The Handmaid's Tale

مرّة في الأسبوع، تُعرض علينا الأفلام بعد غداءنا وقبل ساعة راحتنا. كنا نجلس على الأرض في غرفة التدبير المنزليّ، على بُسُطنا الرماديّة الصّغيرة، ننتظر فيما تكافح الخالة هيلينا والخالية ليديا مع أجهزة العرض. إذا واتانا الحظّ، فسوف تعرضان الفيلم مقلوبًا رأسًا على عقب، ممّا يذكرني بما يحدث في فصول الجغرافيا، في مدرستي الثانوية، قبل سنين طويلة، حيث يعرضون علينا أفلامًا عن بقيّة أرجاء العالم. نساء في تنانير طويلة، أو أردية قطنيّة رخيصة ذات طوابع، يحملن حزَم حطب أو سلالًا أو دلاءً بلاستيكيّة مملوءة بماء اغترفنه من نهر أو أيّ مصدر طبيعيّ آخر، يتدلى أطفالهن الرضّع من شالاتهن أو حمّالاتهن الشبكيّة، فيما الأطفال ينظرون إلينا من الشاشة بعيون حولاء، أو مرتعبة، مُدركين أنّ هناك أمْرًا يُفعَل بهم بواسطة آلة لها عين واحدة زجاجيّة، لكن لا يعرفون ماذا. تلك الأفلام كانت ترفّهنا، لكن بقليل من الملل، فقد دفعتني إلى النعاس أحيانًا، حتى عندما يظهر الرجال على الشاشة، بعضلات عارية، يجرفون بعيدًا نفايات صلبة، بجواريف ومعاول بدائية، ويحملون الصّخور. فضّلتُ الأفلام التي تعرض المشاهد الراقصة والغناء وأقنعة طقوسيّة دينيّة، وأدوات نحتها الإنسان بيديه لإصدار الموسيقى: رِيَش، أزرار نحاسيّة، قواقع صدفيّة، طبول. أحببت مشاهدة أولئك البشر في أفراحهم، لا أتراحهم، لا مجاعاتهم، وهزالهم، وإنهاك أنفسهم حتى الموت لتأدية عملٍ بسيط، كأن يحفروا بئرًا أو يسقوا أرضًا، تلك المعضلات التي وجدت لها الأمم المتحضرة حلولًا ناجعة منذ فترة طويلة. ظننْت أنّ أحدًا ما لابدّ أن يقدّم لهم التكنولوجيا اللازمة ثم يدعهم يتصرّفون.

لم تعرض علينا الخالة ليديا ذلك النوع من الأفلام.

بل كانت تعرض أحيانًا أفلامًا إباحيّة صوّرت في السبعينيّات أو الثمانينيّات. نساء راكعات يمصصْن قضبانًا ذكريّة، أو مسدّسات. نساء مقيّدات بسوارَين، أو مغلولات بسلاسل، أو مرتديات أطواقًا حول أعناقهن مثل تلك التي للكلاب. نساء متدليات من أشجار، ونساء مقلوبات رأسًا على عقب وعاريات فيما سيقانهن متباعدة. نساء يُغتصبن، يُضرَبن، يُقتلن. أجبرنا مرّة على مشاهدة امرأة تُقَطّع في بطء: تُبتر أصابعها وثدياها بمقصّ تقليم حدائق، بطنها وأمعاؤها شُلعَت خارجًا.

“فلتتأمّلن البدائل” قالت الخالة ليديا، “هل تدركن الآن كيف كانت عليه الأمور حقًّا؟ هكذا فكّروا في النساء وقتئذ”، وارتعش صوتها في سخَط.

لاحقًا قالت مويرا إنّ تلك الأفلام مزيّفة، وإنّهم صنعوها باستخدام مجسّمات اصطناعيّة. لكن من الصّعب التأكّد من ذلك.

