الروح وما شجاها

روحي معلقة بتفاصيل الحكايات التي سردتها على مسامع زوجتي, فبدت وكأنها أذنان كبيرتان تتحركان فى اتجاه شفتي. كنت أقص عن زملاء الكتيبة ونحن نعبر القناة, ونتابع باعتلاء الساتر التربي .
بدت زوجتي أقل اهتماما, وأنا أقص عما جرى أثناء فترة "الثغرة", أراها تتعمد جلبة ما, نجحت فى جذبي اليها, انتبهت, نظرت نحوها, رأيتها تكور جدائل شعرها المبلل بالمياه الدافئة.
بين الفينة والفينة ترمى أطراف شعرها الطويل ناحيتي فى آلية وسكينة لم المحها من قبل, فنلت من القطرات الندية نفحة طلية. لم تتمهل طويلا, فضلت أن تقتحمنى بملابسها الداخلية الوردية الشفافة, ولا أدرى لماذا فضلت أن يبقى جسدها مبللا؟.. لعلها كانت في عجلة من أمرها, وقد حذرتها فيما مضى من عادتها القديمة في البقاء طويلا مع جسدها وحدهما في الحمام أمام المرآة.
تعمدت الانشغال بما أنجزته كتيبتي المشاة, وقد نجحنا فى رشق العلم المصري فوق أعلى قمة هناك. ولم أشر الى ميتة زميلنا "عبد الله شديد", ولا إلى ساق "سالم المسلمى" التي بترت, ولا حتى الى الملازم "رفعت" الذي فقد بصره. لم أذكر شيئا منها البتة, فقد يتعكر صفو لقاء انتظرناه سويا أكثر من ثلاثة شهور كاملة.
فلما همت برفع الخوذة الحديدية من فوق رأسي, تذكرت أنني لم أنزعها, ولم أبرح جلستي فوق طرف السرير منذ أن التقينا, ولا أستطيع أن أقدر كم من الوقت انقضى.
قد يبدو الأمر مستغربا لمن يراني وأنا انهرها أن تعيد الخوذة الى رأسي.. من كان معي أو شارك فى جعجعة المعارك سوف يعذرني أكيد, وربما يهون من غضبة زوجتي التى كظمتها عنوة!..الخوذة هي سترى وسر اطمئناني, كنت أضعها تحت رأسي لأنام, وأحفظ فيها بولى لأشربه أثناء فترة الحصار, وأخبئ تحتها بعض كسرات الخبز الجافة لحين القحط وقد سد الأعداء طرق الإمداد والتموين إلينا على الضفة الشرقية للقناة بعد الثغرة.
تربعت على الأرض وحفظت قدماي فى حجرها لتنزع "البيادة" الثقيلة عن قدماي..انطلقت الآه حادة , سريعة, وعن غير رغبة منى. رمقتني متسائلة بعينيها اللامعتين, لم أستطع تجاهلها وأنا التقطها من عل وهى متكورة داخل غلالتها الشفافة اللامعة وقد التصقت بجسدها البض. لا أدرى ماذا كان يعلوها ويحيطها من كل جانب..لأنني سمعت صوتا ملائكيا يقول:
"سلامتك!!"

