السياسة البحتة من جهة العلم المحض

 -1-

كف النقد السائد وحتى الفكر السياسي، عن القدرة على تفسير السياسة المعاصرة أو التنبؤ بالأحداث في عصر مذهل بتسارعه، والذي يفترض فيه أن يبعث  الحماسة والدهشة مثل كل تسارع، لكن الاستجابة العامة لما يقال وما يطرح في الإعلام والثقافة يبعث عند المتلقي الإحساس بالضجر لا الحماسة عندما يتعلق الأمر بالسياسة، ومن يقرأ الحوارات عن أحداث الحادي عشر من أيلول حتى مع مفكرين وفلاسفة(1) يصاب بالدهشة من كلام كثير لكنه يقول القليل، مما يشبه الصحافة والإعلام ولكن بصياغة فلسفية، بينما يفترض بالفلسفة قول الكثير بكلمات قليلة.. وهو ما لم نعد نجده إلا لدى العلماء، ذلك أن المثقفين أشبه ما يكونون بمن يعلق على معطيات عالم ما بعد كوبرنيكوس من خلال منظار بطلمي.

يتحسر المؤرخ الثقافي (رسل جاكوب) في كتابه (المثقفون الأخيرون): "على مضي جيل من المفكرين الجماهيريين وحلول أكاديميين لا دماء فيهم بدلا عنهم "(2) ويتحدث (باسكال بونيفاس) من وحي خبرته ومعرفته الشخصية بالمثقفين والمحللين الذين يظهرون في البرامج التلفزيونية السياسية، ويتحدثون عن أشياء يعرفون أنها ليست حقيقية.. لمجرد أنهم يريدون  تحقيق توقعات البرامج الحوارية منهم، مثل حديثهم عن التطرف الإسلامي، دون أن يكونوا مقتنعين بما يقولونه. ويؤكد بونيفاس انه يتحدث في حدود معرفته لواقع فرنسا، ولكن أي قارئ لكتابه (المثقفون المزيفون)(3) يدرك إلى أي حد ينطبق كلام (بونيفاس) على مدى أوسع، وقد يكون حذر بونيفاس المبالغ فيه احد عيوب الكتاب، فالإعلام والسياسة عالميان وليسا محليين، مما جعله يخرج باستنتاجات محدودة تجاوزها المتلقي. 

يتبادل الحقيقي والمزيف مكانيهما كمفهومين نسبيين في بنية سياسية معقدة مثل الفضاء، حيث يتوسع المكان باستمرار مؤشرا على الزمان الكوني. في أعقاب تحرير الكويت من الغزو العراقي والتغطية العولمية للحرب، كتب (جان بودرياد) مقالة عنوانها: "حرب الخليج لم تقع " لأنها بحسب عناوينها، امتداد لتواريخ احتمالية لا لتاريخ حقيقي رغم حدوثها فعليا، وهو الشيء الذي عبر عنه المفكر (امبرتو ايكو) عند تشككه من الاستعراض الذي مارسته الحرب. وبالامتداد لأحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001، قامت الولايات المتحدة الأمريكية فورا بغزو أفغانستان انتقاما لتدمير البرجين، وأسقطت نظام (طالبان) الشبيه بأنظمة العصور الوسطى بسهولة، لان عموم الشعب الأفغاني لم يقاوموا الغزو الأمريكي، معتقدين أن الأمريكيين أهون الشرين. وبعد عامين تم إسقاط النظام العراقي وسط ترحيب العراقيين، ولكن تغلب اصطفاء التاريخ كما لو كان حتميا، على المستقبل الممكن كما لو كان مجمدا، بعودة العراق إلى عصور بائدة من الطائفية بدل رغبة العراقيين بالتحرر والتقدم. وبعد تسعة عشر عاما من الحرب الأمريكية المنتصرة على طالبان، فان الولايات المتحدة الأمريكية تجري مفاوضات معها وتعترف بها، وعلى الأفغان إعادة حساباتهم التي أجروها مع بدء الغزو، وعليهم التصالح مع نظام طالبان الذي تخلوا عنه.

