حسن الأمراني يكتب عن حالة حصار لمحمود درويش

(الأساطير المـؤسسة لقصيدة (حالة حصار

عن المركز الفلسطيني للإعلام - 25 مارس 2003 لأن َّ القصيدة الشعرية المنتفضة تُشكِّل بُعداً هاماً في أفق الصراع مع العدو الصهيوني،، وإذا كانت القوافي والصُّور ترسم صورة المشهد المقاوم لانتفاضة الأقصى في تجلياتها المرصَّعة بإبداع التضحيات وأوجاع النزف والحصار ، كان لا بد من التوقف مليًّا في أحد ميادينها الشعرية ، نقرأ مستجداتها ونطل على آرائها في دراسات نقديَّة جادة وهادفة . الدكتور حسن الأمراني له وقفات صريحة ، جريئة ، تُسلِّط الضوء على قصيدة لها أهميتها في الانتفاضة لما يُمثِّل صاحبها الشاعر الفلسطيني محمود درويش من أهمية في هذا المضمار ، ليس هذا فحسب ، بل إنَّ بُعد الرؤية ، وعمق الفكرة هي التي تحكم المشهد الثقافي في هذه الدَّراسة .ولذلك نستطيع أن نتوقف مطوَّلا في السطور التي تؤسِّس لما يأتي من أفكار أدبية لا تغيب عن الحدث الفلسطيني الممزوج بالدماء ، ولا تغيب عنه المبادئ التي ينطلق منها في كلمات ينصهر فيها الأدب مع الوجع والشعر مع القيم والنقد مع الجرح والبطولة .

الأساطير المـؤسسة لقصيدة (حالة حصار) بقلم:د.حسن الأمراني الإرادة المتحررة:

الدبابة الإسرائيلية لا ترقب في فلسطيني إلا ولا ذمة. تجرف الـــمـواثيق والعهود، وتهدم البيوت والمؤسسات، وتقتل الأطفال والشيوخ والنساء والرجال، وتضع أحلام الراغبين في السلام على محك التجربة المريرة، وتسد بدخانها أفق الانتظار. يستمر الحصار، وتزيد عزيمة الفلسطيني المجاهد، رغم صمت العالم المتمدن والمتوحش، صلابة وصمودا وأملا. يتساقط الحرس الخاص برصاص القناصة، وتتساقط الجدر، وتتهاوى البنايات، وتستمر التطمينات الإسرائيلية الكاذبة: حياة الرئيس في مأمن.. نحن لا نطالب بغير الإرهابيين الذين معه.. ويستمر الخذلان العربي، والعجز الإسلامي، والصمت الدولي، ليواجه الفلسطيني مصيره بمفرده، وليرسم مستقبله بريشته هو، لا بريشة غيره.. وليواجه عدوه بنفسه ، يستمر الحصار.. بث الرعب.. إغلاق المدرس.. تساقط الشهداء.. بل عروجهم إلى مقعد صدق.. ويظل شيء واحد يتحدى الحصار الإسرائيلي وجرافاته ودباباته وآلاته الجهنمية: الإرادة الفلسطينية، إرادة شعب يرفض أن يقهر، أو أن يلين، أو أن يعطي الدنية، وهو مستيقن بالنصر: ( لن يضروكم إلا أذى). يعلن شارون، رأس الفساد والإرهاب في دولة الفساد والإرهاب، أنه في حل من التزامات أسلافه التي وقعوا عليها في مدريد وأوسلو، واستكملوها على منتجعات البحر الأحمر، ليؤكد للعالم أن طبيعة اليهود ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، نطق بذلك رب العزة فقال سبحانه:(أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم).وهل يتخلف وعد الله عز وجل؟

