الاخوان وإنكار الوطن

من أبشع آثار حكم الاخوان على شباب مصر خلال الحقبة القصيرة الماضية التى تولوا فيها حكم البلاد ، هو شيوع فكرة خطيرة بين بعض الشباب ، روج لها قادة الاخوان الفاشلون بقوة وحماس ، وهى الاقلال من شأن قيمة الوطن ومن روعة الشعور بالوطنية والمواطنة والانتماء له، وذلك تحت تبريرات دينية كاذبة أفرختها هيئات وجماعات وتنظيمات دولية مغرضة تقوم على الفاشية الدينية وتسعى لبسط نفوذها على العالم . الانتماء والولاء عندهم لا يحق الا للجماعة لا للوطن ، فحب الوطن لايعنى عندهم شيئا بالقياس الى مخططاتهم العنصرية البغيضة ، والتى يستحيل بكل المقاييس تحقيقها فعليا على أرض الواقع ، لا فى مصر فقط ، وانما فى أى وطن آخر، مهما صرفوا من أموال وقتلوا من أرواح وسعوا لتقسيم الأوطان وتجزئتها. ان الشعب المصرى لايمكن أن ينسى المقولة الحقيرة لكبيرهم ومرشدهم:"طظ فى مصر"!!!!..

  انهم ينكرون تلك القيمة المقدسة التى تربينا عليها منذ طفولتنا ونحن نحيى العلم فى طابور المدرسة الصباحى ونهتف "تحيا مصر" ، بينما يغمرنا شعور طاغ بحب أرضنا وناسنا وجيشنا ودولتنا. انه شعور يأتى فى المرتبة التالية مباشرة لحب الله وطاعته، وليس غريبا أن تختتم أوامر القتال ضد العدو بالعبارة الشهيرة:"الله. الوطن. بالأمر". ان الوطن ذاكرة الانسان ، فيه الأحباب والأصحاب والآباء والأجداد، فمن فقد وطنه فقد ذاكرته.. ولاتعرف قيمة الأوطان الا عند فراقها وشدة الحنين اليها..

  عندما نجحوا فى خداع الشعب وسيطروا على المجلس النيابى رفضوا القيام وقوفا تحية للسلام الوطنى فى سابقة لم تحدث فى تاريخ مصر. غسلوا أدمغة بعض الشباب الذين يفتقرون الى الوعى والثقافة ونشروا بينهم تلك المفاهيم الكريهة ، حتى أن بعض الشباب العائد من الخارج والذى شاهد هناك مظاهر التقدم والرفاهية ، أصبح تحت تأثير هذا الفكر البغيض ساخطا على وطنه الذى يعانى من التخلف والانهيار ، ساخرا من تعثره وارتباكه، ناظرا باحتقار الى الشعب الذى علمهم ورباهم وأطعمهم وأسقاهم. لقد أصابتنى غصة ومرارة حين سمعت شابا يطلق على وطنه ساخرا لقب"الزريبة" ويسمى شعبه بالانجليزية:"zerebians"!!!..وبدلا من أن يبذلوا أى جهد للمساهمة فى اصلاح المعوج من حال البلد ، فإنهم يكتفون بالشكوى والنقد والسخرية، لكنهم لايفعلون شيئا ايجابيا يدفع وطنهم خطوة واحدة الى الأمام، وانما يصبح الهم الوحيد المسيطر عليهم هو الهجرة الى الخارج سعيا وراء تحقيق أهدافهم الذاتية، منسلخين تماما عن ارتباطهم العضوى والجذرى والدموى بأرضهم وأهلهم وشعبهم.

  انه لاينبغى علينا أن نترك هؤلاء الشباب المغيبين حتى يروحوا ضحية جماعة من الفاشيين الذين يعادون الحياة الانسانية الراقية التى قام عليها المجتمع المصرى من آلاف السنين، والتى تتسم بالمحبة والتسامح وتعشق الفن والابداع.  يجب أن نوضح لهم بالأدلة الواقعية أن هذه جماعة معادية للحضارة الانسانية بوجه عام ، وأن أصحابها يعادون كل ما يسمو بالروح والوجدان وكل ما تتصف به الحضارة المصرية العظيمة من قيم نبيلة منذ فجر التاريخ، ولايعرفون غير الكذب والغش والخداع والتضليل والتمسح الكاذب بالدين، وتكفير المخالفين لهم فى الرأى وإهدار دمهم بمنتهى البساطة بحكم اعتقادهم الخائب أنهم أصحاب الحقيقة المطلقة وأنهم الممثلون لله على الأرض.

  ان أمامنا جهد كبير للتخلص من هذه الظاهرة الغريبة الوافدة على مجتمعنا السوى، وعلينا بالعودة الى أناشيد حب الوطن ، جنبا الى جنب مع الاخلاص الشديد فى العمل واتقانه، فتلك هى المواطنة الحقيقية ومن لاوطن له لادين له، ومن لايحب وطنه لن يستطيع أن يحب شيئا على الاطلاق.

