الفصل الأول من رواية الشئ الآخر

الشئ الآخر

-1-

[أيها الجبان.انتبه جيدا لما تقرأ.لاتغضب من تلك الصفة التى بدأنا بها مخاطبتك،فلا يحق لك الغضب الا بعد أن تثبت لنا أنك لست كذلك..نحن جماعة مكافحة العجز والدنس.لقد تحرينا عنك بدقة متناهية،وعرفنا دقائق حياتك منذ طفولتك فى حى الأنفوشى حتى تخرجت فى الجامعة بتفوق،ثم حدث ماحدث وتوقف زمنك عند جريمة شنعاء،فعانيت من الظلم والبطالة والفراغ والاكتئاب والهم والغم،حتى تعطف عليك بائع خضروات فجعل منك موظفا صغيرا بشركة خاسرة من شركات قطاع الأعمال.نعلم أنك تجاوزت الأربعين وأنك متزوج ولديك ولد وبنت وتسكن فى حى شعبى من أحياء بحرى.أنت رجل طيب القلب حسن النية-كشأن معظم المصريين-لاتسعى الى الشر أبدا.ورغم التزامك الدينى الذى لايعرف التعصب،إلا أن نقاط ضعفك وسقطاتك لاتخفى علينا.نحن نعرفها ولا نود ولا نملك أن نحاسبك عليها أو نهدد بها حياتك المستقرة الساكنة.ولكن..انتبه جيدا لما تقرأ،فهذه أول خطوة نطلبها منك يا أستاذ منصور عبد الرازق..ولأنك جبان سرقت منه أحلامه ولم ينتفض،ولأننا كنا جبناء مثلك-قبل أن نتخذ قرارا بإنشاء الجماعة-فإن أحدا منا-نحن وأنت- لم يتخذ قرارا بأن يفعل،فكل قراراتنا ردود أفعال لقرارات اتخذها لنا غيرنا بالوكالة عنا ودون الرجوع الينا لأننا استنمنا الى التهميش واستمرأنا السكون والانقياد،وترك كل منا حياته ليديرها له الآخرون كيفما شاءوا..نحن لانسرد عبارات إنشائية وإنما نقرر أمرا واقعا.لقد قررنا أن نأخذ بيد الجميع لكى يديروا حياتهم بأنفسهم حسبما يريدون هم لاحسبما يريد الآخرون. لاتتعجل الأمور فسوف تجد فى رسالاتنا القادمة إجابات شافية عن تساؤلاتك الحيرى بشأن هويتنا ومن نكون.عليك الآن فقط بالقراءة والتأمل والتفكر.استرجع حياتك وتأمل كيف عشتها وارجع كل لحظة فيها الى ارادتك الحرة ثم اسأل نفسك: -هل عشت حياتك كما تريد؟ كن أمينا فى عملية الرصد والتقييم.تخلّ-ولو بصفة وقتية-عن جبنك وأنت تكاشف نفسك،فستصل الى النتيجة الحتمية وهى أنك حتى هذه اللحظة مسلوب الارادة،نكرة،عبد لاحتياجاتك،لارأى لك ولا صوت،ولاحول ولاقوة.تفتقد أبسط ضرورات الحياة الانسانية الكريمة التى يبتغيها لنفسه أى إنسان على الأرض،لا لأنه يبتغيها فحسب،بل لأنه يستحقها لمجرد كونه إنسانا،فحين أراد الله أن يختار من يخلفه فى الأرض رفض ابتهالات الملائكة أن يحظوا بهذا الاصطفاء واختار الانسان. انتبه..نحن لسنا جماعة دينية وليس لنا أمير.نحن نرفض أصحاب الحقيقة الواحدة المطلقة ممن يكفّرون خصومهم،فالقاعدة الذهبية التى تنطلق منها دعوتنا هى الحرية بمفهومها الانسانى المتكامل.وكما أعطينا لنفسنا الحق أن نصفك بالجبن،فمن حقك أن تثبت لنا أننا مخطئون،وأنك تنوى الفعل بالفعل وهذا ما ننتظره منك.نحن لانملك السلاح ولانريد أن نملكه،ولانفكر فى قتل أحد أو إهدار دمه أو تكفيره والعياذ بالله.سلاحنا هو كلمة الحق وكلمة الحق هى سلاحنا. ستتساءل بالقطع كيف تأتّى لنا أن نتحرى عن حياتك والإجابة أن جماعتنا تضم رجالا مخلصين من العاملين فى المباحث،فليس كل العاملين بهذا الجهاز-كما تعتقد الغالبية من الناس-من الأنذال والأوغاد،بل منهم الوطنيون والشرفاء. ستتساءل كيف تدّعون أنكم أحرار تنطلقون من قاعدة حرية الانسان،ثم تتجسسون على حياة الناس،والاجابة أنه لم يكن لدينا بديل عملى لمعرفة واختيار من يمكنهم الانضمام الينا،أو بمعنى أدق:من هم الجديرون بالانضمام الينا،حتى نكثف الفعل ونحرر ارادة الناس. ستتساءل كيف يمكنك الاتصال بنا،والاجابة أنه لاداعى للحديث فى شىء قبل أوانه،فحين نستوثق من جديتك ستعرفنا وتسعد بنا،وسوف نعمل معا على تحرير قلوبنا وعقولنا ونفوسنا وأرواحنا من العجز والدنس.] جماعة مكافحة العجز و الدنس تحريرا فى--/-/2003

