أقنعة الرواية السياسية

"الثوار زحفوا طويلاً، زحفوا من الواقع، مثلما زحفوا من قلب الروايات، ومن كتب التاريخ والفلسفة،  ومن النكات والمُلح، وكتب الفكر والكتب المقدّسة،  ومثلما زحفوا أيضاً من المقابر والغرز والعشوائيّات"(1)
شهلا العجيلي أكاديمية سورية


دقة المصطلح ورحابة التطبيق

يُفهم الأدب السياسي في الغرب، على أنه ذلك الأدب الذي يتخذ من جدلية العلاقة بين الحاكم والمحكوم موضوعا له، مع التأكيد على أن هذه العلاقة تتجلى في موضوعات شتى، تشتبك بالواقع السياسي مثل: القضايا التي تتعلق بالفساد السياسي والممارسات الحزبية، وحقوق المواطنة والحق في العمل، وغير ذلك من الموضوعات التي تدخل في صميم العلاقة بين الإدارة السياسية للدولة والمواطن، وهى بطبيعة الحال، قد قطعت شوطا كبيرا في نظمها الديموقراطية، وتعبر عن نفسها خلال قنوات قانونية مثل صناديق الانتخابات أومن خلال برامج الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، لذلك، فإن الحاجة للأدب السياسي، ليست ملحة بوصفها فنا أدبيا، بقدر ماهى قناة مضافة للتعبير عن الرأي في نمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم. كما يمكن تحديده في أطر فنية بسيطة على نحو مايذهب الناقد الأمريكي ( جوزيف بلونتر)"*"، حيث يرى أن الأدب السياسي لابد أن يتخلص من تقنيات الأقنعة مثل: الرمز والإسقاط، ليكون أقرب إلى المباشرة. وتعتبر السخرية والكشف عن المفارقات اللاذعة ضرورات فنية تستهدف القارئ وتحريضه. بهذا المعنى ، فإن الأدب السياسي ـ في الغرب ـ يحدد ملامحه ويعرف نفسه على نحو مستقل، كما يحدد وظيفته على نحو واضح، إنها استهداف الجمهور وتحريكه، بمعني أنه يتجاوز التحفيز واستنهاض الوعي إلى التحريك لحيز الفعل..  إنه أدب تحريضي  بكل مواصفات الدعاية والتحريض.

غير أن حال الواقع السياسي ـ العربي ـ يختلف اختلافا جذريا، نظرا لوطأة طرائق المراقبة وأساليب القمع فضلا عن غياب الشفافية، ونتيجة لهذا الوضع بدا الحراك السياسي ـ نفسه ـ أكثر التباسا واشتباكا مع واقع الحياة اليومية ومن ثم أكثر تعقديا في رؤية الكاتب الروائي له، سواء من حيث العلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو من حيث تأثير هذه العلاقة  على الحراك المجتمعي في أبسط صورة الإنسانية، حتى أن العلاقات العاطفية تبدو شديدة الاشتباك بالواقع السياسي على نحو مانجده في مجمل كتابات بهاء طاهر فالأنثي تحضر بوصفها رمزا لوطن مستحيل، محبط ومنفي ( قالت ضحى ـ الحب في المنفى.. ). وفشل العلاقات العاطفية والإخفاقات الجنسية يتحولان ـ في كثير من الأعمال الأدبية ـ إلى رمز يعكس أزمة المثقف العربي  واغترابه، وقد جسدت أعمال إبراهيم صموئيل هذا المعني كما نجد في قصة (المقبرة ) من مجموعة (رائحة الخطو الثقيل )"2"، فالمناضل السياسي مؤرق بملاحقات أمنية طوال الوقت، ولكنه  ـ في نهاية الأمر ـ إنسان، له احتياجاته الطبيعية، أما أزمة بطل هذه القصة فهى البحث عن مكان آمن، يلتقي فيه حبيبته بعيدا عن عيون الرقباء، لحظة يخلع فيها ثوب المناضل ليكون إنسانا فحسب، فالعسس في كل مكان والخوف يملأ الشوارع والبيوت، يفكر في الاختباء داخل مقبرة مع حبيبته، لكن المقبرة مكان لايصلح إلا للموت. هكذا تصبح الحياة .. مجرد الحياة الطبيعية أمرا مستحيلا في وطن تستبد به طرائق القمع السياسي. وهذا المعنى يتكرر في صور شتى، حينما يصبح جسد المرأة مرادفا للوطن، إنه الوطن المستحيل أحيانا، وفي أحيان أخرى، هو الوطن المغتصب.

يمكننا، في سياق المقارنة بين الأدب السياسي في مفهومه الغربي، والممارسة العربية له، أن نتفهم وجه نظر ( آلان روجرز) "3" عن شحوب الأدب السياسي في الثقافة العربية، مفسرا ذلك بغلبة أشكال النفي والحصار والمطاردة، بل وتقطيع الأرزاق التي تمارس على الكاتب العربي، حتى أن كاتبا مثل ( حنا مينا ) يضطر للعمل مرة حلاقا وأخرى حمالا ليتكسب قوت يومه.

لقد تفهم ( روجرز ) أسباب شحوب الأدب السياسي على نحو ما يفهمه ناقد أمريكي، لكنه، لم يدرك حجم الحضور المراوغ والملتبس للمعني السياسي في الأدب العربي. حتى أصبح حاضرا بين السطور وبصفة شبه دائمة في كل نص.  وإلى هذا المعني تشير الناقدة ( فريدة النقاش )"4":  إلى نوعين من الهجرة يدفع الكاتب إليهما قسرا، الهجرة خارج الوطن، والهجرة داخل الذات في آلاف من الأقنعة ومن الأسماء المستعارة، والمخابئ المجازية والعزلة الإجبارية عن الجماهير، التي هى بمثابة المنبع الحقيقي لمادة الأدب السياسي.

 تجليات الخطاب السياسي

ما نخلص إليه هنا، أن هذه الوضعية المعقدة والمراوغة للموضوع السياسي وضعته بين موقفين متخالفين:

ـ أنه حاضر بشكل شبه دائم في الأدب العربي.

