الذكري الثانية عشر لانتقال أبونا بولس باسيلي

 من البرلمان إلي الليمان:
 هل سمعت عن رجل دين مسيحي يأخذ المئات من الأقباط من شبرا لحضور حفل مسرحي عام علي أحد مسارح القاهرة؟
 هذا الأمر المدهش قام به والدي عام 1960 أو ربما 1961 فقد تعاقد مع المسرح القومي وقتها لحجز حفلة كاملة من مسرحية توفيق الحكيم الجديدة "السلطان الحائر"، وشراء كل تذاكرها لبيعها للناس في شبرا لجمع الأموال لصالح جمعية الكرمة للمكفوفين، التي أسسها والدي كصرح إجتماعي هائل وما تزال تخدم المكفوفين والمسنين والمغتربين من أنحاء مصر، أذكر جيداً انني حضرت هذا الحفل الذي وقف فيه والدي قبل العرض ليتحدث عن ما تقوم به جمعية الكرمة من خدمات إجتماعية في شبرا، ثم يجلس ليبدأ العرض الباهر لهذه المسرحية المميزة أمام جمهور جاء من شبرا ليحضر مسرحية ربما لأول مرة في حياته. لم أعرف وقتها كم أن هذا أمر مدهش ولكني أتأمله اليوم بدهشة حقيقية، إذ لم تكن للكنيسة القبطية وقتها أية صلة بمسرح أو سينما، وكان التقليد الديني وقتها ينظر إلي هذه الفنون نظرة متوجسة إن لم تكن معادية، كما لم يكن أحد يفكر في هذا الأسلوب الغريب للحصول علي تبرعات من الناس لعمل خيري عن طريق التعاقد مع فرقة مسرحية، ولم تكن الكنائس حتي تشجع الشباب وقتها علي تقديم مسرحيات دينية كما تفعل بعضها الآن فما بالك والمسرحية ليست دينية؟
أتذكر هذا الآن في ذكري انتقال والدي أبونا بولس باسيلي الذي ولد بأسيوط في صعيد مصر في 17 مايو عام 1916 وكم في هذا من دروس لنا عن ضرورة أن يكون التدين مواكباً للعصر، وأن يكون رجل الدين منفتحاً علي ما في الحياة من ابداعات خارج المجال الديني البحت، كالمسرح والسينما والموسيقي والغناء والفكر والأدب والشعر - وكان والدي يقرض الشعر العمودي كما أنه ألف أكثر من أربعين كتابا في موضوعات دينية وإجتماعية وثقافية مختلفة.    

لاهوت التحرير
 حين أتمعن في تاريخ والدي الديني والسياسي معًا أكتشف أنه يمكن أن نقول عنه أنا كان يمارس "لاهوت التحرير" قبل نصف قرن من شيوع هذا التعبير الذي أطلق مؤخرًا على نشاطات رجال الدين الكاثوليك المنخرطين في تأييد ومساندة المعدمين والمسحوقين تحت نير جنرالات أمريكا اللاتينية، فقد كان فؤاد أفندي –رسم كاهنًا باسم بولس باسيلي بعد ذلك بسنوات– كان منذ شبابه المبكر منخرطًا في العمل السياسي جنبًا إلى جنب نشاطه الديني والإجتماعي الضخم، وقد تأثر والدي في شبابه المبكر بشخصيات وطنية ودينية فاعلة، منها القمص سرجيوس، القسيس القبطي والخطيب الوطني الثائر الشهير الذي كان يلقي بالخطب النارية ضد الاحتلال الإنجليزي في الكنائس والجوامع على السواء، وفي نفس الوقت أصدر سلسلة من الكتب يدافع فيها عن العقيدة المسيحية ضد مَن كانوا يكتبون ويخطبون ضدها في الأربعينات وقد سار والدي في مسار يكاد أن يطابق مسار القمص سرجيوس فكان مثله خطيبًا وطنيًا ودينيًا مفوهًا وحاكاه في عاطفته الوطنية القوية وعدم تفرقته بين الأقباط والمسلمين في كل علاقاته وأنشطته. وأيضًا في تصديه لمن ظهروا في السبعينيات يهاجمون المسيحية وشركاء الوطن المسيحيين  

 مصر الفتاة
 أما الرجل الثاني، بعد القمص سرجيوس، الذي تأثر به والدي في شبابه فكان هو الزعيم الوطني "أحمد حسين" مؤسس حركة "مصر الفتاة الوطنية" التي كانت تنادي بالاستقلال وباعتماد المصريين على أنفسهم، وانضم الشاب فؤاد باسيلي إلى هذه الجماعة وأصبح لشدة حماسة الساعد الأيمن لأحمد حسين، وكان يشاركه في إلقاء الخطب السياسية في التجمعات المسيحية والإسلامية، وكان لمصر الفتاة في الأربعينات من القرن الماضي نشاط ومشروعات طموحة من أشهرها مشروع القرش الذي دعا إلى أن يتبرع كل مصري بقرش واحد لبناء صناعة مصرية وطنية تغني مصر عن استيراد بعض الملابس من الخارج مثل الطربوش الأحمر الذي كان يرتديه الجميع بما فيهم طلبة المدارس الثانوية.  وفعلاً نجح المشروع وأقاموا المصانع الصغيرة للمنتجات المحلية حتي قضي التطور العصري علي فكرة إرتداء الطربوش الذي لم يكن زيا مصرياً أصلاً.