لم تكن البسمة التى ارتسمت على سحنتي تخص الحقيقة التى أرجو أن أخفيها. كانت بسمة مرتبكة هزيلة, من جراء الآم غبية المت بمفصلي القدمين, بعد قفزة مهرولة خاطئة وأنا أعتلي القارب المطاطي فى بداية العبور حتى كدت أغوص فى أعماق مياه القناة. لولا أن بعضهم تصرف بحكمة أكثر منى.. وبقيت تؤلمني حتى الآن. تصرفت بحكمة وبسرعة هونت عليها الأمر كله..تمتمت بكلمات أعنيها وقد لا تفهمها إلا زوجتي فى هذا العالم, فضحكت وضحكنا معا بعد أن بدت الطمأنينة فى سواد عينيها الواسعتين!
لم تربط الخلفة بيننا بولد أو ببنت, وان حرضتنا على اندغام جسدينا أكثر, ولطالما ساعدتنا الأيام والليالي.. إلا أيام الحرب. بدت واثقة من نفسها ومنى وهى تنهض بخفة من جلستها, تتعلق برقبتي وبشفتي لفترة طويلة. ثم فضلت أن تخلع عنى ملابسي العسكرية, علها تزيح عن أنفها رائحة العرق التى أظنها أقرب الى رائحة البول. طال انتظارها لأن أجيب على سؤالها, أعلنت أنها ستنفذ وحدها المهمة, بدت وكأنها تسمع جيران سكان الشارع الذي نقطنه, نهرتها أن تخفض من صوتها, بدت دهشة ولم تنطق, ولم يطل انتظاري وقد عادت وبين ذراعيها..وعاء من البلاستيك والصابونة المغلفة بورقها الأزرق مع تلك المنشفة الجديدة وقطعة اللوف الطويلة !
لم تترك موضع من جسدى العاري إلا ودعكته..توقفت فجأة مستفسرة عن سر تلك البقعة السوداء التى لا تعرفها من قبل فى جسدى. افتعلت البسمة,قلت:
"كنا قد نجحنا فى اعتلاء الساتر الترابي دون أية خسائر تذكر سوى مفاصل القدمين,
لكن رصاصة طائشة مكتوب عليها اسمي..أصابتني!"
علقت بعد برهة:
" لكنني الآن تمام ومثل الحصان..."
يبدو أن المزاح لم يعجبها, فلم تبتسم..!
أسرعت وشرحت لها كيف أنني نسيت ألمي فور أن هبطنا جميعا على الجانب الآخر من الساتر الترابي؟ وكيف كانت أجساد زملاء الكتيبة كلها ونسه لروحي وتحفزني على متابعة المهمة لاقتحام الدشمة الحصينة للعدو؟!
رددت عفوا:
"بينما كنا على حال اندفعنا, إذا بزميلنا حامل مدفع "طالق اللهب" يصوبه عفوا نحوى والضابط رفعت الى جواري, فاحترقت فى جزء من جسدي, وفقد الضابط بصره.كانت إصابتي أهون بدليل أنني استطعت أن أرفع رأسي من فوق الرمال لأسب جد أجداده , وأمه التى ولدته معتوها!".

تابعت هي مهمتها, حكت كل جسدي وأنا منتصبا وسط الغرفة, فوق الطست الفارغ. يبدو أن أمرا ما شغلها, فلم تعلق, حتى بعد أن تابعت بأن العسكري لم يكن يقصدنا أكيد, لكنها الحرب القادرة على فعل كل شئ غير متوقع!. وجدتها تلوى رقبتها الى أعلى بعد جملتي الأخيرة, تشجعت وتابعت:
"بدليل أن أصابه الذهول ونال منه الصمت, ولم يتح لنا فرصة لأن نسبه أكثر..ابن الشياطين غفلنا وتجاهل سبابي ثم اندفع قبلنا جميعا نحو فتحة المزغل موجها لسان اللهب الى ذاك الرابض خلف المزغل حتى أسكته وتقدمنا كلنا خلفه, ثم تجاوزنا جثته المرشوقة بعشرات الرصاصات!!"
لم تكن المحنكة في فنون الحب, راغبة فى المزيد عن حديث الحرب, وليست مصادفة أن تركتني دون أن تجفف المياه الرائقة عن جسدي, ولا أن تترك لمبات نجفة الحجرة مضاءة على غير عادتها فى الحب معي. هالها ما عبرت عنه بالدهشة لأنني فقدت بريق شعر صدري الذي ينافس صدور ممثلي السينما, ومن المساحات القاتمة بسبب حروق اللهب, حتى الوشم الأخضر بتعويذة الحسد بهتت!!
ذاك الجسد الذي ظننت يوما أنها تعرفه وهى مغمضة العينين, لم يعد كما تعرف. وعبرت عن ذلك بجملة واحدة:
" ماذا فعلوا فيك فى الحرب ؟؟!"
لم أعقب, اكتفيت بمتابعتها تدور من حولي, وان تمنيت ألا أتابع ما كان وما حدث, طلبت منها أن تتحدث بلطف أكثر مما تفعل, فلوت شفتيها. وصلتني معان لكلمات لم تنطق بها, لم أعهدها فيها من قبل !!
بوسعي أن أفعل ما أريد غصبا!!
لكنني لن أفعل !!
أدرت وجهي عنها, التحفت بالظلمة وقد ضغطت على زرار الإنارة, رشقت رأسي بين الوسادتين, ثم عاهدت نفسي مستقبلا ألا أمارس الحب معها أبدا إلا فى الظلمة!!