ـ أنه لايصل ـ على نحو كاف ـ لجمهور القراء. ومن ثم يفقد هذا الحضور قيمته في كثير من الأحيان.

لهذا، فإن القطع بوجود رواية سياسية في الأدب العربي على نحو خالص ومستقل كما يحدده ( جوزيف بلونتر ) يبدو مستحيلا، ومن الأجدى أن نبحث عن تجليات الخطاب السياسي في الرواية العربية، بدلا من البحث عن رواية سياسية. فربما تتقاطع هذه التجليات مع أنماط أخرى للرواية أكثر استقرارا وشيوعا، بل وأكثر رحابة في استضافة التجليات السياسية وأكثر إمعانا في إخفائها بين ثناياها ودهاليزها الفنية الثرية. ويبدو أن هذا التصور، يفسر لناـ أيضا ـ  قلة استخدام مصطلح ( الرواية السياسية ) في الدراسات النقدية العربية، لقد عنى النقاد باصطلاحات أكثر دقة وخصوصية داخل النوع الأدبي الواحد كقولنا: الرواية الاجتماعية، أو رواية الخيال العلمي أو الرواية التاريخية... وغير ذلك، و في المقابل استخدموا مصطلح ( الأدب السياسي) للإشارة إلى شيوع الموضوع السياسي وتسربه في مجمل الأنواع الأدبية.  قد يكون المصطلح أقل دقة، ولكنه يعنى: تجليات الخطاب السياسي في الأدب.

 فالباحث الفسطيني (إبراهيم طه )"5" يطرح تصوره عن الأدب السياسي باعتبار طبيعة الخطاب أو وجهة النظر التي يتبناها الكاتب ويدفعنا إلى أن نتبناها معه، لذلك فالأدب السياسي ـ بطبيعته ـ دعائي ومنحاز، إنه ينطلق من أيديولجيا واضحة، تسعى إلى إقناع القارىء بعدالة موقفها، ومن ثم التأثير فيه وتغييره، بغض النظر عن الأساليب المستخدمة، سواء كانت إخبارية مباشرة، أو مختبئة وراء أقنعة فنية، لكنها في النهاية ، يجب أن تبعث برسائلها للقارىء على نحو مؤثر.

إن المفهوم الذي يطرحه ( إبراهيم طه) يبدو أكثر رحابة واتساعا، بحيث يجعل الرواية فضاء قادرا على استيعاب الخطاب السياسي في مستوياته المختلفة: المباشرة والفنية، وبهذا المعني يقبل أساليب أدبية مختلفة، سواء قامت على أدوات رؤيوية وتحليلية أو انفعالية غنائية أو خطابية تحريضية . وعليه، فإن الباحث، في معرض بحثه عن الأدب السياسي، لايستقصي أنماط النوع الأدبي، إنما يستقصي أنماط الخطاب في العمل الأدبي،  بحيث يمكننا التعرف على المعني السياسي في الرواية حتى لو لم يكن متمركزا في بؤرة السرد بوصفه موضوعا. وقد حدد الباحث إنماط الخطاب السياسي في ثلاث علاقات، تمثل كل علاقة طرفي صراع على النحو التالي:

1ـ نمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم (الشّعب والسّلطة)

 من حيث اهتمام الكاتب بفضح أنظمة الحكم، وممارساتها القمعية من اعتقال ونفي وتعذيب، ويكفي الإشارة إلى أن شيوع هذا النمط، أكسب الأدب السياسي تصنيفات أكثر خصوصية مثل : أدب المنافي وأدب السجون. والرواية التي تتعرض لنمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم تلجأ عادة إلى أساليب وتقنيات غير مباشرة في تسريب خطابها إلى القارئ، فرواية ( الزيني بركات )  " 6" لجمال الغيطاني ، تقدم نفسها بوصفها رواية تاريخية، مستوحاة من وقائع حقيقة جرت في الفترة قبيل سقوط دولة المماليك في قبضة الدولة العثمانية، تلك التي تولى فيها ( بركات بن موسى) منصب والي الحسبة. تتعرض الرواية لأشكال الفساد السياسي في تلك الفترة، حيث تحولت دولة المماليك إلى صورة مقيتة للدولة البوليسية، يتفشى فيها شراء الذمم والخيانات والمؤامرات وعمليات المداهمة والسجن والتعذيب في أبشع صوره. وعبر القناع التاريخي يتمكن الكاتب من الإسقاط على الحاضر، بالإشارة إلى نظام الحكم البوليسي في مصر إبان فترة كتابة الرواية. 

وإذا كانت رواية الزيني بركات قد اختبأت خلف قناع التاريخ لتمرر مقولاتها الفاضحة للأنظمة اليكتاتورية، فإن رواية ( تلك الرائحة ) " 7" لصنع الله إبراهيم  تمثل انعطافا هاما في سرد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، لأن ثمة مقومات على قدر كبير من الأهمية ميزت هذه الرواية، فهى تصدر عن تجربة شخصية عاشها الكاتب في معتقلات الحكم الناصري ( معتقل الواحات) وهو معتقل مخصص ـ أصلا ـ لعتاة المجرمين، ولكنه في ظل نظام قمعي يتحول إلى معتقل سياسي. وقد تمكن الكاتب من رصد آلاف التفاصيل التي تعطي القارئ صورة حية عن الممارسات اللإنسانية التي تتجاوز التعذيب والاعتداء الجنسي إلى القتل بأبشع الصور تحت سمع وبصر إدارة السجن. ولعل التجربة المعيشة، فرضت على كاتبها أسلوبا معينا في كتابتها، فالجمل سريعة ومتواترة واللغة خشنة خادشة، لاتستغرق في المجاز ولا تتوه في تلافيف بلاغية معقدة، إنها كتابة أقرب ما تكون إلى تسجيل الأحداث وهى مازالت تنبض بالوحشية والقسوة والألم، لهذا فالرواية تقدم لنا تجربة السجن في أقصي درجة من العنف اللغوي، لتكون شهادة حية على نمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم عامة، وبين المثقف والسلطة خاصة.

2ـ نمط العلاقة بين الأمّة والاستعمار.