وكان لسرجيوس من ناحية ولأحمد حسين من ناحية أخرى أكبر الأثر في والدي الشاب الذي رأى تعانقًا طبيعيًا بين مشاعره الوطنية الجياشة الطامحة لاستقلال وطنه واعتماد المصريين على أنفسهم في كل شيء مع الوحدة الوطنية والمساواة الكاملة بين "عنصري الأمة" أي المسلمين والأقباط بلغة ذلك الزمان، وبين مشاعره الدينية الجياشة أيضًا ولكن في تفتح واعتدال وقبول للآخر واحترام لعقائد الآخرين مع الاعتزاز بالإيمان المسيحي والدفاع الجريء عنه عند الضرورة، وتحويل العاطفة الدينية إلى مسارها الأصيل النبيل في خدمة الفقراء والضعفاء وإنشاء المؤسسات الاجتماعية والابتعاد بالعاطفة الدينية عن النظرة الأصولية المتشددة الكارهة للآخر من ناحية والمستغرقة في العبادات الشكلية من ناحية أخرى

 رجل الوطن
  في الستينات قبل رسامته كاهنًا نزل الانتخابات عدة مرات وانتخب عضوًا في الهيئات السياسية في ذلك الوقت وهي الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي. وبعد رسامته كاهنًا استمر في نشاطه الوطني ورشح نفسه في أول انتخابات للبرلمان في عهد الرئيس السادات عام 1971 وذلك في دائرة شبرا، وقد ترشح أمامه وزير سابق لم تكن له جذور في شبرا وانتخب المواطنون بشبرا القسيس القبطي ابن شبرا رافضين الوزير  المسلم، ورغم أن للأقباط نسبة مرتفعة نسبيًا في شبرا إلا أنه لم يكن من الممكن لأبونا بولس النجاح لو لم ينتخبه المسلمون مع الأقباط، وكان هذا طبيعيا فقد كانت له شعبية كبيرة كرجل دين مسيحي محب للجميع وخادم للناس جميعًا بغض النظر عن دينهم، وكان صادقًا في مشاعره هذه يؤيدها بالأفعال والخدمات الكثيرة التي يقدمها للمواطنين وكان معروفًا بأنه رجل الوحدة الوطنية يوم أن كانت هي وحدة حقيقية ووطنية خالصة،   ويجب أن نتذكر أن هذا قد وقع في الوقت الذي كانت فيه سيناء محتلة من الجيش الإسرائيلي، وكانت مصر في سنوات الاستعداد والتدريب الشاق من أجل تحرير الوطن، وكانت الوحدة الوطنية بين الأقباط والمسلمين من بديهيات الأشياء ولم تكن مسلسلات الاعتداءات والعنف ضد الأقباط قد بدأت بعد، إذ أن أول حادثة اعتداء كانت هي حرق كنيسة الخانكة عام 1972
وفي تحقيق صحفي بجريدة وطني بقلم الأستاذ عزت سامي عن دخول أبونا بولس إلى مجلس الشعب يقول: "من الظواهر اللافتة للانتباه في التشكيل الجديد لمجلس الشعب الذي جاءت به الانتخابات الحرة دخول رجل دين مسيحي هذا المجلس عضوًا منتخبًا عن دائرة شبرا هو الأب القمص بولس باسيلي، فكان القمص بولس بذلك أول كاهن يدخل العمل البرلماني سواء في تاريخ الكنيسة القبطية أو في التاريخ النيابي