الحرب على غزة: لماذا أعطى الغرب إسرائيل شيكا على بياض؟

أولا: السياق الاستراتيجي

تفاعلت الإدارة الأمريكية مع العملية التي قامت بها حركة حماس وحلفاؤها ضد أهداف إسرائيلية في 7 أكتوبر 2023 من منظور استراتيجي أولا. فقد أقرت استراتيجية الأمن القومي الأخيرة بنهاية نظام ما بعد الحرب الباردة (الذي اتسم بالأحادية القطبية)، وأكدت أن نظاما عالميا جديدا يتشكل خلال السنوات القليلة القادمة، ووضعت تصورا لكيفية إدارة التحول وهندسة نظام دولي يحقق مصالحها في ظل التحديات المتنوعة، وذلك من خلال سياسة احتواء جديدة للصين، واستنزاف ممنهج لروسيا، واعتبارهما (مع اختلاف أشكال التعامل مع كل منهما) كتلة استراتيجية معادية، تتضمن على المستوى الإقليمي كلا من كوريا الشمالية وإيران. وتصور هذا الصراع على إنه قيمي ووجودي ما بين الأنظمة الديمقراطية وتلك السلطوية. وهي في الواقع محاولة للحفاظ على الهيمنة الأمريكية التي دامت لأقل من قرن، وبصفة أشمل الهيمنة الأوروبية التي سبقتها بعدة قرون.

         تأكيدا لهذه النظرة الإستراتيجية حرص الرئيس بايدن في كلماته، وكذلك في المقال الذي نشره في صحيفة واشنطن بوست يوم 18 نوفمبر 2023، على الربط ما بين أزمتي غزة وأوكرانيا. ويمكن أن نخلص مما سبق أنه مع تعثر الهجوم الربيعي المضاد الذي قامت به أوكرانيا ضد القوات الروسية، ما أكد الصعوبة البالغة في تحقيق نصر أمريكي كامل في النطاق الأوكراني، قد أصبح من الضروري أن تحقق إسرائيل نصرا حاسما في مواجهة حماس المدعومة إيرانيا.

         على صعيد السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، قد خالفت حماس بهجومها الناجح أحد أسس السياسة الأمريكية التي أرستها منذ عقود، وهو عدم السماح لأي طرف عربي بأن يفرض أمرا واقعا جديدا بالقوة، فإسرائيل الوحيدة المسموح لها بذلك، أما العرب فعليهم اللجوء إلى المفاوضات وفقا للمحددات الأمريكية الإسرائيلية، لذلك اعتبرت واشنطن أن هجوم 7 أكتوبر، وما ترتب عليه من خسائر إسرائيلية كبيرة، وانكشاف محدودية تأثير تفوقها التكنولوجي والاستخباراتي، أخل بعنصر الردع المحوري للأمن الإسرائيلي، وهو الضروري أيضا لتمكين الولايات المتحدة من تحويل جزء أكبر من مواردها إلى النطاق الأسيوي، والحفاظ على مصالحها في الشرق الأوسط بأعباء عسكرية ومادية أقل، من خلال الاعتماد على نظام إقليمي جديد تكون إسرائيل في مركزه.

         لذلك نخلص إلى أن موقف الإدارة الداعم لإسرائيل بحسم ليس نابعا فقط عن التعاطف مع حليفها الأول في المنطقة، والاحتياج لدعم اللوبي الموالي لإسرائيل في الانتخابات الأمريكية في نوفمبر القادم، وإنما وبقدر أكبر عن تقدير استراتيجي للمصالح الأمريكية، ومن ثم تجدر ملاحظة أنه لو فاز مرشح جمهوري في الانتخابات القادمة، لن يقل الانحياز الأمريكي الأعمى لإسرائيل بل إنه قد يتضاعف.

ثانيا: العملية العسكرية الراهنة

تعدى الدعم متعدد الأوجه الذي قدمته واشنطن لتل أبيب التأييد المتوقع لحليف رئيسي، بل وصل إلى المشاركة الفعلية في شن الحرب على غزة، بهدف تدمير قوة حماس العسكرية، واستعادة الردع الإسرائيلي في مواجهة اللاعبين الإقليميين كافة. من هنا جاءت أولوية تحييد أي جبهات أخرى، من خلال التهديد العسكري المباشر لإيران وحزب الله، وتشكيل أسطول دولي لحماية الملاحة في نطاق باب المندب. ويأتي في هذا السياق أيضا معارضة التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية، بل وفرض عقوبات – ولو شكلية – على عدد من المستوطنين.

وبخلاف الجوانب العملياتية تواجه الحرب الإسرائيلية على غزة تحديان رئيسيان، أولهما الخسائر الضخمة التي أحدثها الحصار والعمليات بين المدنيين الفلسطينيين – والتي يوصفها المتخصصون بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو حتى جريمة الإبادة الجماعية – وثانيهما إطلاق صراح الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين والأجانب لدى حماس.