 حيث يظهر موضوع العلاقة بين الشرق والغرب على خلفية إمبريالية تعكس ممارسات العدوان، وتفضح أطماع الغرب وأساليبه العديدة في الاستحواذ على مقدرات الشعوب، ومن ناحية أخرى تبين درجات الوعي والقدرة على مقاومة أشكال الهيمنة.

وتمثل ( موسم الهجرة إلى الشمال ) منعطفا هاما في مسار الرواية التي ترصد نمط العلاقة بين الشرق والغرب الاستعماري، حتى أنها اعتبرت نموذجا عالميا لرواية ( مابعد الاستعمار ) وأسست لفرع جديد، ليس في مجال الدراسات الأدبية فحسب، بل وفي مجال الدراسات الثقافية أيضا.

وقد ظهر نمط العلاقة بين الأمة والاستعمار على نحو واسع في الرواية التاريخية، لكنه لايستخدم التاريخ بوصفه قناعا يتخفى خلفه ليسقطه على الحاضر، بل بوصفه نموذجا مضيئا يحظى بسبق الاحترام لدى القارئ، إن كاتب الرواية التاريخية الذي يعالج نمط العلاقة بين الأمة والاستعمار، يعرف جيدا مزاج النوستالجيا العربية، وتقديرها للماضي الذي يرقى إلى القداسة، بما يعجل القارئ مؤهلا لاستقبال رسائل النص، التي تستهدف إيقاظ الوعى القومي، وتستعيد صور البطولات وحكايات المقاومة الشعبية.

3ـ نمط العلاقة بين الفرد والمجتمع.

 وهو النمط الأكثر شيوعا والأكثر تعددا في زوايا النظر وفقا لأيديلوجيا النص، كأن يعكس صراع طبقات المجتمع وطوائفه ،وهيمنة رأس المال وانتشار الفساد في مؤسسات الدولة، وهذا النمط يتجلى في الرواية الاجتماعية على نحو بازغ، ويتداخل في مفاصلها كافة، بحيث لايمكن الفصل بين ماهو سياسي وماهو اجتماعي. بما يشير إلى تعقد الموضوع السياسي في الواقع العربي واشتباكه بمفردات الحياة اليومية للإنسان العربي،. كما يمكن ملاحظة حضوره في رواية السيرة الذاتية والمكانية على نحو ما نجد في روايتي: الخبز الحافي لمحمد شكري وشرق المتوسط لعبد الرحمن منيف.

وأهم ما يميز هذا النمط : اتساع افقه السردي باتساع الواقع المعيش ومتغيراته، بما يجعله فضاء مناسبا لابتكار طرائق وأساليب فنية جديدة، تفيد ـ في نفس الوقت ـ في تمرير الخطاب السياسي بمستجداته. فأحداث سياسية كبرى مثل: الحروب الطائفية والصراعات العرقية، فضلا عن تفشي ظواهر سياسية مثل الأرهاب وغير ذلك، تجد مساحة مناسبة لمعالجتها في هذا النمط

وتوقفنا رواية ( حمار بين الأغاني ) "8" للكاتب اليمني ( وجدي الأهدل) على نموذج ناضج لحضور هذا النمط الذي ينتمي إلى الرواية السياسية. فالكاتب يسرد لنا حكاية لثلاث نساء ( ثائرة وزينب وأروى ) ، وهن نماذج مختارة بعناية للمراة اليمنية الحديثة التى امتلكت وعيها بذاتها بفضل التعليم ، فثائرة شابة جميلة ، دارسة للماجستير ، على قدر كبير من الوعى بذاتها وبقضايا مجتمعها ، ولكنها تحت تأثيرات التقاليد القبلية والفقر ، تضطر للزواج من عضو البرلمان العنين المسن والذى لم يحظ بأى قدر من التعليم ، لكنه لايتردد أن يتكلم بسم اليسار ويشعل حماس الناس بخطبه الرنانة ويقدم الوعود الطيبة، فى حين نراه شخصا رجعياً فى أفكاره وممارساته. ومن ثم فهو يمثل شكلا من أشكال التناقض والعقم فى المجتمع، على أن ضلوع هذه الشخصية فى العمل السياسى يكسبها بعدا أعمق، ودلالة كلية تنسحب على الأوضاع السياسية برمتها، ومن ثم يحافظ المؤلف على حضور هذه الشخصية طوال الرواية، إلى جانب حضور شخصية أخرى هى شخصية ضابط شرطة الحى . الذى يظهر بوصفه اللاعب الحقيقى وراء الستار، والمحرك لكل الأحداث على نحوما نكتشف فى النهاية، وكأن الشكل السياسى الزائف المتمثل فى عضو البرلمان، ليس سوى مجرد أداة فى يد العسكر الحاكمين .

والرواية ترصد لتجليات الأزمة السياسية داخل اليمن متمثلة فى الصراعات الحزبية والقبلية التى تنتهى بالحرب بين الشمال والجنوب، ومن ناحية أخري بممارسات سلطوية لرجال الشرطة، فضابط الشرطة يتعمد لصق التهم بالمواطنين، ويقوم بإعدامهم بعد حبك سيناريوهات مضللة ينشرها على الناس، مستغلاً الجهل والنزعات الذكورية والعصبيات القبلية العمياء للمجتمع . فيما نكتشف أن ضابط الشرطة متورط بنفسه فى حوادث القتل التى أقام الحدود بشأنها .كما تعرض الرواية لممارسات التيارات الظلامية فى اليمن التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى أرض مباحة للجماعات الإرهابية، وهكذا فالرواية فاضحة لممارسات القمع المختلفة التى تمارس على المواطنين والبسطاء، ستغلين الجهل والفقر الذي يحيق بهم ويحولهم إلى كائنات داجنة.

 التحولات

في مصر، زادت الحاجة إلى الاختباء وراء أقنعة السرد بعد ثورة يوليو وهيمنة العكسريين على كل مقاليد الحكم في البلاد طولها وعرضها، مما حدا بالروائيين إلى ابتكار وسائل أسلوبية وتقنيات جديدة، إمعانا في تضليل الرقيب السياسي، حتى يصعب القطع بوجود بوجود مستقل للرواية السياسية في مصر خلال عقدي الخمسينيات والستينيات. إذ ظلت هذه التسمية، جهداً تأويليا خالصا، ووقفا على النقاد والمشتغلين بالأدب.