لمصر.. والنائب الجديد يدخل مجال العمل البرلماني متسلحًا بما له من ماضِ طويل وعريق منذ عام 1938 ، فضلاً عن جولاته في الخارج لتمثيل مصر في المؤتمرات الدولية. ففي عام 1954 حضر مؤتمر الشباب المسيحي بالخرطوم وجال في مدن السودان الشقيق واعظًا ومعلمًا، وفي 1955 اشترك في مؤتمر السلام العالمي بوارسو ، كما اشترك في البعثة البابوية التي أرسلها البابا كيرلس السادس لاستعادة رفات القديس مار مرقس من إيطاليا وقد منحه البابا بولس السادس بابا الفاتيكان ميدالية القديس بطرس تقديرًا لجهوده وفي رده على سؤال محرر جريدة وطني: ماذا يعني دخول قسيس إلى مجلس الشعب لأول مرة؟ يقول القمص بولس باسيلي: "قبل كل شيء أرجو ألا تنسى دور الكنيسة الفعال في الحركة الوطنية المصرية منذ عام 1919.. وكيف كان الأب الراحل القمص سرجيوس يدخل الأزهر ويخطب فيه حتى هدده الإنجليز بترحيله لأنهم خشوا أن يشعل نار الوطنية.. وكان القمص سرجيوس دائمًا إلى يمين سعد زغلول يخطب في كل مكان منددًا بالاستعمار، وبهذا استطاعت الكنيسة أن تسهم بنصيب كبير في خدمة المجال السياسي الوطني إبان ثورة 1919
  وهكذا نجد أن أبونا بولس باسيلي كان واعيًا تمامًا بدوره الوطني إلى جانب دوره الديني، مكملاً بذلك المسار الوطني الباهر الذي خطه القمص سرجيوس قبله في النصف الأول من القرن العشرين، مثبتًا أن الكنيسة القبطية تظل دائمًا كنيسة مصرية وطنية واعية وفاعلة
   وبعد انتصار مصر الباهر في حرب أكتوبر 1973 اختار مجلس الشعب المصري أبونا بولس باسيلي ليسلم نجمة سيناء لأحد أبطال العبور

حقوق الأقباط
  دخول القمص بولس باسيلي مجلس الشعب وتمتعه بالمناصب العليا والمكانة المرموقة على الساحة المصرية في مطلع السبعينيات لم تجعله يتجاهل حقوق الأقباط حفاظًا على مراكزه، ولذلك نجد في أول جلسة له في مجلس الشعب المشهد التالي
  "كان المجلس مكتملاً برئاسة الأستاذ الكبير حافظ بدوي، وكانت الحكومة بكامل هيئتها برئاسة السيد الدكتور عزيز صدقي، وسأنقل عن مضبطة المجلس نص الكلمة التي ألقاها أبونا بولس باسيلي في تلك الجلسة، ومنها
  السيد رئيس المجلس، السادة الزملاء
  (بعد المطالبة بحقوق فئات الشعب المهضومة الحقوق من ذوي الاحتياجات الخاصة – ولم يكن يتحدث عنهم أحد في مصر في السبعينات) نقرأ النص التالي لما قاله تحت عنوان: " ثانيًا: الخط الهمايوني:.. إنني أذكر المسئولين بأن هناك قوانين مازلنا نُحكم بها.. قوانين مستوردة من الدولة العثمانية ومنها القانون الذي يعرف بالخط الهمايوني، وهو الذي يضع مائة عقبة وعقبة في سبيل بناء دور العبادة...")