الكتابة تجرح من دون دم: يتساءل المتشائل: أو ما يزال للشعر، ديوان العرب قديما، موقع قدم في حياتنا المعاصرة؟ أو يملك أن يفك عنا الحصار قيد أنملة، أو أن يعيد إلينا الأمل في زمن التخاذل؟أم نقول مع محمود درويش: لا تثق في القصيدة بنت الغياب،فلا هي حدس،ولا هي فكر، ولكنها حاسة الهاويه ففيم نثق إذن وفيم إن نحن لم نثق في الكلمة؟ ويجيب الشعر بنفسه، عبر مواقفه، أنه ما يزال قادرا على أن يكون سلاحا لا يفلّ، يرهب العدو، ويبعث الأمل في نفوس المستضعفين، فمنذ انتفاضة الأقصى يكتسب الشعر مذاقا جديدا، ويسهم في المعركة، فقد استطاعت الانتفاضة أن تفك الألسنة من عقالها، وأن تسقط أقنعة الزيف التي كانت تتقدم إلى الناس، ساترة عجزها، باسم التجريب أو الحداثة أو الفن للفن أو الشعر الخالص..ويستعيد الشعر عافيته، حتى لقد صار للعرب والمسلمين ديوان ضخم اسمه: ديوان الانتفاضة.. ديوان متجدد ومستمر ومتألق.. عندما نشر محمود درويش قصيدته : ( عابرون في كلام عابر)، فعلت القصيدة فعلها، لأنها كتب بلغة يفهمها العدو والصديق على السواء، كانت دعوة لليهود إلى أن يغادروا أرض فلسطين، ويرجعوا إلى البلاد التي جاءوا منها، أو إلى أي جهة شاءوا، شرط ألا يقيموا بيننا:

"وأقيموا حيثما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا"

وعندها قال الإسرائيليون، حتى دعاة السلام منهم، عن القصيدة: (إنها قصيدة مرة كالموت)،وشككوا في تقدمية محمود درويش الذي طالما تغنى بالسلام الموحَّد والموحّد. وعندما ضاق الطوق على أمريكا ، وطلبت لأزماتها متنفسا، أعلنت الحرب ضد ما تسميه "الإرهاب"، تناصرها في ذلك الدولة الإرهابية الأولى، إسرائيل، ويؤازرها عدد من أنظمة الجور والاستبداد، ضمت لائحة الإرهاب على الطريقة الأمريكية عددا من الشعراء والأدباء، وراحت تضيق الخناق على الحريات العامة باسم الحرية... وعندما كتب الشاعر السفير غازي القصيبي قصيدة شعرية يمجد فيها الفعل الاستشهادي للعروس البطلة آيات الأخرس، شعرت أمريكا وحلفاؤها أن صوتا متمردا على إرادتها يسعى إلى أن يخرج من عباءة نظام يدور في فلكها، وقامت قائمة الشارع البريطاني، تحركه الصهيونية القذرة، وسارت مظاهرات في لندن في 17 تموز/ يوليوز الماضي، وهي تحمل لافتات تطالب السفير السعودي بالتنديد (بالانتحاريين)وكان من أسباب الحملة أيضا، كما ذكرت صحيفة القدس العربي(العدد الصادر يوم الأربعاء 18أيلول/سبتمبر 2002) أن الشاعر ألقى بالإضافة إلى القصيدة محاضرة وصف فيها الاحتلال بأنه أكثر شراسة من كل ما فعله الألمان النازيون في الحرب العالمية الثانية. كانت اللافتات تحاكم في الحقيقة الشعر الخارج على القانون، الشعر الذي تجرأ على أن يستعيد عافيته الرسالية ويتوجه كالقذيفة إلى صدور الأعداء المتغطرسين والحكام المتخاذلين... قصيدة واحدة إذن يكتبها شاعر، تهز الأرض، وتكلف صاحبها منصبه الدبلوماسي في لندن، ليعود إلى بلده وزيرا للمياه. الكتابة إذن جارحة،كما قال أسلافنا، وهي أشد إيلاما من جرح