الأعمال الشعرية محمد الماغوط

 

طفولة بريئة وارهاب مسن مأساة محمد الماغوط أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط. ومنذ مجموعته الأولى «حزن في ضوء القمر» وهو يحاول إيجاد بعض الكوى أو توسيع ما بين قضبان النوافذ ليرى العالم ويتنسم بعض الحرية. وذروة هذه المأساة هي في إصراره على تغيير هذا الواقع، وحيداً، لا يملك من أسلحة التغيير إلا الشعر. فبقدر ما تكون الكلمة في الحلم طريقاً إلى الحرية نجدها في الواقع طريقاً الى السجن. ولأنها كانت دائماً إحدى أبرز ضحايا الاضطرابات السياسية في الوطن العربي، فقد كان هذا الشاعر يرتعد هلعاً إثر كل انقلاب مرَّ على الوطن ، وفي أحدها خرجت أبحث عنه، كان في ضائقة قد تجره إلى السجن أو ما هو أمرّ منه، وساعدني إنتقاله الى غرفة جديدة في إخفائه عن الأنظار، غرفة صغيرة ذات سقف واطئ حشرت حشراً في خاصرة أحد المباني بحيث كان على من يعبر عتبتها أن ينحني وكأنه يعبر بوابة ذلك الزمن. سرير قديم، ملاءات صفراء، كنبة زرقاء طويلة سرعان ماهبط مقعدها، ستارة حمراء من مخلفات مسرح قديم. في هذا المناخ عاش محمد الماغوط أشهراً عديدة. لنفترض أن الشرق العربي بقعة سوداء على خريطة الماضي والحاضر، فما يكون لون المستقبل؟ ولنبحث بعد ذلك عن مصير الشعر والشعراء من خلال ذلك الظلام الدامس . وإذا ما استعملنا ضوء الذاكرة وجدنا أن محمد الماغوط في وجه من الوجوه جزء من المستقبل، لذا كان لابد من حمايته من غباء الحاضر. ألا يكون مستقبل شعرنا رماداً لو تركنا الشعراء للسلطة؟ ولأن هذا الشاعر محترق بنيران الماضي والحاضر، لجأ إلى نيران المستقبل وهو جزء منها بحثاً عن وجود آخر وكينونة جديدة. بدت الأيام الأولى كاللعبة البطولية لنا نحن الاثنين . ولكن لما شحب لونه ومال إلى الاصفرار المرضي وبدأ مزاجه يحتد بدت لي خطورة اللعبة. كان همي الكبير أن يتلاشى الاعصار دون ان يخنق غباره «النسر». كنت أنقل له الطعام والصحف والزهور خفية. كنا نعتز بانتمائنا للحب والشعر كعالم بديل متعال على ما يحيط بنا. كان يقرأ مدفوعاً برغبة جنونية. وكنت أركض في البرد القارس والشمس المحرقة لأشبع له هذه الرغبة، فلا ألبث أن أرى أكثر الكتب أهمية وأغلاها ثمناً ممزقة أو مبعثرة فوق الأرض مبقعة بالقهوة حيث ألتقطها وأغسلها ثم أرصفها على حافة النافذة حتى تجف. كان يشعل نيرانه الخاصة في روائع أدبية بينما كانت الهتافات في الخارج تأخذ من بعيد شكلاً معادياً. وقبل ذلك كان محمد الماغوط غريباً ووحيداً في بيروت. وعندما قدمه أدونيس في أحد اجتماعات مجلة «شعر» المكتظة بالوافدين، وقرأ له بعض نتاجه الجديد الغريب بصوت رخيم دون أن يعلن عن اسمه، وترك المستمعين يتخبطون (بودلير؟ .. رامبو؟..) لكن أدونيس لم يلبث أن أشار الى شاب مجهول، غير أنيق، أشعث الشعر وقال : «هو الشاعر..» لاشك أن تلك المفاجأة قد أدهشتهم وانقلب فضولهم إلى تمتمات خفيضة. أما هو، وكنت أراقبه بصمت ، فقد ارتبك واشتد لمعان عينيه. بلغة هذه التفاصيل وفي هذا الضوء الشخصي نقرأ غربة محمد الماغوط. ومع الأيام لم يخرج من عزلته بل غير موقعها من عزلة الغريب الى عزلة الرافض. من يدرس حياة هذا الشاعر يرى أن فترات الخصب عنده تتواقت مع الأزمات. «فالعصفور الأحدب» وأعمال أخرى مازالت مخبأة في الأدراج، وقسماً كبيراً من «الفرح ليس مهنتي» جاءت نتيجة انفجار بشري داخلي عنيف حدث في أواخر ذلك الشتاء. في هذه الحميا أخذ يرى علائق الأشياء بعضها بالبعض الآخر . وإن هذه الارتباطات قد تنقلب الى علائق خطرة فيما إذا تضخمت من طرف واحد تاركة الطرف الآخر يرتجف دون حول أو قوة . ومحمد الماغوط يبحث عن الحماية منذ صغره. لكن كلما التجأ الى ركن رآه خانقاً كالسجن أو واهياً كالورق . أراد أن يدخل كون الشعر حيث لا سلطة إلا للمتفوقين . والبيئة المضطربة المتقلبة التي عاش في مناخها، كانت تقف كالسوط في وجهه لترده باستمرار الى الداخل فيعتصم بمخيلته. في تلك المؤامرة الكبيرة التي حاكتها البيئة ضده عظمت براءته وقوي صفاؤه. وقد أعطته تلك الاقامة السرية فرصة كبيرة للتأمل الذهني. وتحت تلك العدسات كان الوجود الانساني يدخل سلسلة من التحولات. سكب أحماضه المأساوية على الفوضى البشرية، فبدا الوجود الواحد يحمل في أعماقه وجودات لا حصر لها. وهذا ما دفعه لأن يطرق ألواناً أخرى غير الشعر. في الشعر يمتطي حلمه ويغيب . ليس بمعنى التخلي الشعوري عن واقعه ، وإنما بمعنى الطموح الملح لخلق وجود بديل عنه. وجود آخر يهيم معه في سفره. غرفة الشعر غرفة لينة، واسعة ، فضفاضة . تنتقل كلما أشار اليها الشاعر. أما الآن فلا مفر له وهو داخل تلك الجدران المتسخة من مواجهة الواقع. لذا انعكست أوضاعه على أبطال «العصفور الأحدب» سجنهم، خلقهم مشوهين وبأمزجة حادة، متقلبة وشائكة . المسافة في المسرحية لا تنقلهم نحو أحلامهم أو نحو الأفضل وإنما تحاصرهم. وعندما امتلكوا الحرية تغيرت مرتفعاتهم الانسانية. دخلوا في علائق جديدة. شكلوا مرة أخرى لعبة الحاكم والمحكوم التي ما استطاعوا أن يذهبوا خارج حدودها بالرغم من الحريات التي امتلكوها فيما بعد. في «العصفور الأحدب» لم يلتق محمد الماغوط بجمهوره بمعنى المواجهة. التقى به في حالة الجذب والقيادة. ولأن الزمن بينه وبين الآخرين كان شاسعاً أنكرت كعمل مسرحي وسميت قصيدة. في الحقيقة كان في «العصفور الأحدب» قائداً يسير خلفه جيش مهترئ، منكوب أرمد . لذا ارتد القائد في «المهرج» وفضح تلك المخازي. يعتبر محمد الماغوط من أبرز الثوار الذين حرروا الشعر من عبودية الشكل. دخل ساحة العراك حاملاً في مخيلته ودفاتره الأنيقة بوادر قصيدة النثر كشكل مبتكر وجديد وحركة رافدة لحركة الشعر الحديث. كانت الرياح تهب حارة في ساحة الصراع ، والصحف غارقة بدموع الباكين على مصير الشعر حين نشر قلوعه البيضاء الخفاقة فوق أعلى الصواري. وقد لعبت بدائيته دوراً هاماً في خلق هذا النوع من الشعر، إذ ان موهبته التي لعبت دورها بأصالة وحرية كانت في منجاة من حضانة التراث وزجره التربوي . وهكذا نجت عفويته من التحجر والجمود . وكان ذلك فضيلة من الفضائل النادرة في هذا العصر.