أحيانًا يعرضون فيلمًا من الصّنف الذي تسمّيه الخالة ليديا: وثائقيّ أشباه النساء. “تصوّرن،” قالت الخالة ليديا “أنّهن يزجين وقتهن على ذلك النحو، بينما كان ينبغي عليهن القيام بأعمال مفيدة. في ذلك الوقت، أشباه النساء كنّ دائمًا يضِعْن وقتهن. وكُنّ يشجَّعْن على ذلك. أعطتهن الحكومة المال ليقُمن بتلك المهمّة إيّاها. وأستميحكن، لكن بعض أفكارهن كانت عالية بما لا يدع مجالًا لتفنيدها” تابعَت قائلة، بصوتٍ يمتلئ نبرةً متعالية سُلطويّة لمن هم في موقع يخوّلهم الحكم على الآخرين. “علينا تبنّي بعضها، حتى يومنا هذا. بعضها فقط، أستميحكنّ في ذلك” قالت بطريقتها الخجولة، رافعة إصبعها وتهزّه نحونا. “لكنهن كنّ ملحدات، وهذا يصنع فرقًا كبيرًا، هل توافقْنَني؟”

أجلس على بساطي، طاوية اليدين، وتُزيح الخالة ليديا نفسها خطوة جانبًا، بعيدًا عن الشاشة، فتُطفأ الأنوار. وأتساءل هل أستطيع، في الظلام، الانحناء بعيدًا إلى اليمين دون أن يراني أحد، لأتكلّم همْسًا مع المرأة الجالسة إلى جواري. بماذا سأهمس لها؟ سأقول لها “هل شاهدت مويرا؟” لأن أحدًا لم يشاهدها، ولم تظهر في وجبة الإفطار. رغم أنّ غرفة الفصل معتمة فإنّها ليست مظلمة بالقدر الكافي. لذلك أثبّت تفكيري على ما أرى من لافتة تحذيريّة تطلب من المشاهد الانتباه. لا يُدِرْن الصّوت في هذه الأفلام التي يعرضْنها، ما عدا الأفلام الإباحية. يُرِدْنَ لنا الاستماع إلى الصّراخ والنّخر والتباريح التي إمّا أن تدلّ على ألم مضنى أو لذّة قصوى، أو كليهما معًا، لكنهن لا يرِدْنَ لنا أن نسمع ما تقوله أشباه النساء.

في البدء تظهر شارَة الفيلم، عنوانه والأسماء المشاركة فيه مشطوبة لكي لا نتمكن من قراءتها، ثمّ تظهر أمّي. أمّي الصبيّة، أصغر ممّا تحفظه ذاكرتي لها، فتيّة كما يجدُر بها أن تكون قبل أن تنجبني. ترتدي الملابس نفسها التي تصمها الخالة ليديا بملابس أشباه النساء في تلك الأوقات: مِشمَل جينز مع قميص ذي تقاطعات خضراء وليلكيّة، وحذاءً رياضيًّا. الملابس نفسها التي ارتدتها مويرا مرّة، وهي الملابس إيّاها التي أذكر أنني ارتديتها أيضًا، قبل وقت طويل. شَعرها معقود برباط ليلكيّ ومشدود خلف رأسها. وجهها في أوْج يفاعه، جِدّيّ، وحتى أنّه فاتن. لقد نسيتُ أن والدتي كانت جميلة هكذا وجادّة. إنها بين مجموعة نساء، يرتدين الطّراز نفسه من الملابس. تمسك عصًا، لا، إنه جزء من لافتة، مقبضها. ترتفع بؤرة التصوير، فتظهر كلمات كُتبت بطلاء فوق ما يبدو أنّه قطعة من ملاءة سرير: استعيدوا الليل . لم تُشطَب هذه العبارة رغم أنه لا يُفترض بنا أن نقرأها. شهقت الفتيات حولي، ثمّة انشداه في الغرفة، مثل عشبٍ مشّطته الرّيح. هل كان ذلك سهوًا، هل اختلسنا شيئًا؟ أم أنّه مقصود لكي نتذكر دومًا أن تلك الأيام لم تكن آمنة؟

وراء هذه اللافتة لافتات أخرى، تنتبه إليها آلة التصوير باختصار: حريّة القرار؛ كلّ طفلٍ ثروة؛ استردّوا أجسادنا؛ هل تعتقد أن مكان المرأة خلف منضدة المطبخ؟ وتحت هذه اللافتة الأخيرة ثمّة خطوط تشكّل جسد امرأة تستلقي على منضدة والدماء تقطُر منها.