****

-2-

أعلم أن سقراط سأل مريديه يوما: -أتعرفون الغرض الحقيقى لحياتكم؟ فأجابوا: -نعم..أن نعيش ياسقراط فقال لهم: - لكن البهائم تعيش وقد اعتدت فى السنوات الأخيرة أن أعثر فى صندوق خطاباتى على رسائل مجهولة من نوع غريب،كثير منها يحتوى على بعض الأدعية التى ينبغى علىّ-كما يطلب مرسلها-أن أرددها عدة آلاف من المرات بالنهار والليل،ثم أطبعها وأوزعها على الناس وإلا"احترق منزلى وبارت تجارتى وانخرب بيتى"!..واعتدت أيضا أن ألقى بمثل هذه الرسائل فى سلة المهملات قبل أن أكمل قراءتها،والحسرة تنتابنى على تلك الردة التى تنسحب بالحاضر الى قرون الظلمات،مرددا فى سرّى المثل الشعبى القائل: -أهى المشرحة ناقصة قتلى؟! أمام هذه الرسالة التى افتتحت بإهانتى توقفت طويلا..الحق أننى ضحكت من قلبى،فأنا فعلا جبان!.هذه حقيقة لايعرفها أحد سواى.كم أدهشنى أنهم توصلوا اليها بهذه السهولة،ثم نعتونى بها بهذه الثقة.إن أحدا لم يصفنى بالجبن فى السر أو فى العلن منذ طفولتى وحتى اليوم. أما المفارقة الخطيرة فى الأمر فهى توقيت وصول الرسالة..ذلك أننى منذ زمن غير بعيد بدأت أشعر من شدة الغيظ برغبة عارمة فى الانفجار،وفى الوقت ذاته أخشىعلى نفسى منه.أريد وأقاوم.أتمنى ولا أستطيع..غير أن هذا الصراع قد بلغ بى ذروته بعد أن قرأت فى جرائد المعارضة عن مجموعة متناثرة من أحداث تبدو كما لو كانت مترابطة من حيث طبيعة المناخ العام الذى وقعت فيه : رجل ينتحر لأنه لم يجد مايشترى به الزى المدرسى لابنته . ..شاب تخرج فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتفوق ثم حصل على الماجستير،ينتحر بإلقاء نفسه فى النيل لأنه لم يقبل فى امتحان بوزارة الخارجيةرغم تفوقه على الممتحنين كافة،وذلك لأنه-حسبما أعلنوه على الملأ-"غير لائق اجتماعيا"،لانتمائه الى أسرة فقيرة.إسم هذا الشاب عبد الحميد شتا.أموت ولا أنساه أبدا. ..شاب جامعى من أسرة طيبة،يتمسك بحقه القانونى فى ترك عربته بجوار رصيف الشارع الذى يسكن فيه رئيس مجلس الشعب،فيهجم عليه رجال الأمن ويودعونه مستشفى الأمراض العقلية عندما قال إنه يمارس حقه كمواطن فى الانتفاع بالطريق العام الذى يملكه الشعب. .. رجل أعمال ينهب من البنوك مائة وخمسين مليونا من الجنيهات،ثم يقتل زوجته المطربة العـربية ويقتل معهــا مدير أعماله وزوجــته فى مذبحة يحيط بها الفساد من كل جانب،ثم يطلق الرصاص على نفسه تاركا وصية لأخيه بألا يتعامل مع البنوك!..وتتفرغ الجرائد القومية وجرائد المعارضة وقنوات التلفزيون أسابيع متواصلة للحديث عن هذه الواقعة وتحليل أبعادها. .. مهندس بمحافظة الشرقية-التى يشاع عن أهلها شدة الطيبة لدرجة السذاجة-بدرجة مدير عام يكتب عبارة:"لالتوريث الحكم" على بعض الحوائط فتأتى قوات من شرطة الأمن المركزى المدججة بالسلاح لتدهم بيته بعد منتصف الليل وتصادر الآلة الكاتبة لزوجته الدكتورة فى الجامعة ،ويحبس بقرار من النيابة لخمسة عشر يوما على ذمة التحقيق لولا أن أمر رئيس الجمهورية بالافراج عنه..وفى نفس الوقت تفرج النيابة عن فنانة نصف مشهورة بكفالة قدرها مائتى جنيه بعد ضبطها وهى تقود سيارتها فى حالة سكر بيّن. .. اتضاح براءة أربعة متهمين فى قضايا مختلفة بعد دخولهم السجن لعدة سنوات،إذ تبين أنهم اضطروا الى الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها اتقاء لشر التعذيب الوحشى الذى مورس معهم على يد رجال الشرطة والمباحث..وقال أشعيا"مالكم تسحقون شعبى وتطحنون وجوه البائسين.ويل للذين يقضون أقضية الباطل وللكتبة الذين يسجلون زورا ليصدوا الضعفاء عن الحكم ويسلبوا حق بائسى شعبى لتكون الأرامل غنيمتهم وينهبوا الأيتام". تراكمت فى ضميرى تلك الوقائع .