  وعلينا أن نتذكر هنا أنه عندما صرح أبونا بولس بهذا الكلام في عام 1971 لم تكن هنالك ما يعرف بالقضية القبطية ولم يكن هناك أقباط المهجر ولا هيئات قبطية ولم يكن هنالك وعي بحقوق الأقباط بالشكل المعروف اليوم
ورغم حصوله على نوط الامتياز من الدرجة الأولى من الرئيس السادات، إلا أن ذلك لم يمنع أن يقوم السادات بعدها بسنوات قليلة بإصدار أمر اعتقال أبونا بولس باسيلي في سبتمبر 1981 لأنه قام بالرد على الشيخ الشعراوي دفاعًا عن العقيدة المسيحية التي كان يهاجمها الشيخ في تليفزيون الدولة بحرية تامة، وقد طلب أبونا بولس من التلفزيون المصري استضافته ليرد علي إتهامات الشيخ الشعراوي للأقباط بالكفر ولعقيدتهم بالتحريف مما كان يسبب مرارة شديدة لدي الأقباط وشرخاً واسعاً للوحدة الوطنية لكنهم رفضوا طلبه فقام بتسجيل ردوده بأسلوب قوي مهذب علي ثلاث شرائط كاسيت دافع فيها عن عقيدته دون أن يهاجم عقائد الآخرين ولا هاجم الشيخ الشعراوي بل خاطبه بأسلوب مسيحي متسامح ومحب للأخرين، وما تزال هذه الردود متوفرة علي النت لمن يبحث عنها في جوجل.

 رجل الفكر -  سلامة موسى والفكر المستنير
 وإذا كان حبيب جرجس هو الأب الروحي لوالدي، فإن الأب الفكري له كان هو المفكر المصري القبطي الشهير "سلامة موسى" الذي رغم فكره اليساري الاشتراكي المعروف، كان أحد الكتاب الدائمين في مجلة مار جرجس لسنوات عديدة وحتى وفاته وكانت مقالاته الاجتماعية والثقافية المستنيرة السابقة لعصرها تتوج كل عدد من أعداد مجلة "مار جرجس" وهو أمر مدهش حقًا أن يكتب هذا الكاتب العلماني اليساري الذي يعد أب اليسار المصري في مجلة دينية يصدرها واعظ مسيحي أصبح بعد ذلك قسيسًا، ولكن تفسير ذلك أن والدي كان متدينًا بالفطرة المصرية وليس بالتعصب العقيدي والشطط الديني، وكان مع تدينه بالغ الاهتمام بالثقافة والأدب العربي، يقرأ في كل المجالات ويستشهد في وعظه الديني على خلاف كافة الوعاظ الذين أعرفهم، ليس فقط بآيات الكتاب المقدس ولكن أيضًا بأقوال الفلاسفة والزعماء والمفكرين وبأشعار الشعراء المصريين والعرب القدامى والمحدثين، وكان التدين لديه سليقة طبيعية تتجلىَ فيها عبقرية الشخصية المصرية التي احتضنت واستوعبت كل ما جاءها من حضارات وثقافات أجنبية، من إغريقية إلى رومانية إلى مسيحية شرقية إلى إسلامية سنية وشيعية ولكن دائمًا وسطية معتدلة متسامحة محبة للجميع شديدة التعلق بالحياة وبالفرح والبهجة والنكتة والمزاح والدفء الإنساني الحميم    
من المشاهد التي انطبعت في ذاكرتي وأنا طفل تحلقنا أنا وأخي الأصغر سمير (لم يكن ثالثنا فريد قد ولد بعد) ووالدتي حول أبي وهو يعرض علينا بحماس وزهو بعض الصور الدينية الملونة البديعة التي سيختار منها واحدة لتكون هي غلاف العدد التالي من "مجلة مار جرجس" التي أصدرها عام 1949 واستمر يصدرها وحده وعلى حسابه الخاص –بانتظام كل شهر لمدة ثلاثة وثلاثين عامًا– عمر السيد المسيح على الأرض، حتى أوقفها نظام السادات مع قرار إدخاله لأبونا بولس السجن عام 1981. ولم يصرح له بمعاودة إصدارها بعد خروجه لأنه ليس من المسموح "لأصحاب السوابق" أن يصدروا مجلات
  وكانت مجلة مار جرجس تصدر في شكل صحفي متطور وسابق لعصرها إذ لم تكن معظم المجلات القبطية في ذلك الوقت تهتم بالمهنية الصحفية وكان معظمها يصدر بنفس الغلاف كل عدد مع تغيير عناوين المقالات والتاريخ فقط، وكان والدي يحرص على صدور مجلته بشكل يليق برسالتها وبمضمونها، رغم أن ذلك كان مكلفًا جدًا وفي زمن لم تكن فيه ثقافة الإعلان شائعة  