وقد استمرت هذه التقنيات منذ الجيل الأول للروائيين أمثال: " إحسان عبد القدوس وفتحى غانم ونجيب محفوظ " تراكم أساليبها المراوغة لتمرير خطابها السياسي بطرائق شتي، لتنتقل إلى روايات الجيلين الثاني والثالث كما نجد عند: " جمال الغيطاني ويوسف القعيد وصنع الله إبراهيم وبهاء طاهر وغيرهم" وفي هذا السياق. وصلت الرواية السياسية غاية من التركيب الدلالي والتعقيد الفني في نهاية الثمانينيات، ومن ذلك نذكر رواية ( زهور سامة لصقر)" للروائي أحمد زغلول الشيطي. التي أمعنت في لغة مجازية، لاقت هوى كبيرا لدى النقاد الماركسيين، تعاطفا مع أيديولوجيا النص وتوجهاته، في وقت، كان ـ فيه ـ الأدباء الجدد يتأهبون لاستقبال التسعينيات بلغة أكثر شفافية، وبالبعد عن الخوض  في الموضوعات والقضايا الكبرى، والاهتمام بتفاصيل الحياة وتراكمات الواقع المعيش بكل موضوعاته، ومن بينها الموضوع السياسي، بوصفه واقعا اجتماعيا وهما من هموم الحياة اليومية. منفلتا من المعاني الأيديولوجية الكبرى.

ومن الطريف أن تمتد آثار الأقنعة الفنية في الرواية الاجتماعية إلى رواية عدت من أبرز روايات الألفية الثالثة وهى رواية ( عمارة يعقوبيان) لعلاء الأسواني. فالرواية تذكرنا في بنائها وأساليب الإسقاط فيها، برواية ميرامار لنجيب محفوظ. غير أن هذه الرواية لاقت مقروئية واسعة لأسباب عدة لا تهمنا هنا، لكن ما يهمنا هو أن الرواية نجحت في تشخيص الواقع السياسي على نحو واضح وشفاف رغم نزوعها إلى الواقعية الاجتماعية، قد يعود هذا لبساطة الأساليب اللغوية التي تقف في كثير من الأحيان عند المستوى الإشاري، ونزوعها للمباشرة التي ألقت بظلها على لغة الحوار فبدت طويلة وصريحة قدر الإمكان. قد يكون ذلك، نتيجة لللاستخدام السطحي للرمز، ليشير ـ بما لايدع مجالا للشك الفني ـ إلى وقائع وشخصيات يعرفها القارىء ويعاصرها. حتى كاد أن يكون الهم الأول لقراء هذه الرواية ـ ومن واقع متابعة شخصية لمستويات التلقي لها ـ هو التعرف على المشهد السياسي سواء بوقائعة الشهيرة أو بشخصياته الأكثر شهرة، هكذا بدت الرواية نفسها مرجعية للواقع وأكثر كشفا ووضوحا له. فبعد أن كان الواقع مرجعية للرواية السياسية، صارت الرواية السياسية مرجعية للواقع. وكأن الرواية في رصدها للواقع، ولغتها بالغة الإيحاء، قليلة الالتباس، صارت منافسا قويا ومعادلا فنيا لبرامج ( التوك شو ) التي تبثها الفضائيات لفضح وتعرية المشهد السياسي. على أية حال، حققت ( عمارة يعقوبيان ) تداولا قرائيا واسعا بين فئات مختلفة من القراء، أكثرهم لم يكن على علاقة وثيقة بالإبداع الأدبي. بما يعني، أن الواقع السياسي أصبح ضالعا في ثقافة الحياة اليومية، ولم يعد هما مقصورا على النخبة من المثقفين والسياسين. لقد صار الشارع العربي سياسيا بامتياز، والناس أصبحت تدرك الموضوع السياسي إينما كان، سواء على صفحة جريدة أو على قناة تلفزيونية أو على شبكة الإنترنت، أو في رواية، مادام الخطاب متواصلا مع وعى الناس ومعبرا عن همومهم السياسية التي تمس حياتهم اليومية.

لهذا، لا أجدني مبالغا أن أقول: إن رواية ( عمارة يعقوبيان ) مثلت لحظة فارقة في تاريخ الرواية السياسية العربية. هذه اللحظة بدت وكأنها تنهي تاريخ الاكتناز بتقنيات وأساليب الرمز والإسقاط والتعبير المجازي، وتبشر بولادة جديدة لها من ناحية أخرى، ولادة أو تخارج من رحم الرواية الاجتماعية التي حملتها لما يزيد عن نصف قرن.

قد يبدو هذا معقولا، امتثالا لفروق التوقيت بين الرواية السياسية الغربية ومثيلاتها العربية، ولم يكن من قبيل الصدفة، أن شهدت السنوات الأولى للألفية الثالثة ـ وحتى الآن ـ دفقا مثيرا وموجها نحو رواية سياسية في المقام الأول، أكثر تخففا من الالتباس برواية الواقعية الاجتماعية وروافدها ، ومن ثم أكثر انغماسا في الواقع السياسي وكشفا له، لتقف على حدود المباشرة في كثير من مواضعها على نحو ما نجد في رواية ( تماره ) للكاتب رامي المنشاوي ( دار الناشر ـ 2008) والتي تسببت في اعتقال كاتبها لفرط مافيها من مباشرة حتى كادت تكون دليل إدانته في التحريض على نظام مبارك.

غير أن الغالبية العظمى من الروايات السياسية في الألفية الثالثة ، كانت تدرك هويتها الفنية، وكان عليها أن تمارس موائمات فنية عديدة، بين وضوح المعني السياسي، وجماليات المعنى الأدبي، وتكتشف ـ لنفسها ـ طرائق جديدة في التعبير لا تجهد القارئ بغموضها ولا تحرمه ـ في نفس الوقت ـ من متعة الفن وجماليات التشكيل السردي.

