إدارة الأزمة في الولايات المتحدة ومستقبل الدور الأمريكي في النظام الدولي ما بعد الجائحة

السفير/محمد توفيق

عضو المجلس المصري للشئون الخارجية
سبق النشر على موقع المجلس

كشفت الأزمة العالمية التي ولدها وباء الكورونا (كوفيد 19) الشروخ القائمة في النظام الدولي والنظام السياسي الأمريكي على حد سواء، ونظرا إلى أن الولايات المتحدة لا تزال – وستظل في المستقبل المنظور– تحتل موقعا مركزيا في النظام العالمي، فإن تفاعلاتها الداخلية إزاء الأزمة ونتائجها سيترتب عليها آثار عالمية النطاق.

وكما تفعل الأزمات الكبرى عادة، كشفت الأزمة أوجه القصور وجوانب القوة في المجتمع الأمريكي. فبينما  تحولت الولايات المتحدة سريعا إلى الدولة ذات العدد الأكبر من الإصابات والوفيات المسجلة، وانفضح النظام الصحي الأكثر تكلفة في العالم، ولجأت القيادة الأمريكية لمبررات واهية وتسييس سافر، نجحت النخبة السياسية الأمريكية في حشد كم غير مسبوق من الموارد لمواجهة الأزمة وآثارها بتخصيص الكونجرس ترليونين من الدولارات لهذا الغرض، وبرزت قوة المؤسسة العلمية بما لها من خبراء ومراكز للبحث بكم الأبحاث والدراسات التي أجريت، والقدرة على إجراء أعداد كبيرة من الاختبارات، ووضع خارطة لانتشار المرض في المجتمع الأمريكي، وصولا لخطط منهجية للتعامل مع الوباء. كما اتضح فائدة تعدد مراكز اتخاذ القرار على مستويات الدولة الفدرالية، وحكومات الولايات، والحكم المحلي، في احتواء اخفاقات القيادات، ووضع سياسات متباينة وفقا للظروف المحلية، كما تجلت طاقة المجتمع المدني والإعلام في التعبئة والتوعية وتوجيه السياسات أو الحد من شطحات الساسة.

وفي كل الأحوال فإنه من المفيد أن نرصد الظواهر التي نمت في المجتمع الأمريكي في السنوات الأخيرة ثم تبلورت بشكل أكثر حدة خلال الأزمة، بعيدا عن الأحكام السياسية والأخلاقية، بهدف توقع تداعياتها المحتملة على النظام الدولي وعلينا.

أولا: أبرز الشروخ في المنظومة الأمريكية:

توزيع الثروة :تشير الإحصاءات السابقة على أزمة الكورونا التي نشرتها org إلى أن أغنى 1% من الأمريكيين يمتلكون 42.5% من الثروة القومية، في الوقت الذي توضح فيه البيانات الصادرة عن هيئة الإحصاء الأمريكية لعام 2018 أن 38.1 مليون من الأمريكيين يعيشون تحت حد الفقر. وقد ترتب على هذه الفجوة التي أخذت تزداد اتساعا منذ عام 1995 (وفقا لدراسة أعدها معهد بروكنجز) تفاقم حالة الاستقطاب السياسي وتعاظم تأثير اليمين الشعبوي من جهة، واليسار الاشتراكي من جهة أخرى، على حساب الوسط في الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء. ومن المتوقع أن تتسع هذه الهوة بسبب الأزمة،مع ظهور الرابحين والخاسرين من جرائها، واتضاح أن نسبة الوفيات بين الفقراء تتعدى نسبتها بين الأغنياء، فضلا عن ارتفاع البطالة إلى 14.7% في إبريل 2020 (وفقا لإحصاءات وزارة العمل الأمريكية) ليصل عدد العاطلين عن العمل إلى 23.1 مليون في ذات الشهر، ثم ليرتفع عدد المتقدمين بطلب دعم البطالة في نهاية مايو 2020 إلى 40 مليون. ومما لا شك فيه أن هذه الأوضاع ستسبب مزيدا من الاضطراب في السياسة الداخلية الأمريكية في المستقبل المنظور.

التوازن بين التيارات الداعمة للانفتاح على العالم وتلك المتبنية للسياسات الانعزالية: وهي ازدواجية معروفة في السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أن وصول الرئيس ترامب للحكم ببرنامج يميني شعبوي، ثم أزمة وباء الكورونا، قد رجحتا كفة التيار الانعزالي، خاصة بعد أن عمل الرئيس بشكل ممنهج على تحميل منظمة الصحة العالمية والصين مسئولية انتشار الوباء في الولايات المتحدة، لأغراض انتخابية من جهة، وأخرى انتخابية واستراتيجية فيما يتعلق بالصين. ويتناقض هذا الرفض العام للنظام الدولي بشكل واضح مع عدم القدرة على التخلي عن المزايا التي يوفرها، مما يخلق حالة من عدم الاتزان في التوجهات الخارجية الأمريكية.