سلسلة الفشل هذه لأقوى دولة في العالم، إذا صدقنا تباهي أمريكا بفشلها، من العجز عن تفادي أحداث الحادي عشر من أيلول إلى الفشل في أفغانستان والعراق، هل هي فوضى ضمن النظام أم نظام للفوضى؟  وحتى بعض السياسيين، ولا يفترض بهم ان يكونوا فلاسفة أو علماء، والذين هم جزء من المنظومة السياسية الفاعلة، لا يدركون عمل كل المنظومة او أهدافها أو منطلقاتها، لأنهم في أحسن الأحوال مجرد جزء صغير يدور في فضاء ضيق.. لا يتسع لفضاء السياسة الكلي. وهذا ليس صدفة أو مفارقة ولكنه منحى "التعقيد"، الذي ينطلق من كل ما هو أساسي وبسيط إلى بنية أكثر تعقيدا. بالإضافة إلى أن صانعي السياسة لا يفسرونها ولكنهم يصنعونها، ويجدون أنفسهم في محيط خال من مراقبة المنظرين، ولذا فهم أكثر المشجعين على التعاطي بالنظريات السياسية التقليدية وبعث الحياة فيها. وإذا استخدمنا تشبيها فان واقع السياسة الحالي يشبه، ظاهريا، فيزياء تجريبية ولكن من دون نظريات فيزيائية، مع أن النظرية هي أساس الفيزياء وليس العكس.

ويعتبر التفكير السائد أن الواقع الراهن يتوافق مع تاريخ أفغانستان والعراق في الصورة النمطية الغربية عن العالم الثالث، لكن كل ما يفعله هو تفضيل تاريخ ميت على تاريخ كان اقرب للمستقبل من قربه للماضي، وكان يؤمن به الشعبان الأفغاني والعراقي، وبحجة رفض "نظرية المؤامرة"، يتبنى هؤلاء نظريات أكثر تخلفا وعجزا بقبول تمثيل طالبان للتاريخ الأفغاني، من منظور تاريخ خطي متواصل، بدل ان تكون رغبات الشعب الأفغاني هي ممثل تاريخه الخاص بنزوعه للحياة العصرية، ويتم تجاهل فائض القوة الأمريكي الذي لا يفسر فشل أمريكا أمام أعداء يملكون "فائضا" من الضعف.

وكان المفكر (فرانز فانون)، من حقبة الاستعمار التقليدي، قد لا حظ ان الاستعمار يبدي احتراما لثقافات المستعمرات ودياناتها القديمة، ويشجع على الاحتفاء بها لكي يظهرها بمظهر (كاريكاتوري). ومع عودة الاستعمار الحديث، عاد الظهور الكاريكاتوري والمسرحي للتطرف الديني مثل تنظيم "القاعدة" وطالبان وغيرها. ومع الدعوة لما يسمى "بصفقة القرن" ظهرت ردة فعل من الذين لا يؤمنون بنظريات المؤامرة، باعتبار صفقة القرن مؤامرة على الفلسطينيين، رغم ان مغزى الصفقة النهائي هو الاعتراف بدولة غزة كدولة وحيدة للفلسطينيين، الذين زعم بأنهم قاموا بتفضيل "حماس" على منظمة التحرير، اي أنهم منذ استيلاء حركة حماس الإسلامية على غزة فقد فضلوا تاريخا احتماليا هو إقامة دولة إسلامية، على تاريخ ممكن وهو إقامة دولة وطنية مدنية، باعتبار "حماس" ممثلة للتاريخ الفلسطيني، وهو التاريخ الذي تستعد إسرائيل للاعتراف به كتاريخ معقول اذا كانت حماس ممثلته ويجب ان يكون حتميا، بدل تاريخ بدا حتميا طوال نضال الفلسطينيين والتعاطف العالمي معهم في العقود السابقة، لكنه تاريخ غير مرغوب فيه للقوى الفاعلة وصانعة السياسة مثلما كان الفلسطينيون غير مرغوب فيهم أثناء نضالهم وراء منظمة التحرير، وسوف تحقق (دويلة غزة) أقل من الحكم الذاتي الذي رفضه الفلسطينيون أثناء نضالهم الوطني، وهذا هو "انتصار" حماس الوحيد والنهائي والذي لم تتعهد، حقا، بانتصار غيره