والآن تتحرك والدتي، تتقدّم، ضاحكة مستبشرة، جميعهن يندفعن متقدّمات، والآن يرفعن قبضاتهن في الهواء. ترتفع آلة التصوير أكثر، إلى السماء، لتظهر مئات البالونات التي تجرّها خيوطها: بالونات حمراء، طُلِيَت على كلّ منها دائرة، دائرة لها ساق مثل ساق تفاحة، لكنّه على شكل صليب. وعندما عادت آلة التصوير إلى الأرض، صارت والدتي جزءًا من الحشد، فلم أعد أراها.

***

“أنجبتك عندما كنت في السابعة والثلاثين من عمري” قالت لي أمّي، “وتلك مخاطرة. كان محتملًا أن تولدي مشوّهة أو مصابة بعاهة ما. كنتِ نِعمةً أرادها الجميع. وهل انصبّت عليّ الخَبَاثات من بعض عديمي القيمة؟ اتّهمتني رفيقتي الأقدم، تريشيا فورمان، بأنني أؤيّد التكاثر ، العاهرة. إنّها الغيرة، هذا ما أعيد اتّهامها إليه. الأخريات كُنّ حسنات معي. لكن ما إن بلغت شهري السّادس حتى أرسلت إليّ بعضهن تلك المقالات التي تقول إنّ معدّل تشوّه المواليد يقفز مرتفعًا بعد سن الخامسة والثلاثين. كأنّ ذلك ما ينقصني معرفته. أيضًا مقالات عن صعوبة تربية طفل في غياب أبيه الدّائم. اللعنة على ذلك الكلام الفارغ، قلتُ لهن. لقد اتخذت قراري وأنا سائرة فيه حتى النهاية. في المشفى شرعوا في كتابة ملاحظة عليّ: خَروسٌ مُسنّة ، لكنّني قبضتُ عليهم بالجُرم المشهود. ذاك ما يطلقون عليك عندما تكونين في أوّل ولادة لك وقد جاوز عمرك ثلاثين عامًا. إنّها مجرّد ثلاثين عامًا بالله! هذا هراء، قلت لهم، فعمري البايولوجيّ هو اثنان وعشرون عامًا، أستطيع قطع مضامير كاملة جرْيًا حولكم في أيّ يوم أريد، أستطيع وضع ثلاثة توائم وأنهض خارجة من المشفى فيما كلّ واحدة منكن ما تزال تحاول النهوض من سرير نومها”.

عندما قالت ذلك كانت قد رفعت ذقنها. أتذكّرها على ذلك النحو: ذقنها مرفوع، وشرابها قبالتها على منضدة المطبخ، لا فتيّة وجادّة وفاتنة كما بدت في الفيلم، بل نحيلة العود يابسه، وشرسة، من ذلك النوع من المسنّات اللواتي لا يسمحن لأحد بالاصطفاف أمامهن في طابور البقالة. أحبّت المجيء إلى بيتي لاحتساء الشّراب فيما أُعِدُّ مع لوقا العشاء، شاكيةً لنا مصاعب حياتها حتى تنقلب الأدوار فنشرع نحن في الشّكوى ممّا يواجهنا. استحال شعرها رماديًّا ذلك الوقت، بالطبع. لكنها لم تكن لتصبغه أبدًا. “ولمَ التظاهر؟” كانت لتقول، “وفي كلّ الأحوال ما الذي سأحتاجه إليه؟ لا أريد رجلًا يعيش حولي، إذ ما فائدة الرّجال سوى تلك العشر ثوانٍ التي يقذفون خلالها المنيّ؟ الرجل هو استراتيجية المرأة لخلق نساء أخريات. لا أقول إنّ والدك لم يكن لطيفًا وما إلى ذلك، لكنّه لم يكن أهلًا لتحمّل مهامّ الأبوّة الحقّة. ولا أقول إنني توقّعت منه الكثير. فقط أنْجِز مهمّتك ثمّ انقلع بعيدًا، قلت له، إنّني أجني أجْرًا شهريًّا حسَنًا، وأستطيع توفير رعاية نهاريّة للمولودة. فرحل إلى السّاحل، واستمرّ يرسل بطاقات معايدة. عيناه زرقاوان جميلتان، لكن ثمّة ما ينقصهما. إذ تبدوان دومًا شاردتين كأنهما لا تعرفان تمامًا هويّتهما. تُطيل عيناه النّظر إلى السماء، تفقدان صلتهما بالأرض. ليستا بجمال عيون النّساء طبعًا، لكنهما أفضل في إصلاح السيارات ولعب كرة القدم، وذلك ما نحتاجه لتطوير الجنس البشري. أجل؟”.