الهجرة: الولايات المتحدة – كما هو معروف – دولة مهاجرين، وقد ظلت الهجرة أحد أهم روافد النهضة الأمريكية، ومن عناصر قوة إقتصادها، إلا أن مسألة الهجرة تحولت في الفترة الأخيرة إلى أحد أبرز قضايا السياسة الداخلية بعد أن سيستها التيارات الشعبوية، وحرص الرئيس ترامب على استغلال مناخ أزمة كورونا من أجل اتخاذ إجراءات جديدة للحد من المهاجرين، علاوة على الإجراءات غير المسبوقة التي سبق له اتخاذها بالفعل، مما يضاعف من المناخ الانعزالي بصفة عامة.

الدولة في مواجهة الفرد، والحكم الفدرالي في مواجهة الحكم المحلي: فرضت الأزمة خيارات دقيقة بين سياسات الإغلاق لاحتواء الوباء، والتعايش معه لإنقاذ الاقتصاد، مما أبرز حالة التجاذب القائمة في المجتمع الأمريكي بين الداعمين لقيام الدولة بدور نشط لتحقيق الصالح العام، والذين يريدون تقليص دور الدولة إلى أقصى حد ممكن، كما برز التجاذب بين سلطات الحكومة الفدرالية وصلاحيات الولايات والمحليات، فشهدت الساحة الأمريكية مظاهرات واقتحامات مسلحة من قبل المنتمين لليمين المتشدد من جهة، ومواقف متحدية للرئيس الأمريكي من قبل بعض حكام الولايات، وسياسات متباينة طبقت على مستوى المدن طبقا للظروف المحلية من جهة أخرى.

المنهج العلمي في مواجهة الخرافات ونظريات المؤامرة: انعكس التباين الأيديولوجي القائم بين االتيارات الدينية الأصولية والتيارات المعتدلة واللادينية، وأيضا المواجهة بين جماعات اليمين العنصرية والأقليات من جهة أخرى، عن انتشار الخرافات ونظريات المؤامرة، والتي شجعها للأسف حالة الاستقطاب السياسي الحاد، مما كشف حجم التباين الأيديولوجي والثقافي في المجتمع الأمريكي، والأرجح أن الفجوة بين تلك التيارات ليست في طريقها للتسوية بل ستتسع بشكل خطير.

خيار الفاعلين الاقتصاديين بين سياسات المحافظة والمخاطرة: كشفت الأزمة المخاطر التي تأخذها الشركات بهدف تحقيق هوامش الربح الكبيرة والسريعة من خلال تعظيم عنصر الكفاءة efficiency ، والتي تتطلب في كثير من الأحوال الاعتماد على خطوط عالمية دقيقة ومعقدة للإمداد، علاوة على مديونيات كبيرة، بينما تعاظمت فرص الصمود للشركات التي انتهجت سياسات لا تجعلها عرضة للتغييرات المفاجئة resiliency، ومن المتوقع أن يتجه الكثير من الفاعلين الاقتصاديين إلى سياسات تحد من المخاطر في ظل الأزمة المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين، وحالة عدم الاستقرار العامة المتوقعة في المستقبل القريب.

الخيارات الكبرى: اجتاحت أزمة الكورونا الولايات المتحدة والعالم في الوقت الذي عانى فيها النظام الرأسمالي من أزمة مفاهيمية، وكانت أسئلة كثيرة مطروحة حول قابلية النظم الاقتصادية الحالية على الاستمرار، لاعتمادها على النمو والاستهلاك دون أن تأخذ اعتبارات السلامة البيئية وجودة الحياة الإنسانية في الإعتبار بالقدر الكافي، وقد طرح الخيار الجدلي بين صحة الاقتصاد وصحة البشر هذه الأسئلة بشكل غير مباشر، وهو الأمر الذي سيؤدي حتما إلى إعادة تعريف مفاهيم الأمن القومي، ما ينعكس على الخطوط الرئيسية للإنفاق العام، ويطرح أكثر من سؤال مؤجل حول الإنفاق العسكري الأمريكي المبالغ فيه، مقارنة بالإنفاق الاجتماعي.