 وكثير من هذه الروايات، اعتمد كتابها على خبرات وتجارب عاشوها بانفسهم، من خلال ارتباطهم بتنظيمات وأحزاب سياسية، أو انخراطهم في منظمات حقوقية، فامتلكت الرواية روحا شديدة الواقعية مجسدة لخبرات دقيقة وتفصيلية من واقع أقسام البوليس والتظاهرات والتجمعات السياسية فضلا عن متابعات إخبارية موثقة من محاضر الشرطة وملفات القضايا والصحف. وقد أفادت رواية ( تماره) من هذه الخبرات على نحو مباشر، كما أفادت منها رواية خليل أبو شادي ( شوق ) التي صدرت عن دار صفصافة ( 2010)

وثم فضاء آخر أفادت منه الرواية السياسية، وهو الفضاء الافتراضي على شبكة الأنترنت، سواء على مستوي التقنيات والأساليب المستعارة منه، أو على مستوي الخبرات القرائية والمعرفية بالموضوع السياسي. وهو فضاء اتسم بمناخ أكثر تحررا لبعده عن المراقبة والملاحقة الأمنية، كما أنه أكثر انفتاحا على القضايا العربية والعالمية، بما يخّلص الرواية السياسية  العربية من محليتها.

وفي هذا الصدد، نذكر رواية ( إيميلات تالي الليل ) "9" وهى رواية مشتركة بين كل من : الروائي المصري ( إبراهيم جاد ) والكاتبة العراقية ( كلشان البياتي )، فقد قدما تجربة فريدة في الرواية السياسية، حيث استعارت الرواية أسلوبي: المحادثات في غرف الدردشة والرسائل على صفحات البريد الأليكتروني، فالرواية كلها عبارة من محادثات بريدية متبادلة بين شاب مصري ( حسن ) وفتاة عراقية ( منار ) والقارئ يمكنه أن يعرف أن هذين الاسمين، مجرد اسمين افتراضيين ( nick name ) للكاتب والكاتبة، وهو عرف شائع على مواقع الإنترنت أن يقدم الناس أنفسهم باسماء افتراضية.. والرواية على هذا النحو التفاعلي تتناقل همومها وقضاياها السياسية في فضاء سياسي عام، وإنْ تمركز حول غزو قوات التحالف للعراق، بما يعكس اتساع وعي المثقف العربي بتعقد الموضوع السياسي الذي أصبح يتجاوز حدود العلاقة بين الحاكم والمحكوم، نتيجة لتعقد المصالح السياسية وتشابكها في ظل سياسات العولمة وأساليب الهيمنة الجديدة التي لم تعد تطال المواطن العادي في نمط معيشته الاقتصادية فحسب، وإنما أثرت ـ إلى حد كبير ـ في نمط الثقافة التي يعتبرها المثقف خطا أحمر وأخيرا لمقاومة الهيمنة الاستعمارية، وهو شأن يتماس بقوة مع البعدين العربي والقومي، وهما بعدان أصيلان في الرواية السياسية العربية، التي استقطعت جهدا كبيرا في قضايا الاستعمار ومواجهة الأطماع الصهيونية في فلسطين، ومن ثم يمكن القول: إن هذه الرواية ( ايميلات تالي الليل ) حققت تغذية جديدة للرواية السياسية مستفيدة من النمط التفاعلي الذي ميز برامج التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت.

كما أن الرواية عكست ـ على نحو واسع ـ أزمة المثقف العربي، سواء على مستوى عزلته المفروضة عليه وأغترابه عن واقعة من ناحية، أو على مستوى توتر العلاقة بينه وبين السلطة الحاكمة من ناحية أخرى، ومن ناحية ثالثة، استوعبت أنماط التغيير الواسع في المشهد السياسي العالمي.

و ما نخلص إليه هنا، أن الرواية السياسية في مصر، ولاسيما مع بداية الألفية الجديدة، قد طورت نفسها في مسارات جديدة ومستقلة عن رواية الواقعية الاجتماعية التي بدأت منها، ووجدت لنفسها موضوعات جديدة ذات صبغة عالمية. وكثير منها غالي في استقلاليته ونزعته السياسية الخالصة، وهى نزعة لازمت السنوات الأخيرة قبيل ثورة 25 يناير، لتعكس حدة الغضب وسخونة المعارضة لنظام مبارك. وربما نتيجة لهذا الواقع الملتهب في السنوات الأخيرة، فضلا عما ذهبنا إليه من تطور سريع لحق بالرواية السياسية، انتهى إلى استقلالها عن رواية الواقعية الاجتماعية، ولم يعد غريبا أن نجد رواية تتوجه بقصدية مباشرة إلى المعني السياسي،  بدون أختباء وراء أقنعة سردية، إنها تفصح ـ في كل مناسبه ـ عن مقصدها الذي لايكون بالضرورة الفن ولا التوثيق ولا حتى التوقيع بشهادة كاتبها على عصره، بل بهدف مركزي لا يمكن تجاهله، وهو التحريض.

 من الاحتجاج إلى التحريض

في هذا السياق ينبغي أن نفرق في مباحثنا عن الأدب السياسي ـ الذي عاد بقوة في السنوات العشر الأخيرة ـ بين خطاب الواقعية النقدية التي تستهدف التغيير عبر عمليات صغرى من الجدل الاجتماعي باختلاف طبقاته وشرائحه، والخطاب التحريضي الذي يستهدف التغيير الثوري، الذي رافق السنوات العشر الأخيرة من نظام مبارك..

فالأول: له اتساع الرؤية وديمومة الأثر، بوصفه كاشفا وناقدا للعلاقة العضوية بين الحراكين السياسي والاجتماعي. إنه خطاب تنموي، إصلاحي أكثر منه ثوري، أشبه بوقفات احتجاجية، تستهدف شحذ الوعي، وتنشد التغيير الذاتي، ومن ثم، فهو خطاب موجه إلى الطبقة الأعمق في الوعي، ويتسلل إليها عبر شروط جمالية وبلاغية.