  ما أروع الشاعر العبقرى أمين الهجين الذى تغنى بكلماته عبد الوهاب حين يقول عن وطنه فى أنشودة حب الوطن فرض علىّ:

"قضيت أعز شبابى فيه ، وفيه حبايبى وعزالى".. أى أنه يحب حتى خصومه وأعدائه، ماداموا جزءا لايتجزأ من وطنه.

ولقد قال هوميروس:"ليس هناك شىء فى الدنيا أعذب من أرض الوطن".. وقال جالينوس:" يستروح العليل بنسيم أرضه كما تستروح الأرض المجدبة بوابل المطر".. وقال الجاحظ:" كانت العرب اذا سافرت أو غزت ، حملت معها من تربة بلدها رملا وعفرا تستنشقه فى البعد عنه".. وقال الغزالى:"ان البشر يألفون أرضهم على مابها ولو كانت قفرا موحشا، وحب الوطن غريزة متأصلة فى النفوس، تجعل الانسان يستريح الى البقاء فيه ويحن اليه اذا غاب عنه ويدافع عنه ويفديه بحياته اذا هوجم:

  بلادى وان جارت على عزيزة/ وأهلى وان ضنوا على كرام

وليس ببعيد عنا موقف الطاغية مبارك أثناء ثورة الشعب على حكمه الفاسد ، عندما عرض عليه أعوانه تهريبه بسلام الى خارج البلاد ، كما عرض عليه العديد من الحكام العرب استضافته ببلادهم، الا أن حبه لوطنه جعله يختار ويفضل أن يحاكم ويتعرض للسجن أو الموت داخل هذا الوطن على أن يغادره فى أمان تام الى أى وطن آخر معلنا أنه مهما حدث فلن يدفن الا فى تراب مصر.

ان حب الوطن أعظم عند الانسان السوى من حب الخلود والبقاء:

  وطنى لو شغلت بالخلد عنه/ لنازعتنى اليه فى الخلد نفسى

حتى فرعون عندما أراد أن يثير قومه ضد سيدنا موسى عليه السلام ، فإنه أثار فيهم غريزة حب الوطن لعظم قدرها وجلال شأنها قائلا لهم عن موسى:"يريد أن يخرجكم من أرضكم".

ويعلمنا سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حب الوطن من الايمان، وألا خير فيمن لا يحب وطنه على حاله، وذلك حين قال عن مكة وهو يغادرها مهاجرا مضطرا:" ما أطيبك من بلد، وما أحبك الىّ، ولولا أن قومى أخرجونى منك ماسكنت غيرك".

  واذا كانت حكمة الله تعالى قد قضت أن يستخلف الانسان فى الأرض ليعمرها ويستمتع بما فيها من الطيبات والزينة، لاسيما أنه سخرها له بكل معطياتها وخيراتها، فإن حب الانسان لوطنه وحرصه على المحافظة عليه واغتنام خيراته، انما هو تحقيق لمعنى الاستخلاف فى الأرض اذ قال سبحانه وتعالى:" هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"..

  ان المخلوقات جميعا تملك غريزة حب الوطن ، حتى النملة حين قالت فى كتاب الله الكريم"يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم" فإن قولها قد دل على حرصها على وطنها وعلى أبناء جنسها من أقدام جنود سيدنا سليمان وعلى مخزونهم الاستراتيجى من الطعام الذى جاهدوا فى تدبيره وتخزينه طوال العام.

  ان حب الوطن من المنظور الدينى أمر شرعى وأخلاقى، لكنه يجب أن يترجم الى أفعال وأقوال ولا يكتفى بأن يظل حبيسا فى الصدور ومكنونات النفس، وهذا الحب لايترجم حسب الهوى والمصالح الشخصية والذاتية، فليس من حب الوطن معاداة اهله أو نهب أمواله وخيراته أو العمل على اثارة الفرقة بين أبنائه ونشر ثقافة الكراهية والحقد والبغضاء والمذهبية والعنصرية بينهم، كما انه ليس من حب الوطن الاستقواء بالخارج أو التهديد باستخدامه كما أراد الاخوان ولم يفلحوا حتى فى ذلك، مثلما لم يفلحوا فى عمل شىء ذى قيمة على الاطلاق خلال عام حكمهم البغيض.

  ياشباب مصر يامن قمتم بثورتين فى ثلاثة أعوام، انصحوا أصدقاءكم الشكائين الساخطين على وطنهم أن يقللوا من الجدل ويكثروا من العمل إعلاء لشأن وطننا الغالى ، غير عابئين بأفكار هؤلاء المتطرفين ، فقديما قال سيدنا عمر رضى الله عنه:"اذا أراد الله بقوم سوءا ابتلاهم بكثرة الجدل وقلة العمل".