ولا يجد صانعو السياسة الدولية أنفسهم مضطرين لتفسير سياساتهم لان المثقفين المحليين قاموا بالتبرير منذ البدء محققين رغبة صانعي السياسة بوعي او بدون وعي.  

-2-

 يبدو كأن تجريبا سياسيا يصنع نفسه بنفسه دون تنظير، وقد لا يكون الأمر سوى أن النظرية غير معروضة بسبب انعدام الطلب عليها..وهذا ناجم عن الاشتغال بالنظريات السياسية الأساسية، اي التقليدية، لاسيما ان لها تواريخ حتمية لا احتمالية واعتبارها مازالت تفسر السياسة الراهنة. وكأن البسيط والأساسي يبقى بسيطا وأساسيا،  فيغدو التعقيد الحاصل مجهولا رغم انه ناجم عن البسيط ،  لكنه يختلف عنه نوعيا.. لا كميا فقط. يقول العالم (موراي جيل مان): "إن التعقيد الفعلي لشيء ما هو توصيف مختصر لإطراداته، ويمكن لهذه الاطرادات أن تنشا من منبعين: القوانين الأساسية التي هي بسيطة جدا، والأحداث المجمدة "(4).

الأحداث لا تكون حتمية إلا بعد وقوعها، أما قبل ذلك فتكون احتمالية فقط. كل حدث كان مجرد احتمال واحد بين عدة احتمالات، ولكن وقوعه يجعله تاريخا حتميا وتصبح كل الاحتمالات الأخرى مجرد تواريخ مجمدة ولكن..هل يمكن للاحتمالات التي جمدها احتمال واحد غالب   صار هو التاريخ، أن يتم تفعيلها لتحل محل التاريخ الفعلي؟ هذا افتراض يحلم العلماء بتجريبه في المختبر ولكن في حال تحققها فهل ستكون النتيجة حدثا حقيقيا ام مزيفا؟ الأحداث التي تحدث مهما بدت لا معقولة، فإنها  سوف تصبح تاريخا محتما بالنسبة للمستقبل وسوف تكون مفهومة. ولكن هل يمكن اختبار السياسة في المختبر مثل الفيزياء؟ هل يمكن إدخال السياسة الى الكمبيوتر؟ في الحقيقة إن هذا يحدث منذ زمن، بالإضافة إلى انه حتى في الفيزياء لا يمكن، بعد، معالجة كل الفرضيات في الكمبيوتر فهناك قضايا "لا حاسوبية"، مثلما إن هناك حتى في الرياضيات قضايا صحيحة لا يمكن البرهنة عليها، كما هناك في العلم وفي السياسة، قضايا يمكن البرهنة عليها، لكنها غير صحيحة .

يمكن رد أي قضية سياسية إلى عناصر بسيطة، وإدخالها إلى الكومبيوتر ومراقبة التعقيد الذي يمكن أن ينبثق منها. وعلى العكس من الفيزياء التقليدية، فان ميكانيك الكم ليس حتميا: "حتى ولو كان الشرط الابتدائي للعالم، والقانون الأساسي للجسيمات الابتدائية وتفاعلاتها معروفان تماما، ومع ذلك فان تاريخ العالم ليس حتميا، بدلا من ذلك، فان ميكانيكا الكم يعطي فقط احتمالات لتواريخ ممكنة للعالم، وفي بعض الظروف تكون هذه الاحتمالات تقريبا أكيدة، ولكن في ظروف اخرى.. مدهش هو اللاتعيين "(5).

