العاشر من رمضان والنقطة الحصينة..وقعت الحرب وإسرائيل تحتفل بيوبيلها الفضى...

تلك ميزة الرحلات: أنها تعرفك على أماكن جديدة لم تكن تعرف عنها  من قبل أو حتى سمعت بها..قمت برحلة إلى مدينة السويس قبل بدء شهر رمضان الكريم بحوالى عشرة أيام.. وكان قد مر أربعون عاما منذ أخر مرة زرتها زيارة سريعة وأنا فى طريق العودة من مدينة بورسعيد فى زمن الانفتاح...
الحق كان برنامج الرحلة فاتحا للشهية: متحف السويس، قصر محمد على باشا الكبير، بيت المساجيرى الذى صور فيه فيلم (بن حميدو ) المعروف ومنازل مرشدى القناة ببورتوفيق وغيرها ولكننى فوجئت بأننا بدأنا الرحلة بموقع عسكرى قرب خليج السويس، موقع يمتد فوق نقطة عالية تكبدنا الكثير من المشقة فى الصعود إليها والنزول منها...
طبعا لم تكن مفاجأة سارة لأنها لم تسجل فى قائمة البرنامج، ثم أن ما بها لم يكن فاتحا لشهية الزائر، لكن تغير كل ذلك بعد أن انتهينا من زيارة المكان ثم بعد أن أمعنت الفكر فيه بعد عودتنا إلى القاهرة.
لم يكن ذلك غير موقع النقطة الحصينة الذى دارت فيه أول المعارك التى تزامنت مع إقتحام خط بارليف فى أكتوبر عام 1973.. وهى أعلى نقطة فى مدنية السويس والتى تقع بالقرب من عيون موسى. بسبب أهمية المكان والمعركة تحولت النقطة الحصينة عقب بعد ذلك إلى متحف عسكرى مفتوح قلما يزوره الآن الوافدون إلى مدينة السويس، لكن نظرا لحلول ذكرى العاشر من رمضان كتبت عنه الصحف و ربما كانت هناك رغبة فى إعادة إحيائه بسبب المعارك المستعرة اليوم فى غير هوادة داخل غزة وأرجاء مختلفة من فلسطين المحتلة.
وما أجج تلك الفكرة فى ذهنى ما رواه بعض من سكان السويس المخضرمين الذين عاصروا النكسة حيث عادت بهم الذاكرة إلى تلك الأيام التى عانت فيها مدن القناة مما تعانيه غزة اليوم، فقد دُمرت السويس والإسماعيلية وبورسعيد وفر سكانها إلى القاهرة والإسكندرية واضطرت السلطات إلى فتح المدارس ونصب الخيام لاستقبالهم: ذكريات مريرة تتكررعند مشاهدة مأساة غزة، لكن الفرق الأوحد أنه لم تكن هناك أقمار صناعية لتنقل تلك المجازر على الهواء عبر شاشات التلفزيونات كما يحدث اليوم. ولكن ما أهمية النقطة الحصينة فى كل ما ذُكر أعلاه؟
كانت النقطة الحصينة موقعا شيدته قوات العدو فى أعلى نقطة بالسويس بعيدا عن الأنظار وزودته بمدافع فرنسية بعيدة المدى تم أخفاؤها فى دشم محصنة تخرج لتصيب أهدافها فى السويس والاسماعيلية على بعد 30كم فدمرت هاتين المدينيتن فى وقت ظلت القوات المصرية لأربع  سنوات تبحث عن مصدر هذا الدمار.
لكن ما هى الدشمة؟ ربما لا يعرفها غير المتخصصون، فهى مخبأ تحت الأرض مزود بحوائط صلبة لحماية الجنود داخله من القنابل وضربات المدافع والهجمات العسكرية..وعادة ما يختفى عن الأعين.. ما حدا بدشمات النقطة الحصينة أن تبقى لغزا لعدة سنوات.
والواقع  فإننى بالبحث فى المواقع العربية لم أجد إلا القليل ما يثلج الصدر وجميعها كتبت فى نفس الوقت الذى زرتها فيه..ما يدل على أنها بقيت مهملة لفترة غير قصيرة..أما فى المراجع الأجنبية فكتب عنها القليل مما مجد قدامى الحرب اليهود..وكان جل ما حصلت عليه معلومات عن إقتحام خط بارليف المنيع رغم أن النقطة الحصينة كانت المفتاح. لكن كيف تم أكتشاف اللغز الذى عرف أيضا بملحة عيون موسى؟
كانت عيون موسى نقطة حصينة للعدو فى خط بارليف بل أحد أهم وأقوى مواقع العدو والتى بسببها تعرضت مدينة السويس للتدمير وسميت بهذا الاسم نظرا لقرب الموقع من آبار عيون موسى وتم إنشاؤها تحت قيادة حاييم بارليف رئيس الأركان الإسرائيلى والذى تولى منصب وزير الصناعة قبل الحرب وصاحب فكرة إقامة خط بارليف.
وحسب ما ورد فى جريدة الأخبار فإن موقع عيون موسى يحوى ست دشم وكل دشمة محمية بقضبان حديد وصخر محمى بشباك من الفولاذ و الذى يتحمل قوة دانة وزنها 10 ألاف رطل ويضم فصيلة مشاه ميكانيكى وخمس دبابات وبطارية صواريخ وقسم قيادى وآخر إدارى.