الثاني : ينطلق ـ بالضرورة ـ من مخطط تعبوي، مستهدفا القاريء على نحو مباشر، وفي سبيل ذلك قد يستعين الكاتب بكل الحيل الممكنة، لهز وعي القاريء، وشحذ مشاعر الغضب، وتحفيز الرغبة في التغيير الثوري. ومن ثم، قد يتغاضي الكاتب ـ قليلا أو كثيرا ـ عن مواضعات الفن السردي ومواصفات الخطاب الأدبي ولغته، ولكنه يدرك ـ في نهاية ـ الأمر أنه بصدد عمل روائي، يستلزم الشروط الأساسية لوجوده، بوصفه عملا فنيا.     

وفي رواية ( الحب والزمن ) "10" لا يتردد ـ سعيد سالم ـ في شحن روايته بكثير من حيل الاستهداف التحريضي، سواء تلك التي ترقى إلى مستوى التشكيل السردي في صوره الفنية والتعبيرية والرمزية، أو تلك التي تتاخم حدود المباشرة التعبوية في نماذجها التسجيلية والتوثيقية، فضلا عمّا يفيد به من لغة اليوميات والتقارير والرسائل والمقالات الصحافية سواء تلك التي ترد بنصها وبأسماء كُتّابها، لتضفي سمتا توثيقيا صريحا، أو تلك التي يشير إليها أو يقتبس منها على سبيل الاستشهاد.

 وفي هذا الصدد، سنجد نصوصا كاملة ومنقولة عن: تقارير لمنظمات حقوقية وأحكام قضائية وتصريحات لسياسيين وتعقيبات إخبارية وعبارات مختارة وردت في كتب أو مقالات أو برامج تلفزيونية. لقد بدت الرواية، في جانب كبير منها، بحثا موثقا عن الوضع السياسي لمرحلة كتابتها، لهذا ، لانندهش، حينما نعرف أن الرواية التي كتبت (2006 ) ـ ونشرت على حلقات بجريدة الدستور (2007)، قبل صدورها عن روايات الهلال ( 2011) تتجاوز التحريض إلى استشراف حتمية قيام الثورة كنتيجة لمقدمات الشحن التحريضي. ففي نهاية الرواية سنقرأ مقبوسا من نجيب محفوظ، يأتي على لسان إحدى شخصياته ( عبد ربه التائه )

"ـ متى تنصلح حال البلد؟

ـ عندما يؤمن أهلها أن عاقبة الجبن أسوأ من عاقبة السلامة؟

ـ وكيف تنتهي المحنة؟

ـ إن خرجنا سالمين فهى الرحمة، وإن خرجنا هالكين فهو العدل.""11"

هذا الحوار القصير عند محفوظ، ملهم إلى درجة أنه قد يكون دافعا لكتابة رواية على هذا القدر من الشحن التحريضي والنقد المباشر، خلافا لأقنعة الرمز والإسقاط التي اعتادها جيل الأساتذة ـ امثال محفوظ ـ في أدبهم السياسي. لكن .. لاننسى، أن كلمات عبد ربه التائه، امتلكت من الفاعلية وديمومة الأثر، ما ألهم سعيد سالم لكتابة رواية على هذا القدر من الجرأة والعنف التحريصي.

تنتهي رواية (الحب والزمن) بنبوءة عبد ربه التائه، لتفتح أفقا استشرافياً لحتمية الخروج، مع إقرار بطبيعة المغامرة، وقبول احتمالاتها من سلامة أو هلاك. هذه اللحظة الاحتمالية، بين مسارين متناقضين هي ـ بالضبط ـ نهاية الرواية، أما بدايتها، فتختار لحظة أخرى، لكنها مغامرة ـ أيضا ـ عندما يجد المهندس مراد عامر نفسه على المعاش بعد حياة وظيفية بلا حصاد، فيقرر أن يخلع البدلة ويرتدي الجلباب، ثم يتحول إلى صاحب مقهى، يطلق عليه مقهى الشعب، كأنما يخون طبقته المسترخية، وينحاز للطبقة الشعبية التي راهن عليها لإحداث التغيير، إنه إنصات دقيق لمقولة عبد ربه التائه: " عاقبة الجبن أسوأ من عاقبة السلامة " فهل ثمة مصادفة أم هو التصميم الكلي المسبق لبناء الرواية ؟ ألذي يضع حياة مراد عامر على المحك منذ البداية، إنها لحظة، فاصلة بين مسارين متناقضين في حياة بطلها.. هل ثمة مصادفة ـ مرة أخرى ـ أم هو التصميم الكلي المسبق الذي يجعل الرمز في تسمية المقهى ( مقهى الشعب ) على هذا القدر من الشفافية التي تقف على تخوم المباشرة، إن القارئ العادي، حاضر في ذهن الكاتب، وعليه أن يمرر مقولاته التحريضية بأكبر قدر من الشفافية، وعلينا ـ نحن القراء ـ مراقبة الكثير من الإشارات التي ترد في الرواية لتؤكد التصميم المسبق الذي يطلبه العمل الفني. حتى لاتتحول الرواية التحريضية إلى بيان سياسي أو وثيقة تنظيمية من تلك التي تكتب بالروح والدم.

يقول الراوي مع أول سطر في الرواية:

" أثار قراري المفاجيء بشراء المقهى في أرجاء حياتي العائلية والاجتماعية زوابع عاصفة بين الاستنكار والدهشة والإعجاب والرفض والغضب والقبول المتحفظ"ص"5 ".

كان المهندس ( مراد عامر ) قد أحيل إلى المعاش بعد حياة وظيفية متواضعة، ولكنها مستقرة إلى حد ما، لهذا، يبدو شراء المقهي وارتداء الجلباب بدلا من البذة، وسعادته بلقب ( المعلم ) بدلا من المهندس وصحبته للحرافيش من أبناء السوق. كل هذا يبدو بمثابة ثورة على حياته التي عاشها قبل هذه اللحظة، بكل مافيها من استقرار وظيفي يرقى إلى مستوى الجمود، وفتور يرقى إلى مستوى الإحباط، رافق حياة أسرية مجدبة.