غير ان التفكير السياسي الراهن عاجز عن التنبؤ مهما استخدم من التعبيرات المستقبلية، لأنه عاجز عن فهم الحاضر حين  يبدو غريبا عن التاريخ، لكنه لن يكون غريبا في المستقبل.. وهكذا تغرق التحليلات المعاصرة في التاريخ ، ويسهل على صانعي السياسة إظهار الأحداث كامتداد خطي للماضي وبالتالي اصطفاء التواريخ المعقولة، وان كانت مجمدة، وتغليبها على التواريخ الممكنة تحت شعارات محرفة مثل ( التاريخ يكرر نفسه ) واكتسابها "تغذية راجعة" مما يتطابق مع التوقعات السائدة . 

يقول (ستيوارت براند): " ان العلم هو الأخبار الوحيدة، فعندما نستعرض جريدة او مجلة فان الاهتمامات البشرية هي ذاتها.. قال وقالت، وفي السياسة وفي الاقتصاد..نفس الدراما الدورية،  وفي الأزياء..الوهم المحزن بالجديد، وحتى التقنية يمكن توقعها إذا عرفت العلم، لا تتغير الطبيعة البشرية كثيرا..بينما يفعل العلم، ويحدث التغيير ويتزايد، مغيرا العالم تغييرا لاعكوسا "(6).

 وإذا كان يأس "نعوم تشومسكي" من المثقفين الغربيين يجعله ينتقدهم، إلا أن يأسه من مثقفي العالم الثالث يتجاوز ذلك، بحيث يرفض التعليق على أطروحاتهم لأنهم، على حد تعبيره، صاروا يطرحون قضايا ليس لها أية أهمية أو معنى. لم يعد المثقفون المحليون "مثقفين عضويين"، مع أنهم ليسوا مثقفين تقليديين، إنهم جنس ثالث لم يعد قادرا على الإقناع، فهم لا يدافعون عن الاتجاهات التقدمية للجماهير، ولذلك فهم لاعضويون، لكنهم يصدقون الثقافة التقليدية كحقيقة صلبة غير سائلة، وفي نفس الوقت يترفعون عن ممارسة الثقافة التقليدية، ولذلك فهم لا يشبهون المثقفين التقليديين أيضا، لكنهم لا يعرفون للشعوب مستقبلا مختلفا عن تاريخهم.

وهذا يشبه ان يقوم فيزيائيون برفض النسبية العامة لاينشتاين، لأن "اينشتاين" نفسه لم يتوقع النظرية الأحدث في الفيزياء، وهي نظرية الانتشار الكوني، لكنهم بدل ان يتبعوا ما تفضي إليه نظرية الانتشار الكوني المتوافقة مع نسبية الزمان والمكان في نظرية اينشتاين، انتهوا إلى تبني "فيزياء نيوتن" حيث الزمان والمكان مطلقان..

إن المثقفين الذين ينتقدون ويرفضون تراث الدول الوطنية العلمانية، مثل (الناصرية) في مصر و(الكمالية) في تركيا، و(البورقيبية) في تونس، بحجة انها كانت تجارب غير ديمقراطية، أي بافتراض أنهم يسعون لتجربة تكمل النقص، هم أنفسهم انتهوا إلى تفضيل حكم الإخوان في مصر، والأردوغانية في تركيا، وحركة النهضة في تونس، وهي أكثر تخلفا من الناصرية والكمالية والبورقيبية وليست ديمقراطية أيضا، لكنها إعادة لتواريخ احتمالية منتهية الصلاحية في تركيا والعالم العربي.

