الشِّعريَّة العَرَبيَّة (تراثنا الفلسفي وجناية التقليد الأعمى)

   ما شأن تلك القضايا المهمَّة التي يبدو الشِّعر دائمًا وكأنَّه يقرِّرها؟
سؤالٌ يستعيد جدليَّة (أرسطو) مع (أفلاطون)؛ إذ كان يرى الأوَّل أنْ ليس سبيل المعرفة بسبيل العقل وحده؛ فمحاكاة الفنِّ عمومًا هي محاكاةٌ للقِيَم الجوهريَّة في الأشياء لا للأشياء ذاتها، وذلك من أجل إكمالها وجلاء أغراضها والاعتبار بها.  ولذلك فالمحاكاة أعظم من الحقيقة ومن الواقع، وبهذا يصبح الشِّعر فوق الفلسفة والتاريخ منزلةً؛ لأنَّه يتعمَّق من المعاني ويُبصِر من الدلالات ما لا يتعمَّقان ولا يُبصِران.(1) إلَّا أنَّ كيفيَّة جَرَيان ذلك ما تزال مكتنفةً بالأسرار التي تتأبَّى على البرهنة العِلميَّة.
لأجل هذا فإنَّ الأديب عمومًا والشاعر خصوصًا- الذي هو فنَّانٌ قبل كلِّ شيء - يستحيل عليه تصوُّر انضواء الأدب تحت أيِّ شعارٍ فِكريٍّ أو حِزبيٍّ، إلَّا إنْ كان قد بلغ من التماهي مع ذلك الشِّعار مبلغًا يمكِّنه من عرض الحقيقة عرضًا صادقًا إلى أقصى حد؛ "فنحن – كما يقول (ستيفن سبندر)(2)- يمكننا أن نستخلص نتائج سياسيَّة ثوريَّة من مجرَّد اطِّلاعنا على الحياة التي وصفَها كلٌّ من (تولستوي) و(تورجينيف) و(هنري جيمز) في رواياتهم، دون أنْ نقول إنَّ هؤلاء أنفسهم كانوا كتَّابًا اشتراكيِّين".
ولذا تغيب العلاقة التطابقيَّة المتينة بين النصِّ الأدبيِّ- الشِّعريِّ بخاصَّة- والحقيقة الواقعيَّة؛ الأمر الذي يستدعي الحذر الشديد من اتخاذ الشِّعر وثيقة؛ لأنه، بمقدار ما يمكن أن يعكس وجه الحياة، يمكن أن يعاكسه ويناقضه.(3) ذلك أنَّ الحقيقة والصِّدق في الشِّعر يرجعان إلى الكلمات لا إلى الوقائع في ذاتها.  تلك الكلمات التي يدأب الشُّعراء بحثًا عن تراكيبها الجديدة المستكنِهة لشروط الحياة وطبائع الإنسان، من حيث إنَّ أسئلة الشِّعر، غير المحدودة، تختلف في ماهيَّتها وعمقها عن أسئلة العِلم والسياسة.(4) إنها أسئلة الكاشف عن معنى الحياة بين الإنسانيَّة ومنجزاتها، الكامن خلف الأشياء والأحياء.  ومن هنا فما يهمُّ في الشِّعر ليست الأشياء والأحياء في ذاتهما، بل الأشياء والأحياء معبَّرًا عنهما من خلال اللُّغة الشِّعريَّة.  أمَّا الشاعر الحِزبيُّ، فمهما كانت عليه رؤيتُه من قِيَمٍ مثاليَّة، فإنه يحبس نفسه ويزيِّف الحياة، حين يعجز عن فهمها في تنوُّعها، بخيرها وشرِّها.(5)
أمَّا في تراثنا الفلسفيِّ الإسلامي، فقد ضلَّ فلاسفتنا ضلالًا بعيدًا في فهم طبيعة الشِّعر العَرَبيِّ ووظيفته؛ من حيث وَلَجوا إليه من باب تبعيَّتهم للفلاسفة الإغريق.  فترجموا عن هؤلاء ما وجدوا، ترجمةً سقيمة، مع فهمٍ أشدَّ سُقمًا لضروبٍ من الشِّعر، لا عهد لهم بها؛ مثل الشِّعر المسرحي- بالدراما التراجيديَّة فيه والكوميديَّة- والشِّعر التعليمي، بوظيفته المعرفيَّة والتوجيهيَّة المباشرة، والشِّعر القصصي والملحمي، بطبيعتهما السَّرديَّة، والشِّعر المُغَنَّى، بأسلوبه المسرحيِّ الملحَّن، مصحوبًا بالآلات الموسيقيَّة.  