صورة بانورامية للدشم
وتضيف الجريدة أن الموقع كان محاطا بثلاث طبقات من الألغام وكان هناك مدفع رشاش مضاد للطائرات لصد أى هجوم برى أو جوى على الموقع. كما يضم الموقع ستة مدافع وكل مدفع موجود فى دشمة ذات عيار 155 ملم فرنسى الصنع ووزنه 24 طنا ومداه بين 23 و 27 كم وقوته التدميرية تصل لـ 200 متر مربع فى الثانية وكان يطلق عليه (أبوجاموس) نظرا لصوت الزمأرة الناتجة عن إطلاقه وكانت أبواب الدشم تغلق فور إطلاق القذيفة بحيث لا يمكن رصدها ولا رصد موقع النقطة عقب الإطلاق من خلال الاستطلاع.
ووفقا لمرشدى المتحف أنه بطريق الصدفة تم اكتشاف الموقع عن طريق أحد البدو الذى شاهده عن بعد وأبلغ المخابرات العسكرية أن نقطة إسرائيلية منيعة تبعد عن السويس بحوالى 17 كم بالقرب من عيون موسى هى التى يتم منها توجيه الضربات المدمرة لمدينة السويس من دشم تخرج منها المدافع بطرق ميكانيكية لتصيب أهدافها وترجع ثانية إلى الدشم حيث يختفى دخان القذائف عن طريق هوايات تبدد الدخان تدريجيا فلا يستطيع أحد التعرف على مصدره.
 فى البداية تتبع البدو حركات الجنود الإسرائيليين وهم ينقلون الحصى وحديد خط قطارات الحج الواصل بين مصر وفلسطين عبر صحراء سيناء ولكنهم لم يعرفوا الغرض من نقل هذه المواد. لكن شاهد أحدهم ذات مرة المدفع وهو يخرج من إحدى الدشم فأبلغ المخابرات المصرية على الفور والتى لم تتورع فى جمع معلومات دقيقة عن الموقع بواسطة بعض الجنود المصريين الذين تنكروا فى زى البدو.
وبعد اقتحام خط بارليف بثلاثة أيام، أى فى التاسع من أكتوبر، صدرت الأوامر بمهاجمة النقطة المنيعة التى كانت محصنة بالألغام ولكن عندما وصلت القوات المصرية إلى عيون موسى انهالت عليها القنابل فأشار البدو على الجنود بالهجوم على الموقع من الخلف عبر ممر رملى تحت الأرض، فعبرت الجنود منه فوق أجساد أبناء وطنهم الذين تمددوا فوق الألغام المنتشرة داخل الممر لتمكينهم من الوصول لمواقع العدو الذى فر من هول المفاجأة.
بطولات وتضحيات لا مثيل لها.
 وبعد مرور عدة أعوام على انتهاء الحرب أمر الرئيس الراحل أنور السادات بتحويل الموقع إلى متحف حربى ليأتى إليه الزوار من جميع أنحاء العالم وقد تم ترميم الموقع ثانية عام 1992 وكانت الدشم قد دمرت بالديناميت إلا واحدة بقيت وبداخلها مدفعها لتصبح واحدة من معروضات المكان بجانب بقايا عدد من الدشم المدمرة.
من ساحة الموقع يمكن الصعود إلى أعلى نقطة فيه والتى تشرف على خليج السويس الذى كان على مرمى المدافع الإسرائيلية التى طالت أيضا السويس وبورتوفيق وبور فؤاد. أما أهم ما يلفت النظر فهى غرفة قائد النقطة والتى تقع فى ممر ضيق مفتوح من الجهتين...
ما زال مكتبه داخل الغرفة وعليه علم كبير لإسرائيل والنشيد الوطنى للدولة اليهودية وصفحات من التوراة وساعة القائد الشخصية، وبطاقته العسكرية، إلى جانب خريطة لسيناء بالكامل التي أخذت بالقمر الصناعى الأمريكى وأهدتها الولايات المتحدة لإسرائيل، وكانت تستخدم فى قصف مدن القناة...
 ومن العجيب ما سمعته من المرشد أن النجمة على علم إسرائيل ليست نجمة داود كما يشاع، إنما ترمز الستة أضلاع للنجمة إلى شعار ( من النيل إلى الفرات)، أى حلم إسرائيل بإحتلال البلاد الستة التى تشير إليها النجمة!
ولو كنت قد زرت المكان فى أى وقت سابق لم اهتممت بالكتابة عنه فى وقت كانت قد خمدت فيه ذكرى الحرب، لكن والمذابح تتوالى فى غزة لتبيد البشر والأخضر واليابس لا يسعنا إلا أن نعلن أن وحدة تلك الأقطاب الستة المرسومة على علم إسرائيل هى مفتاح الخلاص..لقد تكررت مأساة غزة عام 1948 عند النكبة وفى عام 1956 فى حرب السويس ثم فى 1967 عند وقوع النكسة واليوم يجدد العدوان على غزة ذكرى تلك المآسى ويعلم الله متى تنتهى الجديدة منها؟؟