وتشكل تركيا مثالا ساطعا هذه الأيام حيث يتعاطى المحللون السياسيون، وليس الإسلاميين فقط، مع الظاهرة الأردوغانية على أنها إعادة تدفق للتاريخ الإسلامي التركي بعد انقطاعه منذ ظهور "كمال أتاتورك"، لكن الشعب التركي لا يعترف بهذا الاستبدال للتاريخ الفعلي الذي ما يزال امتدادا للكمالية، رغم وصول "أردوغان" للحكم باعتباره مجرد ثمرة للديمقراطية وليس إعادة وصل لتاريخ منقطع، وكذلك الحال في تونس، وفي مصر لم يلامس نقد الناصرية وجدان المصريين، وظل سفسطة خاصة بالمثقفين وهم يرون بلادهم تنتقل من وضع سيء إلى وضع أكثر سوءا منذ نهاية الحقبة الناصرية. 

يؤمن الفكر السياسي الراهن بالمستقبل، لكنه يصدق الماضي أكثر حين يطل برأسه، ويؤمن النقد السياسي الراهن بالعقلانية، لكنه يؤمن أكثر بفعالية اللاعقلانية لتفسير الفوضى عند كل منعطف تاريخي، رغم ان هذه الفوضى قد تكون جزءا من نظام العقلانية وليس العكس، فهي لا تخل حقا بالنظام بل تخضع لاستثماره، ويعرف الفيزيائيون أن فهم العشوائية سهل لكن الصعب هو فهم النظام. والتفكير اللاعقلاني، هو أيضا، (التفكير الأساسي) عند "فرويد" بينما التفكير العقلاني هو "الثانوي" لثلاثة أسباب، على ثلاثة مستويات، لأنه تطور حديث لا يشغل سوى فترة زمنية قصيرة من تاريخ الإنسان الطويل، ولأنه تفكير عدد من الناس وليس كل الناس، ولأنه أخيرا، لا يستغرق حتى عند العقلانيين كل وقتهم وأفعالهم بل جزءا منها. ويؤكد عالم الفيزياء (جيل مان): "إن شبه العشوائية يمكن استغلالها "(7) أما (جي دوين فارمر) فيقول: "إن الإعجاب بالشواش هو انه يفسر بعض الفوضى الموجودة في العالم، وكيف يمكن لتغيرات صغيرة في زمن ما أن تنتج تأثيرات كبيرة في زمن مستقبلي، وهو يبين كيف ان قواعد رياضية بسيطة يمكن أن تنتج سلوكا معقدا، ويشرح لماذا الأشياء البسيطة يمكن أن تكون صعبة التوقع بحيث يبدو أنها تتصرف عشوائيا "(8). وفي عالم السياسة، فان الفوضى تظل هامشا للنظام، والهامش لا يلغي المتن .

والآن؟ هل الأحداث الراهنة تنحو منحى التاريخ المحتمل أم التاريخ الممكن؟ وأيهما الحتمي والافتراضي؟ أيهما الحقيقي، وأيهما المزيف؟ طالما أن الأحداث تحدث فإنها حقيقية مهما كانت مزيفة، وسوف تصبح تاريخا حتميا من خلال عملية اصطفاء اصطناعي للتواريخ المحتملة مع تأثير التغذية الراجعة، فهل تعمل السياسة عمل الله على الأرض؟ هل السياسة كلية القدرة؟ وهل صارت (سياسة فائقة) مثل النظرية الفائقة التي يحلم بها الفيزيائيون المعاصرون؟ ان ما هو كلي وما هو غير كلي، وما هو معقول او غير معقول، هي مفاهيم نسبية، لكن (الإنسان الخارق) عند (نيتشه) كان مقابلا (للإنسان الأخير) وبديلا عنه، وليس مقابلا (لله) ، لان الله لا يتدخل في العالم المحسوس، بل يخلقه فقط. وقد تكون السياسة فائقة لأنها لا تتعرض للتحدي، ومثلما قام "زارادشت" في كتاب (نيتشه) بالتحدث أمام الجمهور عن الإنسان الأخير، الذي يجب أن يحل "الإنسان الأعلى" محله، غير أن الجمهور أعجب بالإنسان الأخير لأنه وجده شبيها به، فعاد زرادشت بجثة لاعب السيرك، كذلك فان النقد السائد يرفض تصديق السياسة الفائقة باعتبارها نظرية مؤامرة، ويرفض تصديق (السوبرمان) اوالإنسان الأعلى، لكنه يصدق (الإنسان الأخير) كامتداد للتاريخ المعروف وان كان جثة ومهما كان هذا التاريخ فاقدا لأهلية المستقبل.   