لقد كانت مجلة مار جرجس رائدة في الصحافة القبطية بلا شك والغريب أنني عثرت على كتاب عن الصحافة القبطية صدر مؤخرًا ولم أجد به ذكرًا لمجلة مار جرجس التي صدرت على مدى ثلث قرن بلا انقطاع  
وقبل كل شيء كانت الاستنارة تعني عدم الانغلاق والتعصب وتعني الانفتاح على الآخر وعلى الثقافات العربية والعالمية، وعلى الأديان الأخرى، ولا شك أن هذا الانفتاح الفكري هو أحد أهم الدروس التي تعلمتها من والدي، وكم أنا ممتن لذلك

 رجل الإنسانية: معجزة في الشرق الأوسط
  بالإضافة إلى الجوانب الدينية والوطنية والفكرية فهناك جانب رابع من جوانب أنشطة القمص بولس باسيلي هو جانب الخدمات الاجتماعية التي كان له فيها إنجازات مدهشة، إنك لتصاب بدهشة حقيقية حين تنظر إلى حجم المؤسسات الاجتماعية التي قام بإنشائها وفي الزمن المبكر الذي ظهرت فيه، في ريادة حقيقية لهذا النوع من الخدمات لذوي الاحتياجات الخاصة في مصر، فقد أسس أبونا بولس جمعية الكرمة للمكفوفين عام 1953 بميزانية 8 جنيهات (وهو مبلغ لا بأس به في ذلك الوقت!!) لتصل ميزانيتها إلى ثلثي مليون جنيه عام 2001،
  وقد نمت من شقة ضيقة إلى عدة مجمعات من عدد من المنازل في القاهرة والإسكندرية. إنها الآن 14 مؤسسة في مؤسسة واحدة تضم مؤسسات للمكفوفين والكفيفات، والعجائز والأرامل، وحضانة أطفال، ورعاية للمسنين والمسنات، ودار للمغتربات، ومستوصف للعلاج الخيري، ونادي للأطفال، ومكتبة صوتية للمكفوفين تضم أعمال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والعقاد وسلامة موسى وغيرهم، ومجمع للتصييف في شاطئ أبو قير على البحر الأبيض.
  وقد كانت جمعية الكرمة أول مؤسسة خاصة لرعاية الأطفال المكفوفين في مصر، قامت بالعناية بالمئات من الأطفال المكفوفين من الجنسين وتربيتهم وتعليمهم حتى حصل بعضهم على شهادات الماجستير والدكتوراه في الآداب، وقد ذاع صيت الجمعية عالميًا فزارتها بعثة من مؤسسة جون ملتون الأمريكية الذي سجل سكرتيرها العام دكتور سميث كلمة بعد زيارته للجمعية قال فيها: "نحن أمام معجزة في الشرق الأوسط"
أما المسئولون المصريون فلم يكن اندهاشهم وتقديرهم أقل من ذلك، فقد قال الأستاذ أنور احمد وكيل وزارة الشئون الاجتماعية وقتها: "لو كان الأمر بيدي وحدي لأفرغت جميع صناديق الإعانات بالوزارة في صندوق جمعية الكرمة".. وقد قدرت الدولة القمص باسيلي فمنحته في عام 1973 شهادة تقدير للعمل الاجتماعي، ثم سلمته السيدة جيهان السادات نوط الامتياز من الطبقة الأولى لخدماته الاجتماعية الممتازة قائلة في زيارتها: "جمعية الكرمة صنعت المعجزات.. أتمنى أن أري في مصر آلافا من الجمعيات تؤدي رسالتها الإنسانية الرائعة بمثل ما تؤديه جمعية الكرمة"

العمل صلاة
  رغم أن والدي كان أستاذًا للوعظ وكان واعظًا مفوّهًا وكاتبًا غزير الإنتاج، إلا أن عطاءه لم ينحصر في الوعظ والكتابة، أي الكلام فقط، وإنما كان مثاله هو السيد المسيح الذي "كان يتجول يصنع خيرًا" وكانت خدمات أبونا بولس الفعلية تضاهي جهوده الوعظية التعليمية قولا وكتابة، وقد تعلمت منه أن التدين الأعمق هو ذلك الذي يظهر في النهاية في صورة أعمال وليس فقط في كلمات الصلوات والترانيم وممارسات العبادة من صوم وطقوس، إذ أن "إيمان بلا أعمال ميت"، فالعمل في خدمة الآخرين لمساعدتهم ومساندتهم وتنميتهم هو صلاة عملية بالغة النبل، فما أسهل القول وما أصعب الفعل، لذلك قامت الكنيسة الكاثوليكية بتطويب الأم تريزا كقديسة بسبب تفانيها في خدمة الفقراء والمرضى في كلكتا، هؤلاء الذين لا يهتم بهم أحد، وهكذا أفنىَ أبونا بولس باسيلي حياته في خدمة المحتاجين والمكفوفين والفقراء والمسنين والضعفاء والمغتربين والمساكين بالروح والجسد معًا.

