أوربية خمس نجوم كــ ( موفنبيك) و (راديسون) علاوة على فنادق ثلاثة نجوم، فهى كسائر منتجعات البحر الأحمر، منطقة جذب للسواح من هواة الرياضات المائية، لكن يأتى بعضهم أيضا من ( مرسى علم) التى تقع على بعد 30 كيلو متر إلى الشمال لمشاهدة آثار المدينة. السكان خليط من أهل الصعيد والبدو وقليل من أهل وجه بحرى،واللغة خليط من المفردات البدوية و الصعيدية. هناك شارع طويل يفصل المدينة الجديدة عن نظيرتها القديمة.

 ( قلعة القصير) أول ما تقع عليه عيناك فى المدينة القديمة، بنيت القلعة فى عهد السلطان العثمانى سليم الأول لحماية المدينة ضد هجمات الغزاة وتنبه نابليون لموقعها الاستراتيجى و لكنه فشل فى الاستيلاء على المدينة لفترة طويلة. أعاد محمد على بناءها و من هناك وجه حملاته ضد الحركة الوهابية بالحجاز. تستطيع من فوق أحد أبراج القلعة أن تشهد كم البيوت الأثرية التى تعج بها المدينة و عدد المساجد والأضرحة التى تزخر بها، زرت مسجد (سيدى الفران) الذى يقع بالقرب من كورنيش المدينة وقد بنى فى أوائل القرن الثامن عشر وضريح سيدى القنائى علاوة على عشرين ضريح آخر لمتصوفة وردوا من آسيا الوسطى والجزيرة العربية و أفريقيا السوداء. لقد كانت القصير مدينة متعددة الجنسيات ويقول المؤرخون إنها مثال لكيف كانت مصر أفريقية الموقع آسيوية الهوى، فقد أختلط المصريون منذ أقدم الأزمنة بالشعوب الآسيوية عن طريق التجارة قبل أن يلتقوا الأفارقة والأوربيين.
 
(القصير )فى حاجة عاجلة إلى مشروع دولى يستهدف ترميمها ووضعها على الخريطة السياحية. التجوال فى الممرات و الأزقة يكشف الذوق المعمارى العالى و مدى حرص الأهالى على العناية به، المدينة كنز أثرى قد يحتاج إلى مليارات لإحيائه، هى على النقيض من مدينتى( فوة) و( رشيد) اللتين تم ترميم معظم آثارهما، ربما طال القصير الأهمال هى و مدينة مثل (قوص) بسبب موقعهما فى الجنوب الذى مازال لا يحظى بعناية الدولة.
 
لقد حل الأوربيون على الشرق فاكتشفوا طريق الرجاء الصالح حول أفريقيا، فكسدت التجارة فى القصيرومنطقة البحر الأحمر فى بداية حكم العثمانيين وظلت على هذا الحال إلى أن تم حفر قناة السويس، لكن كان من العجيب أن تظل الصوفية التى لازمت حركة الرواج التجارى المعين و الملهم على الصبر خلال قرون عم خلالها الفقر والكساد وساءت فيها أحوال العباد، فانتشرت الصوامع الصوفية و معها الدجل و الدجالون وخبت حركة البحث العلمى و صارت الأمور إلى ما نحن عليه اليوم: غرب متقدم وشرق يحبو...إلى أين؟؟