كانت كل واقعة منها بمثابة كف غليظة تصفعنى على قفاى.هى بعيدة عنى كل البعد،لكنى تساءلت ما الذى يمنع أن تقترب منى يوما فأكون أحد أبطالها .أحسست بالخطر يقترب من كيانى كما لم يقترب من قبل،وبت على يقين من أن انسانيتى أصبحت مهددة بالامتهان..حينئذ شعرت بخوف عظيم. **** يقتضى منطق تداعى التفكير المتسلسل ألا أعرف كيف أفعل مادمت لا اعرف ماذا أفعل،وأنا فى حقيقة الأمر من ذلك الصنف من الناس الذين يتكلمون كثيرا ويفعلون قليلا.أظل أقلب فى الفكرة شرقا وغربا وشمالا وجنوبا حتى أستبصرها من مجال عريض الاتساع،فتتملكنى الحيرة وأشعر بالتشتت والضياع،وأعجز فى النهاية عن اتخاذ قرار بشأنها،وتكون النتيجة صفرا . الرسالة تستفزنى وتستنفرنى ولكنى عاجز لا أتحرك.انهم صادقون فأنا انسان يفتقد حريته التى تتيح له أن يريد أن يفعل فعلا يعرف سببه ولايدرك كيفية القيام به..أنا إذن لاشىء! فجرت الرسالة غضبى المكتوم من نفسى ومن كل شىء حولى وأيقنت أنه لابد من فعل قوى يزلزل الأرض من تحت أقدام هؤلاء الذين من المحتمل أن يدفعونى أنا الآخر الى إلقاء نفسى فى البحر كما دفعوا غيرى الى النيل .المشكلة أننى أجيد العوم وأحب الحياة.لكن لابد أن تكون هناك أكثر من وسيلة تحول دون انفجارى–غير المأسوف عليه-الى شظايا آدمية متناثرة فى أرجاء الوطن،لاتستطيع إيزيس-لو بعثت من جديد-أن تلملم شتاتها لتبعث فى الحياة من جديد، وحتى لو استطاعت فإنى أشك فى انها ستهتم،وذلك بإيعاز من القائل :"اذا لم تحسن الأمة سياسة نفسها أذلها الله لأمة أخرى تحكمها كما تفعل الشرائع بإقامة القيم على القاصر أو السفيه وهذه حكمة، ومتى بلغت أمة رشدها استرجعت عزها وهذا عدل،وهكذا..ان الله لايظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون". أجلس الى نافذة شقتى المطلة على البحر.أتأمل هذا الكون الرهيب. أرنو الى الأفق الذى لانهاية له.أراقب طيور النورس وهى تتراقص فوق صفحات الموج العابث..وأسألك أيها الخالق الأعظم بكل الإجلال والتوقير كيف تسمح لهذا الخلل أن يحدث فى كونك العظيم؟! لقد بدأ مشروع وجودى-أو إيجادى-على هذه الأرض إثر انقضاء لحظة عاطفية عابرة جمعت بين أبى وامى.هكذا أصبح هذا الوجود مجرد مصادفة قدرية ، ورغم ذلك فأنا فكرة حقيقية لأننى موجود قدر له أن يحقق وجوده حتى لو اعترض البعض على ذلك..هأنا أحققه بتعاطى الحبوب المهدئة والحلول المهدئة حتى أستطيع النوم..وقد أوقعنى العجز والتعب والاصفرار ونقص الأكسجين فى وهم الاحتماء بصدر ماجده والاغتراف من نهرها الثائر المتدفق وارتشاف رحيقها المسكر حتى الثمالة،حيث ينقلب عجزى المهين إلى قوة جامحة ولاحول ولاقوة الا بالله. أسلمت نفسى بين أحضانها للغيبوبة خلف حائط سموحه وبين سحب الدخان الأزرق ونوافذ الميكروسوفت والكحول وجدران المساجد.الأعاصير التى تعصف بكيانى أقوى بكثير من إرادتى لأننى مهزوم وهزيمتى مركبة.إنهم صادقون فماذا أفعل برسالتهم هذه؟.وإذا كانت الحياة فى مجملها تقيم بماأنجزه الانسان من أعمال ذات قيمة انسانية،وانتصارات على المصاعب والمعضلات،وصمود أمام الهزائم والضربات والأزمات،فإننى أستطيع أن أدعى بلا فخر على الاطلاق اننى لم أنجز شيئا يذكر فى هذه الحياة،رغم اننى أحمل على كاهلى هموم القارات الست،بينما لا أستطيع أن أؤثر على أحداثها بمثقال ذرة ولو فى وطنى المحدود،كما لا أستطيع أن أتنازل فى الوقت ذاته عن حملى فهو قدر لامهرب منه..وتساءلت متى يمكن أن اكون شيئا مختلفا عما أنا عليه الآن حتى يزول الخلل ويعود التوازن الى الكون؟.