 رفيقة رحلته و"إكراميات" للسجانين
   لم يكن من الممكن لأبونا بولس باسيلي أن يحقق هذه الإنجازات لو لم تقف وراءه وبجواره شريكة حياته ورفيقة رحلته التي انتقلت إلى السماء قبل أيام قليلة من بلوغه عامه التسعين عام 2006 وكانت في الثانية والثمانين بعد أن شاركته أكثر من ثلاثة وستين عامًا من الزواج، وكنت قد أقمت لهما حفلاً بعيد زواجهما الذهبي في نيوجرسي حضره جمع من الأقارب والأحباب
   وكانت والدتي امرأة قوية الشخصية قامت بتربية أولادها الثلاثة بمحبة وحزم وشاركت زوجها أيام كفاحه وتعبه، وفرحه وترحه، ولكن أقسى ما عانته كانت تلك الشهور التي كان زوجها قد ألقوا به في السجن وهو في الثالثة والستين من عمره، وكان مريضًا بالسكر، وبسبب طبيعة الطعام في السجن وعدم العناية به صعد السكر لديه إلى أرقام فلكية فسقط مغشيًا عليه فنقلوه إلى قسم السجن التابع لمستشفى  القصر العيني، وكانت والدتي تتحمل مشقة إحضار الطعام له كل يوم من شبرا، وقد زرت مصر في تلك الفترة للاطمئنان عليها وعلى والدي المسجون واصطحبتها في إحدى تلك الزيارات. وكان علينا أن ندخل من باب وراءه باب، وعند كل باب كان علينا أن ندفع "إكرامية" للسجان الواقف! وهكذا الحال العجيب  في مصر المحروسة، ليس فقط يسجنون الإنسان ظلمًا دون أن يرتكب أية جناية بل تدفع أسرته "إكراميات" للسجانين أيضًا.

وفى مقدمة ديوانى الشعرى"تهليلات ايزيس" كتبت عن زيارتى لوالدى فى السجن مايلى:
"ويدخل الشاعر من باب سجن الى باب سجن ليصل فى النهاية الى حجرة صغيرة يرقد فيها والده المسن طريح الفراش فيرى الرجل الذي علمه الوطنية راقداً، بينما يجلس بجواره حارس مسلح يطل المسدس من
جرابه، وكأن والده الذي طالما دافع عن الوطن ووحدته الوطنية، كأنه اخطر الخطرين وأشقى الأشقياء، فيتمزق قلب الشاعر حزناً على وطن لا يعرف عدوه من صديقه، يبطش بالحبيب والقريب، فيما هو عاجز أمام العدو والغريب، ويتأبط الشاعر ذراع والده المنهك بعد أن سمح لهما الحارس بالتجوال المحدود تحت عينه المراقبة فيشعر وكأنه يتأبط ذراع وطنه المتعب المتهالك الذي وصل أمر تخبطه وقتها إلى حد وضع كثير من ابنائة المخلصين في السجون.
وأخيراً يا أبانا الحبيب، لعلي أوفيت مسيرتك الدينية والوطنية الطويلة بعض حقها من العرفان والتقدير.