ثانيا: اسقاط التوجهات السابقة على مرحلة ما بعد الأزمة:

من الواضح أن النظام السياسي الأمريكي في أمس الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد على شاكلة الـ New Deal الذي أنقذه في الثلاثينات من القرن الماضي، إلا أن المناخ السياسي الحالي لا ينبئ بتبلور توافق حول مثل تلك الخطوة في المستقبل القريب، مما يشير إلى استمرار اضطراب السياسة الداخلية الأمريكية في المرحلة القادمة، ويترتب على ذلك إعلاء اعتبارات السياسة الداخلية في عملية اتخاذ القرار، والاستعداد في هذا الإطار للتضحية بتلك العلاقات والتحالفات الخارجية التي لا تلبي احتياجات ملحة ومباشرة.

على الصعيد الدولي، يعد الصعود الصيني أهم التحديات الاستراتيجية التي تواجه الولايات المتحدة، وقد انعكس ذلك في سياسة التوجه الأسيوي التي أعلنها الرئيس السابق أوباما Asia Pivot ، ثم تبلور بشكل أكثر مباشرة في استراتيجيتي الأمن القومي والدفاع الوطني التي أصدرتهما إدارة ترامب في بداية عهدها، وأيضا في النزاع التجاري مع الصين، والصراع بشأن تكنولوجيا الجيل الخامس من الاتصالات، وتشديد الرقابة على نقل التكنولوجيا إليها، ومؤخرا في التقرير الصادر عن البيت الأبيض في 20 مايو 2020 بشأن العلاقات الأمريكية الصينية والذي ينظِّر لمرحلة جديدة من المواجهة مع الصين. وفي الوقت الذي يتضح فيه أن الهجوم العنيف الذي شنه ترامب على الصين أثناء أزمة الوباء كان لأغراض انتخابية بالدرجة الأولى، إلا أنه استند إلى تيار غالب لدى المؤسسة الحاكمة للتحرك بشكل أكثر فاعلية لتعطيل النمو الاقتصادي الصيني، والحد من الاعتماد عليها بوصفها مركز الصناعة العالمي الأول، واحتواء نفوذها السياسي المتنامي، مما ينبئ بما يشبه الحرب الباردة الجديدة، الأمر الذي سينعكس سلبا على المناخ الدولي برمته.

وعلى الصعيد الاقتصادي من الواضح أن الأزمة ستضاعف من صعود شركات تكنولوجيا الاتصالات والبرمجيات العملاقة، وتحدث ثورة في الصحة والتعليم من خلال توظيف أنظمة تكنولوجية متطورة، وتضفي ميزة نسبية على القطاعات والشركات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي والروبوت على حساب العمالة الكثيفة، كما أن صعوبة التنبؤ بما هو قادم ستدفع الشركات والصناديق الاستثمارية لتبني سياسات حذرة بصفة عامة، ومن جهة أخرى فإن أجواء الحرب الباردة الجديدة مع الصين(أو مع محور روسي – صيني) قد تفرض على الشركات إعادة ترتيب سلاسل الإمداد التي تعتمد عليها، مع صعوبة توقع إنهيار نظام العولمة بشكل كامل لتداخل المصالح وسلاسل الإمداد بشكل يرفع تكلفة تفكيكه تماما.

ثالثا: المناخ العالمي في مرحلة ما بعد الأزمة:

في الوقت الذي تعددت فيه توقعات مراكز البحث بشأن الأوضاع فيما بعد الأزمة، اعتمادا على إسقاط الظواهر التي يمكن رصدها حاليا على الأوضاع في المستقبل، من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن الأزمات العالمية الكبرى السابقة أسفرت عن تحولات تعدت في كثير من الأحيان ما كان يمكن توقعه من خلال آلية الاسقاط projection، حيث أن مثل هذه الأحداث توِّلد نقلات نوعية في المفاهيم ذاتها paradigm shifts،فتطرح أفكارا وبدائل لم تكن واردة في السابق.