هذه ليست نهاية الصراع بل ذروة من ذرواته. لقد ناضلت الشعوب بعيدا عن التاريخ ضد حاضر بائس من اجل المستقبل، لكنها تجد اليوم أن تاريخها، وليس مستقبلها فقط ، يقف ضدها من خلال الاصطفاء السياسي. وتحققت سخرية (نهاية التاريخ) عند (فرانسيس فوكوياما) فرغم أن التاريخ كان قد انتهى حين كتب مقالته سنة 1989 إلا انه يقول:"إن مستوى الإجبار الإثني والقومي سيحافظ على نفسه او سيتزايد، فالأكراد والفلسطينيون والسيخ والتاميل والايرلنديون والأرمن والأذربيجانيون، سوف يواصلون مراكمة تظلماتهم، وهذا يعني إن الإرهاب وحروب التحرير الوطنية ستبقى مشكلة مهمة على جدول العلاقات الدولية "(9).

 والصراع الحيوي سوف يدور بين القوى الحية، بمعنى كلمة حية التي تتضمن الغرائز والحدس والطاقة، بين الشعوب من جهة وبين النخبة السياسية.. بدون معارضات ولا مثقفين ولا ديانات لأن هذه أصبحت قوى ميتة.

لم نقم هنا بتطبيق قوانين العلوم على السياسة، ولكننا نخشى ان تكون السياسة، وهي جزء من العلوم الإنسانية، تعمل كعلم من العلوم الطبيعية وهذا خطر. وكما يقول العالم (موراي جيل مان)، وهو من أكثر العلماء اهتماما بالعلاقة بين مجالات العلوم بما فيها من علوم طبيعية وعلوم إنسانية: ((إن الكثير من الأشياء السيئة قد تم عملها في العالم نتيجة المغالاة بدور التشبيه العلمي في الأمور الإنسانية، ويقدم علم الاقتصاد مثالا: لقد حاول الناس تطبيق نسخة مختصرة من علم الاقتصاد على الشؤون الإنسانية، مهملين قيما وأشياء كثيرة ذات أهمية، فتحصل عل مجتمع في خدمة الاقتصاد بدلا من اقتصاد في خدمة المجتمع، وبالطبع فان نظريات النازية العرقية مثال مخيف. يجب ان نكون حذرين عندما نستعمل هذه النماذج، وذلك بان لا نأخذها على محمل الجد كثيرا وإنما استعمالها كترقيعات مساعدة للخيال، وعلى أنها منابع للإيحاء، وكتشبيهات معترف بها، وبهذه الطريقة يمكن ان تكون ذات قيمة )).

*            *           *

نعمان الحاج حسين 31/3/2020

الاقتباسات

جاك دريدا – ما الذي حدث في حدث 11 سبتمبر – ترجمة صفاء فتحي – المشروع القومي للترجمة – القاهرة 2003

جون بروكمان- الثقافة الثالثة- ترجمة طاهر وديمة شاهين – وزارة الثقافة – دمشق – 2009- ص 13

باسكال بونيفاس – المثقفون المزيفون ط1– ترجمة روز مخلوف – دار ورد للطباعة والنشر – سورية  2013

جون بروكمان- الثقافة الثالثة – مصدر سابق – ص333

حون بروكمان – المصدر السابق – ص331

المصدر السابق – ص 12

المصدر السابق ص 391

المصدر السابق – ص 378

فرانسيس فوكوياما – نهاية التاريخ ودراسات اخرى – ترجمة يوسف جهماني – دار الحضارة – بيروت – 1993 – ص 39

جون بروكمان- الثقافة الثالثة- مصدر سابق – ص336