فكانت مقولات (الفارابي)، و(ابن سينا)، و(ابن رُشْد)، ومَن تبعهم بتقليدٍ أعمى في التراث العَرَبي- حول مفاهيم "المحاكاة"، وعلاقة الشِّعر بـ"المنطق"، والمحاكاة الشِّعريَّة في "اللحن الموسيقي"- واردةَ نقْلهم مقولات (أفلاطون) و(أرسطو)، في مجال شِعرهما الإغريقي.  وإنَّما جنَى عليهم تلك المنزلَقات المفاهيميَّة والفنِّيـَّة هوسُهم باقتباس كلِّ واردٍ فلسفيٍّ يوناني، مع عدم فهمٍ: عَمَّ كان يتحدَّث معلِّموهم اليونان؟ وعن جهلٍ بالاختلافات النوعيَّة، أصلًا، بين طبيعة الشِّعر العَرَبيِّ وثقافته والشِّعر اليونانيِّ وثقافته.(6)
وعليه، يُستنتَج أن الشِّعر يَفسُد بوضعه في خدمة غيره من المبادئ والأفكار؛ لأنَّ الشاعر يفقد حُرِّيَّته التي لا يستطيع من دونها الوصول إلى الحقيقة الصِّرفة، المجرَّدة من المصالح والتحيُّزات، التي تُشوِّه الوجود من أجل مآربها.  
إنَّ على الشاعر أن يملك الشجاعة الكافية للمحافظة على وجوده الذاتي، بأن يكون صادقًا مع نفسه مخلصًا لطبيعته، وأنَّ يكتب عمَّا يهمُّه بقطع النظر عن أيِّ شيءٍ آخَر، مستمليًا ذوقه من الحياة والتجارب، لا غير.(7)
ـــــــــــــــــــــــ
(1)  عن (طبيعة الأدب)، يُنظَر مثلًا: ديتشس، ديفد، (1967)، مناهج النقد الأدبي بين النظريَّة والتطبيق، ترجمة: محمَّد يوسف نجم، مراجعة: إحسان عبَّاس، (بيروت- نيويورك: مؤسسة فرانكلين)، الباب الأول؛ هايمن، استانلي، (1978م)، النقد الأدبي ومدارسه الحديثة، ترجمة: إحسان عباس ومحمَّد يوسف نجم، (بيروت: دار الثقافة)، 9- 36؛ ويليك، رينيه وأوستين وارين، (1987)، نظريَّة الأدب، ترجمة: محيي الدِّين صبحي، مراجعة: حسام الدِّين الخطيب، (بيروت: المؤسَّسة العَرَبيَّة للدراسات والنشر)، 19- 27.
(2)  (د.ت)، الحياة والشاعر، ترجمة: مصطفى بدوي، (القاهرة: مكتبة الأنجلو المِصْريَّة)، 9.   
(3)  يُنظَر: تودوروف، تزفيتان، (1990)، الشِّعريَّة، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر) ، 35.
(4)  يُنظَر: سبندر، 34-38؛ كوهن، جان، (1986)، بنية اللُّغة الشِّعريَّة، ترجمة: محمَّد الولي ومحمَّد العمري، (الدار البيضاء: دار توبقال)، 37-38.
(5)  يُنظَر: سبندر، 70-75.
(6)  حول هذا، انظر مثلًا: عصفور، جابر، (1992)، الصُّورة الفنِّـيَّة في التراث النقدي والبلاغي عند العَرَب، (بيروت: المركز الثقافي العَرَبي)، 144- 169؛ الروبي، ألفت كمال، (1983)، نظريَّة الشِّعر عند الفلاسفة المسلمين: من الكندي حتى ابن رُشد، (بيروت: دار التنوير)، بخاصة: الفصل الثاني "مفهوم الشِّعر"، والفصل الثالث "مهمَّة الشِّعر".
(7)  يُنظَر: سبندر، 160-161، 173.