ومع اتمام صفقات لتبادل المحتجزين وإدخال بعض المساعدات الإنسانية بوساطة مصرية قطرية، كان على الولايات المتحدة توظيف أدواتها الدبلوماسية والقانونية والإعلامية لاحتواء الآليات الدولية لحقوق الإنسان والحماية الإنسانية والحيلولة دون فرض وقف لإطلاق النار من قبل مجلس الأمن قبل تحقيق الحد الأدنى من الأهداف الإسرائيلية، أو اضطلاع المحكمة الجنائية الدولية بواجبها تجاه الانتهاكات التي تمت في هذه الأزمة. مع هذا حرصت الإدارة على عدم تحميل القادة الأمريكيين مسئولية جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل، فأطلقت تصريحات وتسريبات إعلامية تطالب بضرورة تغيير نسق العمليات وتوفير حماية أكبر للمدنيين، بينما بذلت أقصى جهد لتوفير السلاح والتمويل والدعم العسكري والاستخباراتي لاستمرار الحرب.

ثالثا: ما بعد انتهاء العمليات العسكرية

بدأت الإدارة مبكرا في الإعداد لما بعد الحرب، وأعلنت عن محددات لذلك أهمها:

عدم السماح بأن تستمر غزة كمنصة للعمليات ضد إسرائيل.

عدم تغيير حدود غزة أو الانتقاص من مساحتها.

رفع الحصار عنها.

عدم تهجير السكان خارج القطاع (مع عدم معارضة تهجيرهم داخل القطاع أو حتى تجميعهم في مخيمات في المنطقة الساحلية المحازية للحدود المصرية).

عدم العودة للحكم الإسرائيلي المباشر، وتولى السلطة الفلسطينية – بعد تعزيزها – إدارة  القطاع (تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية الشاملة بطبيعة الحال).

وجود أفق سياسي من خلال حل الدولتين.

ولا شك في أن غالبية هذه المحددات تتعارض مع مواقف الحكومة الإسرائيلية الحالية، والتي لا تقبل حل الدولتين من حيث المبدأ، بل تنصب رؤيتها المستقبلية في خيارين: السيطرة الدائمة على الفلسطينيين من خلال سياسة أبارتايد أكثر إحكاما مما هو مطبق حاليا، أو تهجير أعداد كبيرة منهم إلى مصر والأردن وربما دول أخرى، ويمكن بطبيعة الحال إيجاد مزيج من الحلين معا.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن آخر المحاولات الأمريكية لإيجاد حل على أساس الدولتين – وفقا للمفهوم المتعارف عليه دوليا – تم في الولاية الثانية لإدارة أـوباما، حيث قام وزير الخارجية جون كيري بعدة زيارات للمنطقة بهدف إحياء مفاوضات السلام، وهي المحاولة التي باءت بالفشل خاصة مع عدم تحمس أوباما لمساندتها شخصيا. أما خطة السلام التي طرحها الرئيس ترامب لاحقا فتمثل نقطة تحول جوهرية في الموقف الأمريكي، فرغم إشارتها للفظ الدولتين إلا أنها تطرح تصورا مطابقا لموقف اليمين الإسرائيلي بأن يعيش الفلسطينيون في كانتونات غير متصلة تحت الهيمنة الإسرائيلية الكاملة، فيما يشبه نظام الأبرتايد الذي طبق سابقا في جنوب أفريقيا. بينما يكون التركيز على التطبيع الإسرائيلي مع الدول العربية. وتحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين في مثل تلك الظروف الخانقة يكون من خلال التعاون الإقتصادي الإقليمي، والذي قد يفتح الباب تدريجيا لإعادة توطين الفلسطينيين في دول الجوار. وما كشفته خطة ترامب – المصاغة بالتنسيق الدقيق مع حكومة نتانياهو – أن نظام الأبارتايد الإسرائيلي غير قابل للاستمرار دون شكل من أشكال إعادة توطين الفلسطينيين في دول الجوار.

وكان من الملحوظ أن إدارة بايدن لم تعد لتصور السلام المتعارف عليه دوليا، والذي تبنته بشكل أو بآخر كافة الإدارات الأمريكية السابقة، وإنما لجأت إلى البناء على تصور ترامب، واعتبرت صفقة التطبيع السعودى الإسرائيلي محور تحركها في الشرق الأوسط، بل ربطتها بتصورها للنظام الدولي الجديد من خلال مشروع ممر التنمية بين الهند وإسرائيل الذي يمر بعدة دول عربية.

         وفي حين إن عملية 7 أكتوبر أثبتت للمراقب الموضوعي عدم قابلية حل الأبارتايد للاستمرار، فإنها أكدت لليمين الإسرائيلي ضرورة إحكام القبضة الأمنية على الضفة والقطاع معا، والحيلولة دون وجود كيان فلسطيني يتمتع بالحد الأدنى من الاستقلالية، مع التحرك الجاد نحو حل التهجير ولو على المدى المتوسط، حتى وإن أطلق على هذا التصور حل الدولتين.