السنان،لأنها جراحات لا تلتئم: جراحات السنان لها التئام ولا يلتام ما جرح اللســـان إلا أن الكتابة تجرح من دون دم، كما قال محمود درويش في قصيدته المدوية: حالة حصار. الشعر الذي ألهمته الانتفاضة غزير جدا، وربما حملت بعض المقلين من الشعراء على الإكثار،وصدرت دواوين مستقلة جعلت موضوعها الانتفاضة والقضية الفلسطينية ( وقد أصدر صاحب هذا المقال، على سبيل المثال في الانتفاضة الأولى ديوان/المجد للأطفال والحجارة/ وأصدر هذا العام ، تمجيدا للانتفاضة، وللاستشهاديات خاصة، ديوان/شرق القدس ..غرب يافا). كما صدرت مجاميع شعرية عن الانتفاضة تضم عددا من الشعراء،إما عن مؤسسات، كما فعل نادي الفكر الإسلامي بالرباط،أو مؤسسة البابطين بالكويت،وإما عن طريق مبادرات شخصية. ولكن شعر الانتفاضة متفاوت في جودته، فليس كله على درجة واحدة تضمن له الاستمرار التاريخي، وربما بقي بعضه شهادة على عصره فحسب،ولكن قسطا من ذلك الشعر سيبقى، وهو مؤثر يفعل فعله، ويسري في الوجدان،ويحرك النفوس، ويبعث الهمم، ويشحذ العزائم. والتفاوت الحاصل بين عدد من الشعراء،إما فنا وإما رؤية، قد يحصل أحيانا مع الشاعر الواحد، ولا غرو في ذلك، فالنفس الإنسانية تتعرض للمد والجزر،وقديما نص النقاد والدارسون على ذلك التفاوت. محمود درويش واحد من الشعراء الذين ارتبطت أسماؤهم بفلسطين، بل لعله أشهرهم، لا لأنه فلسطيني فحسب، بل لأنه لا يفتأ يفاجئ قارئه بالجديد،فنا ورؤية، الجديد الذي يجعلك تتساءل : في أي موقف يقف محمود درويش؟ هو لا شك يقف مع القضية الفلسطينية، مع شعبه، لأنه جزء منه، ولكن من أي زاوية؟ ومن أي موقع؟ وبأي موقف؟ عندما خرج درويش من فلسطين ليقيم بالقاهرة، منذ أزيد من ثلاثة عقود، قيل له كيف تخرج من فلسطين وأنت القائل: وأبي قال مرة الذي ماله وطن في الثرى ماله ضريح ونـهاني عن السفر

قال مجيبا: غيّرت موقعي، ولكنني لم أغير موقفي. جواب ذكي من دون شك. ولكن ما الذي ينطق به شعر محمود درويش؟ أسأل هذا السؤال وقد حيرتني الموازنة بين بعض شعره، ولا سيما بين قصيدته المقاومة:"عابرون في كلام عابر" وبين قصيدته المجلجلة:"حالة حصار"، التي أريد أن أقف عندها قليلا. وبالرغم من أن هذه القصيدة الأخيرة قد احتفت بها منابر كثيرة وأعادت نشرها، إلا أنها فعلا قصيدة محيرة،تكاد تنبني على أساطير اليهود المعاصرة. وربما كانت بعض مقاطعها قابلة للتأويل، وحسن الظن يدفعنا إلى أن نميل بهذا التأويل الميل الحسن، إلا أن مقاطع أخرى تتأبى على التأويل،لتصب في نهاية الأمر فيما يخدم المطبعين على أقل تقدير، إن لم نقل ما هو أكثر من ذلك. شعريا، يبدو محمود درويش ماهراً في قصيدته، عليما بأسرار فنه، خبيرا بصناعته الشعرية، ممتلكا أدواته، متمرسا بالكتابة الجارحة (جارحة لمن،هذه المرة؟)،أما فكريا فيبدو الشاعر متحمسا للسلام،ولكن أيّ سلام؟ وبأيّ ثمن؟ قد تصدم هذه القراءة، وما تفضي إليه من نتائج بعض محبي درويش، ولكن الجواد يكبو، والحق أحق أن يتبع، وهل يمنعنا الحبّ من أن نستنطق النص ثم نفضي إلى الناس بأسراره التي يبوح بها؟ ألم يقل درويش نفسه،أيضا منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود: ارحمونا من هذا الحب القاسي؟ أليس من الرحمة إذن أن نكون مخلصين في القول،ونرجو أن نخلص في العمل؟ السلام الذي تدعو إليه القصيدة سلام جارح فعلا، وهو يقوم على عدد من الأساطير. ركب الشعر الحديث الأسطورة، ولا سيما الأساطير اليونانية، إما لحاجة فنية أو فكرية، وإما اتباعا للغرب، وإيغالا في التجريب، والتجديد المقلد، أو التقليد المجدد. ولم يعرف عن محمود درويش بأنه ممن يوغلون في استعمال الأسـطورة اليونانية، فهو إن لجأ إليها لجأ إليها مقتصدا،وقصيدة:(حالة حصار)، لا تغيب عنها الأسطورة اليونانية،ولكنها هنا وإن جاءت عابرة، إلا أنها تحمل معها رؤيتها الوثنية، المناقضة للتوحيد، ثم إن الشاعر يضيف إليها ـ وهذا الجديد، والمؤـسف في الوقت نفسه ــ عددا من الأساطير اليهودية المعاصرة التي تريد إسرائيل أن تقنع الناس بأنها حقيقة وليست أساطير، وتبتز بها شعوب الأرض ودولها . الأسطورة اليونانية حاضرة في القصيدة حضورا واضحا، بل إن مطلع القصيدة نفسها يشدك إلى الأساطير اليونانية، والحديث عن هومير، وحصان طروادة ، يجعلك تستحضر الإلياذة والأوديسة، ولكن الحضور الأسطوري هنا يختلف عما اعتدناه عند الشعراء التموزيين في مطلع النصف الثاني من القرن العشرين . مقطع طويل يفتتح به الشاعر قصيدته، ويتكرر في ثناياها ومنه : لا صدى هوميري لشيء هنا فالأساطير تطرق أبوابنا حين نحتاجها لا صدى هوميري لشيء. هنا جنرال ينقب عن دولة نائمه تحت أنقاض طروادة القادمه يقيس الجنود المسافة بين الوجود وبين العدم بمنظار دبابة .. نقيس المسافة ما بين أجسادنا والقذائف بالحاسة السادسة " وبعد هذا الصدى الهوميري الحاضر الغائب، بل قبل منتهاه ، تأخذك القصيدة في مد وجزر، وترجك رجا . تضعك في قلب المأساة المتجددة التي يعيشها شعبنا الفلسطيني البطل. ومما لا شك فيه أن هذا المقطع وفق في أن يثير تعاطف القارئ –أيا كان – وتضامنه، وهو يتحدث عن المسافة الفاصلة بين الجسد الفلسطيني والقذيفة، وهي في كل الأحوال، مسافة قصيرة ، لأنها لا تميز بين صغير وكبير، وطفل وشيخ، ورجل وامرأة. إلا أنك لا تلبث أن تعجب من هذه الدعوة التي يوجهها الشاعر لهؤلاء الجنود الذين يقيسون كل شيء بمنظار دبابة.. يدعوهم الشاعر إلى أن يدخلوا ويشربوا معنا القهوة العربية . أهذا هو ما يجعلهم يستعيدون كينونتهم الإنسانية ، ويشعرون أنهم بشر مثلنا؟ أو أننا نحن – كما في المقطع نفسه ، وقد كرر- نشعر أننا بشر مثلهم ؟ في (عابرون في كلام عابر ) كان الشاعر يدعوهم إلى أن يرحلوا، وأن يحفروا قبورهم في أي أرض أخرى، غير الأرض الفلسطينية ، فما معنى أن يدعوهم الآن إلى شرب القهوة العربية ، ( إلى أن نعلم أعداءنا نماذج من شعرنا الجاهلي )؟ ولكنه في المقطع نفسه يخاطبهم قائلا : (أخرجوا من صباحاتنا نطمئن إلى أننا بشر مثلكم ) فكيف تكون دعوة الأعداء إذن إلى الدخول والخروج في الوقت ذاته ؟ أهي دعوة للخروج من حالة الحرب، وحالة الحصار، إلى الدخول إلى حالة السلم ؟ هل هذا انعكاس لاضطراب الموقف العربي الحالم بسلام لا يعرف الطريق إليه؟ اضطراب يشي به هذا الموقف المتردد بين روح وثابة تنطق به عبارة :" أخرجوا من صباحاتنا " ، وروح هيابة، ترتدي رياء لباس الحكمة، وهي تدعو الخصم إلى مصالحة عسى : "نجد الوقت للتسليه نلعب النرد، أو نتصفح أخبارنا في جرائد أمس الجريح " وتتحاور الأزمنة، بصورة متنافرة ، تشي من جديد بعمق الاضطراب بين الأمس والغد : كلما جاءني الأمس قلت له : ليس موعدنا اليوم، فلتبتعد وتعال غدا وتعود الأساطير اليونانية ، بوجهها الوثني، لتطل على القارئ من خلال عدد من التعبيرات والصور، ومن مظاهر تلك الوثنية الصارخـة، هذا الإصرار على الحديث عن (الآلهة) بصيغة الجمع، وما يتبع ذلك من سخرية بالإيمان بالغيب : -" وأما الشمال ، الشمال البعيد فليس بجغرافيا أو جهه إنه مجمع الآلهه " - " كلما غاب عنك الغياب تورطت في عزلة الآلهه فكن ذات موضوعك التائهه " وتطوى صفحة الإيمان نهائيا في مثل هذا القول : " نحب الحياة غدا عندما يصل الغد سوف نحب الحياه كما هي، عادية ماكره رمادية أو ملونة .. لا قيامة فيها ولا آخره " ما الذي يبقى إذن حين نكفر بالقيامة واليوم الآخر؟ هذا الإيمان الذي يحرك الاستشهاديين والاستشهاديات، ويجعلهم يسترخصون أرواحهم في سبيل الله، طلبا لمرضاة الله، هذا الإيمان تنفيه القصيدة عنهم، بل تسخر منه بصورة علنية، فليس هناك غير حب الأرض، وليس هناك غير بهجة الحياة على هذه الأرض، وأما ما سوى ذلك كله فليس غير أضغاث أحلام، بل إن الشاعر لينكر زغاريد الأمهات، احتفالا باستشهاد أبنائها، ويعتبر الترويج لذلك نوعا من التضليل، لأنه يعكس شعورا مخالفا للشعور الإنساني، وهو الحزن... الحزن فقط أمام الموت والقتل... ويلقي الشاعر على لسان الشهيد تصورات مادية يسخر فيها من نعيم الآخرة، فهو نعيم زائف، ولا يمثل شيئا أمام حب الحياة على الأرض ونيل طيباتها. تقول القصيدة : "الشهيد يوضح لي : لم أفتش وراء المدى عن عذارى الخلود ، فإني أحب الحياه على الأرض ، بين الصنوبر والتين لكنني ما استطعت إليها سبيلا ففتشت عنها بآخر ما أملك ، الدم في جسد اللازورد " أو هذا حقا هو كل ما يبحث عنه الشهيد؟ وهذه الصور التي نراها للشهداء، قبل استشهادهم، وهم يقرءون وصاياهم ويقبلون المصحف الكريم، وهذه الأم الباسلة التي تعانق ولدها وهو مقبل على الاستشهاد، أكل ذلك زور وبهتان ؟ ذلك ما تقوله القصيدة، فما من حق غير صورة الأب الباكي : " الشهيد يحذرني: لا تصدق زغاريدهن وصدق أبي حين ينظر في صورتي باكيا " وما أدري أيكون هذا عزاء أم دعوة إلى التخاذل ! الأساطير المعاصرة : وإذا كان ذلك هو الموقف الذي تعكسه القصيدة عن الشهادة والشهداء، فإن من أخطر ما فيها أنها تتبنى الأساطير الصهيونية المعاصرة، لتؤسس عليها حلم السلام الموهوم، وتدغدغ عواطف الجندي الصهيوني، لعله يتذكر ما نزل به من ألوان العذاب على يد النازيين، فيرتدع عن إنزال العذاب بالفلسطينيين، ويقتنع ببناء مجتمع السلم، إنها أكبر الأساطير المعاصرة التي يبتز بها الشعوب المغلوبة على أمرها، ويحكمون قبضتهم بها على العالم الغربي منذ أزيد من نصف قرن هي أسطورة الهولوكوست، أسطورة غرف الغاز التي أنشأها النازيون بزعامة هتلر لتحصد أمة اليهود، وقد أثبت الباحثون المنصفون أنه لم يثبت تاريخيا أي وجود لغرف الغاز التي يتحدث عنها اليهود .. إلا أن هؤلاء الباحثين وقعت تصفيتهم إما جسديا وإما إعلاميا ..فـكل من يجرؤ على التشكيك في غرف الغاز يتهم بمعاداة السامية ..وهي تهمة ما بعدها من تهمة .. استطاع اليهود بواسطتها أن يصفوا عددا من خصومهم، ولو بعد ما يقرب من نصف قرن على نهاية الحرب العالمية الثانية. هي أسطورة، ولكن الصهيونية تهدد من يشكك فيها، لأنها باب واسع من أبواب الارتزاق، وباسمها يقتل الشعب الفلسطيني ويذبح ويهجر.. يرى اليهود أنهم شردوا وقتلوا، فلم لا ينتقمون؟ وليكن الضحية العرب ..وأول من كان عليه رفض هذه الأسطورة هم العرب، ولكننا نراها أسطورة تعيش بيننا، وهاهي تتسرب إلينا في ثوب شعري، تريد من وراء ذلك أن تكتسب بهاء الحقيقة . فماذا تقول القصيدة؟ [إلى قاتل] لو تأملت وجه الضحيه وفكرت، كنت تذكرت أمك في غرفة الغاز، كنت تحررت من حكمة البندقيه وغيرت رأيك، ما هكذا تستعاد الهويه يقف الشاعر موقف الواعظ ، مسلّـــما بأسطورة غرفة الغاز التي يتوكأ عليها الصهيوني لممارسة جرائمه البشعة، ويتصور أن الموعظة ستجد سبيلها إلى نفس القاتل، وأن تذكيره بغرف الغاز سيوقظ في نفسه الشعور بالرحمة، وأن ذلك سيجعله يتخلى عن البندقية، والحال أن العكس هو الواقع حالا، فأطفال اليهود في إسرائيل يشحنون بأسطورة غرف الغاز ليزدادوا حقدا على من حولهم .. وليقبلوا بعدما يكبرون على القتل دون قلب، كما يفعل شارون ، فأي هوية تستعاد؟ والأخطر من ذلك أن الوهم يذهب بالشاعر بعيدا ويستولي عليه ويملك عليه أقطار نفسه، حتى أنه ينسج من خياله أسطورة جديدة تجعل الذئب والشاة أخوين، تملكهما الوداعة والمحبة والتسامح : على طللي ينبت الظل أخضر ، والذئب يغفو على شعر شاتي ويحلم مثلي ومثل الملاك بأن الحياة هنا ..لا هناك ." هناك أين ؟ في عالم قزحي يتخيله الشاعر مولودا من رحم ذلك الزواج الغريب ما بين الذئب والشاة، الجلاد والضحية ..