ومن الملاحظ أن الوباء الحالي يأتي في إطار مجموعة من التحولات الكبرى التي تجتاح العالم، والناجمة إلى حد كبير عن الانفجار الديمغرافي (ارتفاع تعداد السكان العالمي من مليار واحد عام 1800 إلى 1.6 مليار عام 1900 ثم إلى 7.8 مليار اليوم)، وما ترتب عليه من مضاعفة معدلات إستهلاك – وتطلعات – البشر من معظم الموارد الطبيعية مرات عدة خلال تلك الفترة، وقد أدى النشاط البشري لاختلال التوازن الطبيعي مسببا ظواهر سلبية مختلفة (تغير المناخ – بوادر موجة جديدة للإنقراض الجماعي للكائنات الحية – الانتشار السريع للأوبئة – هجرات بشرية كبرى بأشكال شرعية وغير شرعية – اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء على المستويين الدولي والمحلي)، وبينما فتح التقدم العلمي والتقني المذهل في نطاقه وسرعته آفاقا جديدة، وفرصا عديدة لتلبية الاحتياجات المتصاعدة، فإنه فجر سلسلة من الثورات المتداخلة في أنماط الإنتاج والإتصال والحرب، وفرض قفزات نوعية مفاهيمية وتحولات اجتماعية عميقة، أدت إلى تفتيت للثقافات وتمزيق للهويات وخلخلة لكيان الدولة الوطنية، وهو المناخ العالمي الذي ظهرت فيه أزمة كورونا، بما ينبئ بأن هذه الأزمة لن تكون الأخيرة، بل من المحتمل أن تليها أزمات عالمية أخرى في صور متنوعة، وقد تتداخل أكثر من أزمة في نفس الوقت.

الأمر الملفت للنظر أن التوجهات التي تتبلور في الولايات المتحدة حاليا تميل إلى الانكفاء على الذات وتفضيل الحلول الأحادية، ولفظ التعاون الدولي والالتزامات الجماعية، والتملص من الدور والمسئولية القيادية التي اضطلعت بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وإعادة انتاج مناخ الحرب الباردة في ظروف مختلفة تماما، وهو مدخل غير عقلاني بالمرَّة نظرا لأن غالبية التحديات والأزمات القادمة ستكون ذات طابع عالمي عابر للحدود، بما ينبئ بصعوبة المواجهة الفعالة للموجات القادمة من الأزمات، وتسببها في مزيد من التدهور وعدم الاستقرار، وهي مرحلة ستستمر حتى تصبح الولايات المتحدة والمجتمع الدولي أكثر تقبلا لضرورة بناء منظومة عالمية جديدة.

رابعا: التفاعل المصري مع الأوضاع المتغيرة:

تؤكد المؤشرات أن الولايات المتحدة ستظل في قلب النظام العالمي بغض النظر عن التقلبات الطارئة في مزاجها الداخلي، وستظل العلاقات المصرية الأمريكية محققة للمصالح المصرية وعنصرا أساسيا للحفاظ على حد أدنى من الاستقرار في منطقتنا، وللحفاظ على تلك العلاقات علينا العمل على توسيع دوائر علاقاتنا داخل المؤسسة الأمريكية، دفاعا عن مصالحنا من جهة، ولمواجهة تحركات القوى الإقليمية المناوئة لنا من جهة أخرى، وسيتطلب ذلك توظيف عناصر دورنا الإقليمي والدولي، واستخدام قوتنا الناعمة بشكل أكثر تطورا وعلى نطاق أوسع مما اعتدنا عليه.

من المهم في الوقت ذاته أن نتوسع في تنويع علاقاتنا الاقتصادية والأمنية، والحد من اعتمادنا على أي طرف بعينه.

من الضروري في كل الأحوال أن نهتم بتنمية قدراتنا الذاتية، مع التركيز على الجوانب الإنتاجية والبحثية، وهي التي لا تنهار تماما في مناخ عدم الاستقرار، وأن نكون مواكبين للتطورات السريعة المتلاحقة على الصعيد الاقتصادي والتكنولوجي، وتوظيف التكنولوجيات الجديدة لإحداث ثورة في الإدارة العامة والتعليم ومنظومة الرعاية الصحية.

تتيح التوقعات بقيام الشركات الكبرى بإعادة تقييم خطوط إمدادها لتقليل اعتمادها على الصين، والحد من الاستثمارات الجديدة بها، فرصا مهمة لنا، وخاصة بالنسبة لفرص جذب الاسثمارات العالمية، والصينية أيضا، لمنطقة قناة السويس، مع أهمية البدء في الإعداد المبكر لذلك.

يجب علينا من جهة أخرى أن نكون مستعدين لاحتمالات تخفيض المساعدات الخارجية الموجهة لمصر بما في ذلك المساعدات الأمريكية بأنواعها.

وعلى الصعيد الدولي، لا يجب أن تثنينا التوقعات بمرحلة مقبلة يتسم فيها النظام الدولي بالسيولة وتسوده روح المواجهة عن التفكير في شكل وخصائص النظام العالمي الجديد الذي نأمل في تشكيله ولو بعد حين، والتخطيط المبكر لسياساتنا، والدعوة إليه، والعمل النشط على تشكيل تجمعات جديدة مع الدول المشتركة معنا في المصالح لتحقيق هذا الهدف بالصورة التي تلبي إحتياجاتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهات نظر الكاتب ولاتعكس بالضرورة رؤية المجلس المصري للشئون الخارجية.