ومن هنا علينا التحسب من إشارات المسئولين الأمريكيين المتكررة إلى حل الدولتين، بنفس القدر الذي لا نتفاءل به من احتمالات تدخل الإدارة لحماية أرواح الفلسطينيين قبل تحقيق الحد الأدنى من الأهداف الإسرائيلية، وإن كان من المتصور أن تنتقل العمليات العسكرية إلى مرحلة أكثر انتقائية في مرحلة لاحقة.

ومع هذا يغفل القادة الإسرائيليون والأمريكيون على حد سواء دروس التاريخ، فالغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 – على سبيل المثال لا الحصر– لم يحقق الأمن الإسرائيلي بل ضاعف من التهديدات الموجهة إليها، كما إن التصورات التي وضعاها للوضع فيما بعد العملية العسكرية في لبنان باءت بفشل ذريع، وهو ما سيتكرر على الأرجح بعد نهاية العمليات العسكرية في غزة، مهما تصوروها نصرا مبينا.. أو صوروها كذلك.   

رابعا: الموقف الأوروبي

         مع استحالة تجاهل تباين مواقف الدول الأوروبية المختلفة، وصعوبة اختزال العناصر الخارجية والداخلية التي تؤثر على صياغة سياساتها الخارجية، أطرح هنا ملاحظات ثلاث:

         أولا: كشف الغزو الروسي لأوكرانيا الاعتماد الاستراتيجي الأوروبي الكامل على الولايات المتحدة، ولم تسفر الخطوات التي أعلنتها تلك الدول – وعلى رأسها ألمانيا – لزيادة إنفاقها العسكري عن تحقيق ولو قدر من الاستقلال الاستراتيجي، بل ازداد الارتباط بين الأمن الأوروبي بأمريكا، وخاصة بعد انضمام السويد وفنلاندا للناتو، وأصبح من الضروري لأوروبا الحد من انشغال الأخيرة بالنطاق الأسيوي على حساب الأمن الأوروبي.

ثانيا: تزداد حالة الاستقطاب الداخلي في غالبية الدول الأوروبية خاصة مع تنامي الجاليات المهاجرة، ما ساهم في تعاظم فرص الأحزاب اليمينية الشعبوية المعادية للمهاجرين وعلى الأخص العرب والمسلمين منهم.

ثالثا: الغياب شبه الكامل للقادة الذين يتمتعون برؤية استراتيجية ودعم شعبي وثقل دولي.

ونخلص مما تقدم إلى عدم التعويل على دور أوروبي متعقل وفعال لموازنة السياسة الإسرائيلية والأمريكية والتي تعتمد على القوة العسكرية كبديل للأفق السياسي.

خامسا: التحرك المصري

         يواجه الأمن القومي المصري أكثر من تحد من جراء هذه الأزمة، أبرزها:

محاولة تصفية القضية الفلسطينية، ومن عناصرها التهجير القسري لفلسطيني غزة إلى سيناء، سواء في شكله المباشر، أو غير المباشر من خلال إقامة مشروعات إقتصادية إقليمية على الأراضي المصرية لتشغيل العمالة الفلسطينية، وممارسة ضغوط علينا بأشكال مختلفة لقبول ذلك.

محاولة توريطنا في إدارة وتأمين القطاع بعد انتهاء العمليات العسكرية، وخاصة مع ترجيح فشل إسرائيل في القضاء التام على حماس، رغم عدم استعدادنا للقيام بدور قمعي متواطئ مع الاحتلال الإسرائيلي.

تنامي التيارات المتطرفة في القطاع، بل وفي المنطقة بصفة عامة، كرد فعل للجرائم الإسرائيلية في حق الفلسطينيين.

يضاعف من هذه المخاطر تزامنها مع حالات لعدم الاستقرار الحاد على حدودنا الجنوبية والغربية. 

ومن المهم أن نبلور تصوراتنا مبكرا وأن نطرحها بقوة بتوظيف الآليات الثنائية والإقليمية والدولية المتاحة لنا لإنجاحها، مع التركيز على ما يلي:

المبادرة بالتحرك الدولي لإحياء مسار حل الدولتين للاستفادة من وجود رأي عام في الدول النامية والغربية داعم لها، والتعامل مع المقترحات التي يطرحها الجانب الأمريكي على أساس حل الدولتين وفقا لمفهومنا وليس مفهوم الأبرتايد الإسرائيلي، وفي هذا السياق شاهدنا بالفعل مبادرة مصرية وإن لم تعلن تفاصيلها رسميا، ما يعد خطوة إيجابية ومهمة، فمن المهم متابعتها والبناء عليها.

معارضة الفصل بين غزة والضفة في ترتيبات ما بعد الحرب.

العمل على تحقيق معادلة فلسطينية جديدة تحقق طموحات السشعب الفلسطيني، لا تكون حماس والتنظيمات الموالية لها في صدارتها، مع استحالة إغفالها تماما.

ضرورة وصول المساعدات الإنسانية لشعب غزة بالكميات المطلوبة وفي أسرع وقت، وبدء عمليات إعادة الإعمار بما في ذلك المرافق الضرورية للنهوض بالاقتصاد كالميناء والمطار، واقامة مشروعات اقتصادية للفلسطينيين داخل أراضيهم وليس خارجها.