هكذا جعل ( سعيد سالم ) من حياة بطله (مراد عامر ) وتحولاتها معادلا موضوعيا للواقع السياسي الذي تعيشه مصر ، ومعبرا عن الرؤية السياسية التي يطرحها، فضمن للرواية المستوى الفني الذي تمضي عليه في مسار الحياة الشخصية لبطله، سواء من حيث اللغة أو التشكيل السردي، وهذ الضمانة الفنية، أعطت الكاتب الحق في خروجات محسوبة ومقدرة لتفخيخ الرواية بكثير من أساليب الفضح والتحريض المباشرين، وكأنما يعد الرواية كلها للآنفجار في لحظة ما.

لم يكن من قبيل المصادفة ـ أيضا ـ أن يستهل المهندس مراد عامر تلك الحياة بهزيمة وطنية ونفسية هى هزيمة يونيو حزيران 67. في نفس عام الهزيمة تخرج وعين مهندسا وتقدم لخطبة زميلته وحبيبته سميرة، ثم عاش ـ بعد ذلك ـ سلسلة من الهزائم والإخفاقات الصغرى في حياته الوظيفية والأسرية، بلغت ذروتها عندما اضطرت سميرة للعمل في الخليج، بينما بقى ـ هوـ في الإسكندرية يجتر إحباطاته، ماضياً في رحلة اغترابه، يحاول أن يتغلب عليها، مرة بصحبة ندماء البار وأخرى بالحج والتردد على المسجد. كان خط الانهيار يمضى، حتى يقترب من حواف الخيانة مع نرجس، زوجة صديقة مدحت العيسوي. فيما هو يغالب مخاوفه عن ( سميرة ) في رحلة اغترابها في الخليج وما يمكن أن تتعرض له من إغواءات وضعف قد يفضي إلى خيانتها له.

كان شراء مقهى الشعب بعد الإحالة إلى المعاش، بمثابة لحظة فاصلة، بين ماضي الهزيمة، ومستقبل يعد بتغيير لا يعرف كنهه، لكنه يبدأ بحياة جديدة للمعلم مراد عامر، وصحبة جديدة لأدباء اعتادوا التردد على المقهى، وحب جديد لامرأة شابة ( غصون ). ولدينا الكثير من الشواهد على الانقسام الذي حدث في شخصيته، مودعا ما مضي، مستشرفا ماهو آت بكثير من الحذر والترقب، إنها مغامرة، لاتقل خطورة عن مغامرة عبد ربه التائه، باحتماليها: السلامة والهلاك. هكذا ، يمكن ملاحظة التماثل الدلالي، بين بداية الرواية ونهايتها، لندرك أهمية التصميم المسبق لرواية جيدة الصنع. فكل منهما لحظة ثورية بامتياز، دفعته للعودة إلى كتابة يومياته التي كان قد بدأها مع هزيمة 67، ثم توقف مع الوقت، لكنه يكتبها هذه المرة بوعي جديد، وبروح ثورية ترصد مظاهر التحلل والفساد وتفضح ممارسات نظام مستبد.

جاءت لحظة شراء المقهى، بمثابة ثورة على ماضي الهزيمة، وبداية مرحلة من يقظة الوعي والمتابعة لكل حدث أوخبر، ومن ثم، تنقسم اليوميات إلى حركتين مختلفتين تماما يظهران في مسار السرد وتسير كل منهما في خط زمني مختلف:

الحركة الأولى: هى مراجعة الخط الشخصي وتأمله والوقوف على مبررات الفشل. حيث الزمن هنا استرجاعي، والعالم شخصي حميم معجون بالخبرات الشخصية، والعلاقات إنسانية عاطفية، لهذا ، تنزع ـ هذه الحركةـ إلى هيمنة الراوي العليم وشغل مساحات السرد عبر لغة أدبية تنزع إلى تعدد مستويات التشكيل الجمالي.

الحركة الثانية، ترصد مظاهر الانحطاط السياسي، حيث ينزع خط الزمن إلى ملاحقة الحاضر وربما استباقه، وفيه تتوسع مساحات التعبير لتتجاوز اليوميات الشخصية إلى التسجيل والتوثيق والتحليل السياسي، والاستشهاد والاقتباس، ومن ثم تنزع اللغة إلى التقريرية والمباشرة، كما يميل الكاتب إلى الإفادة من تقنيات التحريض ، التي تنمح المؤلف حضورا ـ بذاته ـ في النص، يصل إلى مستوى توجيه الخطاب إلى القارىء لكسر الإيهام على طريقة بريخت، أو الإفادة بنصوص مكتملة لسياسيين وصحافيين مثل: وائل الإبراشي، إبراهيم عيسى، جورج اسحاق، يحى الجمل ... إلخ. وهذا من شأنه أن يعمق الطابع التسجيلي، ويزيد من كسر الإيهام أو التخييل الروائي الذي وجدناه في الحركة الأولى.

إن خطا الزمن يمضيان إلى أقصى حد، غير أن كلا منهما يتضمن لحظة مفصلية، هى بمثابة نقطة الانقلاب الدرامي في حياة مراد عامر، الأولى تأتي في بداية حياته، وتتجسد في يوم استقباله لخبر هزيمة 67 فى عنفوان طموحه لحياة واعدة بعد أن حصل على بكالوريوس في الكيمياء بدرجة متميزة، والثانية في يوم  انتهت رسميا تلك الحياة بقرار الإحالة إلى المعاش.

لكن ، من المهم جدا، أن نشير إلى أن هذا الفصل بين الخطين، هو إجراء نقدي بالأساس، فيما الرواية تعمل على تحريك الخطين في مسار سردي وفني متجانس من غير أن يذوب أحدهما في الآخرتماما. سنشعر ـ طوال الوقت ـ بهذا الفصل نتيجة لتنوع العناوين الداخلية وارتباكها، بين ملفات مرقمة كما نجد في الملفات رقم (2)، فيما لانجد الملف رقم (1) ونجد بدلا منه ملفا معنونا بـ ( الملف الصهيوني)، وثمة اجزاء كثيرة نجدها معنونة باسماء شخصيات من الرواية نفسها، وأخرى معنونة باسماء شخصيات عامة وشهيرة في الواقع. وكثيرا، تزيح هذه الشخصيات الراوي تماما، وتتوجه بنفسها إلى القارىء مباشرة. يحدث هذا في حين أن الرواية تبدأ فصلها الأول( أكبر فصول الرواية ) بدون عنوان، وتدخلنا مباشرة في فضاء السرد الروائي بضمير المتكلم، حتى يطمئن القارىء إلى أننا أمام نمط من السرد التقليدي.