تلك طريقتها في الحديث، حتى أثناء وجود لوقا، وهو لم يمانع حديثها قط، بل يضايقها بادّعاء الذكوريّة القصوى، فيقول إن النساء عاجزات عن التفكير المجرّد، فتتناول كأس شراب أخرى وتكشّر في وجهه.

“خنزيرٌ متعصّب” تقول له.

“ألم يعفُ عليها الزّمن؟”، يقول لوقا لي، فيبدو على أمّي الخبث، كأنّها ستسرق شيئًا.

“أستحقّ ذلك” تقول، “فأنا مسنّة. وسدّدْتُ متأخّراتي، لقد حان الوقت ليعفُ عنّي الزّمن. أمّا أنت فما زلتَ صغيرًا دون تجربة، بيغلت، هذا هو “.

“أما أنتِ” موجّهة الكلام إليّ، “فلست سوى ردّ فِعْلٍ عكسيّ سلبيّ على ما يحدث حولي. أنتِ لمْعة سراب. سيصفح التّاريخ عنّي خطيئة إنجابي”.

لكنها لا تقول كلامًا مثل ذلك إلّا بعد تجرّعها الكأس الثالثة.

“أنتم الشّباب لا تقدّرون ما تعيشونه،” لأكملت قائلة، “ولا تعرفون أو يهمّكم ما تكبّدناه لنصل بكم إلى هذا الحال. انظري إليه وهو يقطّع الجزر إلى شرائح. هل تُدركون العدد الرهيب من النساء اللائي دعستْهُنّ الدبابات فقط لقطع هذه المسافة إلى هذا؟”

“الطّهو هوايتي” لأجابها لوقا، “أستمتع بها”.

“هواية، فِشْتاية! ” لردّت عليه، “لا تقدّم لي الأعذار. كان يا ما كان، في يوم من الأيام لم يكن ليُسمح لك بالاستمتاع بهذه الهواية؛ لأنهم سيتهمونك بالشذوذ الجنسيّ”.

“والآن يا أمي” لقُلت حينئذ، “لا داعي للجدل حول لا شيء”.

“لا شيء!” لأجابت في مرارة، “هل تسمّين ذاك كلّه لا شيء!؟ أنت لا تعرفين، صحيح؟ لا تعرفين أبدًا ما أتحدث عنه”.

ولشَرَعت في البكاء كما تفعل أحيانًا. “أنا وحيدة” لقالت، “لا يمكنكما تصوّر كم كنت وحيدة. حظيتُ بأصدقاء، أجل، كنتُ محظوظة، لكنني وحيدة على أيّ حال”.

لكنني مُعجبة بوالدتي بشكلٍ أو بآخر، رغم أنّنا لم نكن على وفاق دومًا. فقد توقّعت مني الكثير، شعرتُ بذلك. أرادت منّي أن أثبت لها دومًا جدوى حياتها وصحّة خياراتها. لكنني لم أرغب في عيش حياتي وفقًا لها، أن أكون أنموذج الجيل الجديد، أو تجسيدًا لأفكارها. لطالما تشاجرنا حول ذلك. ” لستُ مُبرّرك للوجود”، قلتُ لها مرّة.

أرغب أن تعود. أرغب أن تعود الأشياء كلّها، وكما كانت عليه. لكن لا جدوى منها، هذه الرّغبة.