وهكذا يوجه الحديث (إلى قاتل آخر)، هكذا بصيغة الإبهام، وإن كنا نعرف دائما أن القاتل ليس غير ذلك اليهودي الذي يدعوه الشاعر إلى التريث ليعرف طريق السلام . وهكذا تسوق القصيدة ذلك الحلم الوردي، الذي لن يتجاوز في الحقيقة دائرة الأحلام الكاذبة : (إلى قاتل آخر ) لو تركت الجنين ثلاثين يوما إذن، لتغيرت الاحتمالات، قد ينتهي الاحتلال ولا يتذكر ذاك الرضيع زمان الحصار فيكبر طفلا معافى ويدرس في معهد واحد مع إحدى بناتك ! تاريخ آسيا القديم وقد يقعان معا في شباك الغرام ! وقد ينجبان ابنة (وتكون يهودية بالولادة ) ما ذا فعلت إذن؟ صارت ابنتك الآن أرملة، والحفيدة صارت يتيمه فماذا فعلت بأسرتك الشارده وكيف أصيبت ثلاث حمائم بالطلقة الواحده ؟ ثلاث حمائم إذن ، الطفل العربي (الذي ربما كان محمد الدرة، لو أمهله القاتل ) الذي كان سيكبر معافى، ويدرس في معهد واحد مع ابنة القاتل اليهودية، ليقعا معا قي شباك الغرام، ويتزوجا وينجبا الحمامة الثالثة ! يا له من حلم . أهكذا إذن تحل مشكلة الاحتلال؟ أهكذا يتحقق السلام المنتظر؟ عودا على بدء نقول ما قاله الشاعر في مطلع القصيدة : "فالأساطير تطرق أبوابنا حين نحتاجها " لقد احتجنا إلى سلام، واحتجنا إلى أمن واستقرار، واحتجنا إلى أن نسكن الغد ، فلم نجد غير أن نطرق هذه الأسطورة أبوابنا، فنركن إليها قانعين بالانتظار، رغم أن الانتظار هو عين الحصار، كما يقول الشاعر : "الحصار هو الانتظار هو الانتظار على سلم مائل وسط العاصفه " ومما لا شك فيه أن الركون إلى أسطورة كهذه سلم مائل كثيرا، وسط عاصفة لا تكاد تهدأ. فكيف توصل الشاعر، رغم كل التناقضات، ورغم كل الحراب المشرعة، والدبابات المدمرة، والصواريخ الغاشمة التي لا تميز بين "الإرهابي" وغيره ، كيف توصل بعد كل هذا إلى أن يقول، مخاطبا المحتلين : ومن أيها الساهرون ! ألم تتعبوا من مراقبة الضوء في ملحنا ومن وهج الورد في جرحنا ألم تتعبوا أيها الساهرون ؟ واقفون هنا، قاعدون هنا، دائمون هنا، خالدون هنا، ولنا هدف واحد واحد واحد : أن نكون. بعده نحن مختلفون على كل شيء: على صورة العلم الوطني (ستحسن صنعا لو اخترت يا شعبي الخحي رمز الحمار البسيط ). ومختلفون على كلمات النشيد الجديد (ستحسن صنعا لو اخترت أغنية عن زواج الحمام ) .... مختلفون على كل شيء ..لنا هدف واحد : أن نكون ومن بعده يجد الفرد متسعا لاختيار الهدف " هل الهدف واحد، وهو أن نكون ؟ أم أن الهدف هو كيف نكون ؟ أن نعيش على هذه الأرض ..أم أن نحيا ؟ والله تعالى يقول عن طائفة من أهل الكتاب وهم اليهود على مذهب كثير من المفسرين : "ولتجدنـهم أحرص الناس على حياة " هكذا، على حياة..بدون تعريف..فهل هذا هو الهدف ؟ إن كان هو فما أرخصه، وما أيسر السبيل إليه، وآنذاك سنعترف أن لليهودي، قلبا يخشع وعينا تدمع، رغم آلته الجهنمية الموجهة ضد السنابل، "أما للغبي، كما لليهودي في تاجر البندقيه قلب وخبز، وعينان تغرورقان ؟" الأسطورة دائما تغلف نفسها بثوب شفاف، من العبارة الأنيقة، والخيال المتألق، والتصوير الشائق، ولكنها تظل دائما أسطورة من الأساطير ، ويظل الحق وحده قرين الأبدية .