نعزو هذا الارتباك في بناء الرواية، إلى انشغال الكاتب بتوظيف أكبر عدد من الحيل الفنية التي أشرنا إليها سالفا، لكن هذه الحيل، هى المسؤلة عن انتشال الخطاب الروائي من مستنقع الإيهام، والمحاكاة المفضية إلى التطهير، ومن ثم نجحت الرواية في نقل خطابها التحريضي إلى القارىء، عبر كثير من النقلات والصدمات التي مارستها عليه بقسوة، كانت مطلوبة لزوم الاستهداف التعبوي. لم يكن ثمة شيء ناعم ومغو ومستلب في رواية تسهدف هز الوعي يعنف.

وعلى الرغم من مستويات المباشرة والكشف الفاضح لنظام الاستبداد السلطوي، وفساده الممنهج على الأصعدة كافة، فإن الكاتب، لم يتردد في استخدام تقنيات سردية قديمة شاعت في الرواية السياسية، ولعل أبرز هذه التقنيات شيوعا: الرمز والإسقاط. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه التقنيات القديمة رغم شيوعها، مازالت قادرة إضافة لمسات جمالية للعمل الأدبي، على نحو مانجد في

" في صدارة المقهى نظرت إلى صورة حسني مبارك المعلقة، أسود إطارها، وغام زجاجها بفعل الزمن، ودخان المعسل وأبخرة الشاي والقهوة وأنفاس المستسلمين، معالم وجهه كادت ختفي..." "13"

الشاهد السابق، يحضر في النص بقوة الرمز، بوصفه معادلا بصريا للزمن وتأثيراته على مقهى الشعب الذي اشتراه مراد عامر ليبدأ معه حياة جديدة، لكن المفارقة تكمن في أن المقهى بدا قديما ومتهالكا ومستسلما لمصيره بصورة مزرية. ومن ثم، ينعكس هذا على مستقبل مراد عامر نفسه، ويمثل تحديا له في وقت يبحث فيه عن تغيير جذري في حياته.

 وعلى مستوى آخر فصورة رئيس الجمهورية ترمز لشيخوخة النظام وفساده وتحلله، لقد غام زجاج الصورة حتى كاد وجه صاحبها أن يختفي، كأنما هى نبوءة باختفاء النظام كله من المشهد، ضمن عملية تغيير كبرى تحدث في الواقع، وهكذا، يمتد أثر الرمز ليسقط على كل من: الحياة الشخصية لمراد عامر، والواقع السياسي لمصر في لحظة واحدة. وهما الخطان الأساسيان لحركة السرد في الرواية على نحو ما أشرنا سابقا.

إن اللغة، والوصف، على مافيهما من طاقة رمزية وبصرية، يحققان إنتاجا فنيا للدلالة في تراث الرواية السياسية، ولطالما كانت الرواية السياسية في مصر، وعبر تاريخها الحديث، قادرة على إرسال خطابها الفكري والأيديولوجي، ومعبرة عن وجهة نظر كاتبها عبر هكذا تقنيات أعتمد عليها المبدع في خطاب التغيير. لكنها، أمام وضعية مركبة من أشكال التداعي السياسي، وانسداد الأفق، والجمود، الذي عاشه الواقع السياسي إبان السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك، لم تكن كافية، كما لم يكن التغيير نفسه كافيا، بقدر ما كان الاستهداف التعبوي للثورة هو المنشود، ومن ثم ، لامناص من الإفادة من الحيل والتقنيات الأكثر مباشرة ووضوحا من قبيل: التقارير والمقالات والإحصائيات والوثائق، وهو الاتجاه الذي سارت إليه الرواية في الأغلب والأعم من مفاصلها، ربما يقلل هذا من رصيدها الفني والجمالي، ولكنه، بالتأكيد، يحقق الهدف التحريضي، الذي نظن أن الرواية كتبت له. ولا مناص ـ أيضا ـ من رصد واستقصاء دقيق لكل خطايا النظام، فلا يكاد الكاتب يفلت واقعة دون الإشارة إلهيا، كواقعتي الاعتداء على القضاة، او تصدير الغاز لإسرائيل، أوغير ذلك من خطايا النظام، ربما يبدو أن كثيرا منها يقتحم السرد ويهبط عليه من خارجه، ولكنه في سياق التحريض والاستشراف الثوري، يجد ما يبرره.

هوامش:

1ـ شهلا العجيلي: أطباق طائرة ـ مقال عن ثورة 25ينايرـ بجريدة الثورة السورية ـ  عدد 15/2/2011
2ـ إبراهيم صموئيل: رائحة الخطو الثقيل ـ دار الجندي للنشر ـ القدس ـ 1988
3ـ ألان روجرز ـ الرواية العربية ـ ترجمة حصة إبراهيم المنيف ـ المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ 1998.
4ـ السابق.
5ـ إبراهيم طه ـ الأدب والسياسة ـ مادّة محاضرات ـ جامعة حيفاـ كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّةـ قسم اللغة العربيّة ـ العام الدّراسيّ: 2010
6ـ جمال الغيطاتي ـ الزيني بركات ـ دار الشروق ـ القاهرة ـ 2005
7ـ صنع الله إبراهيمـ تلك الرائحة ـ طبعة خاصة ـ 1966
8ـ وجدي الأهدل ـ حمار بين الأغاني ـ سلسلة آفاق عربية ، الهية العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة ـ 2010
9ـ إبراهيم جاد الله وكلشان البياتي: إيميلات تالي الليل ـ دار إيزيس للإبداع والثقافة ـ المحلة ـ 2011
10ـ سعيد سالم ـ الحب والزمن ـ روايات الهلال ـ القاهرة ـ عدد يوليو
2011 
11ـ السابق ص 224
12 ـ السابق ص 5
13ـ السابق ص23
Joseph Leo Blotner : The political novel _  Folcroft Library Editions (1976)   "*"