Multiple Phobias

من التعريفات السائدة لرواية السيرة الذاتية:أنها حَكْيٌ استعاديٌّ نثريٌّ، يَتَّسِمُ بالتماسُكِ والتسلسل في سَرْدِ الأحداث، يقومُ به شخصٌ واقعيٌّ عن وجودِهِ الخاصِّ، وذلك عندما يُركِّزُ على حياته الفردية وعلى تاريخه الخاص، ويُشْتَرَطُ فيهِ أن يُصَرِّحَ الكاتبُ، بأسلوب مباشرٍ أو غير مباشر،ٍ أنَّ ما يكتُبُهُ هو سيرةٌ ذاتيةٌ. فالنص السرديّ يقوم على اقتناص الأحداث الواقعية وبلورتها وتحويرها لتصير كينونة لغوية تحيلها من الواقعي العادي إلى المحتمل الجماليّ في إطار بنية سردية…
ومن هنا يستوقفنا تساؤل عما إذا كان الأدب يُكتَب للمعاصرِين له، أو لمن عاصروا الواقع الذي كان مسرحاً لفضائه المتخيل؟
ولعل رواية السيرة الذاتية هي أبلغ ردٍّ على هذا التساؤل، لأنها تُعَدُّ الشَّكْلَ الأكثر توثيقاً للفضاء الزماني والمكاني، والأكثرَ ضماناً لعمق هذا الفضاء واستمراره على مر الزمان، بل يمكننا القول عموماً إن لرواية السيرة الذاتية قيماً أدبية وفكرية تحوّل التاريخ الذاتي إلى أفق للكتابة يتحدى مجال البوح والاعتراف حين يحوّل ممارسة الكتابة ذاتها إلى وعي مكمّل لإدراك العالم المحيط بالمؤلف خلال مختلف مراحل العمر..
وفى سيرة (رهاب متعدد) للكاتب المغربى عبد اللطيف محفوظ ، الصادرة عن دار نشر فاصلة – طنجة- المغرب ( الطابعة الاولى 2019. والثانية. 2020 ).. يحكي الكاتب عن مرحلة الطفولة ويقتصر على أحداث عاشها بين الثامنة والثانية عشرة (1968-1972)… يقول في بداية النص «كنت في شهر أغسطس من عام 1968.. في الثامنة من عمري».
والملاحظ أنه لم يسرد كل الأحداث التي عاشها خلال هذه الفترة، بل انتقى منها أحداثا منفصلة ومتباعدة، لكنها منسجمة من جهة كونها ولدت في نفسه خوفا من الظواهر المشابهة لها. وقد وصف تأثيرها عليه بـ (رهاب متعدد) ليجعل منها موضوعة تؤطر النصوص الستة المشكلة للكتاب، وتحايث تفاصيل ومغامرات سردها الذي تم بحرفية؛ لتصير، في النهاية، كل حادثة مجسدة لنوع من الرهاب، ويتمظهر ذلك في أغلب العناوين الداخلية: رهاب الماء، رهاب أصص حافات النوافذ، رهاب ملعب الحسن الثاني، حامة مولاي يعقوب، كنت أريد أن أصير جنرالا، ورهاب التحرش… وبهذا التكنيك في نحت محكي الطفولة يمكننا أن نجنس هذا المنجز بأنه مجموعة قصصية، تتضمن كل واحدة منها مغامرات وفضاءات وتصورات تخصها، وتجعلها تكتفي بذاتها من جهة البناء ولا تتشارك مع غيرها إلا النهاية الموحدة التي تجسد نوعا من أنواع الرهاب الذي يصيب الذات جراء التجربة.
كان اختيار محفوظ لهذه الحوادث اختيارا ذكيا، جعله يقبض على أحداث بعينها، منطلقا منها إلى سرد بعض من فترات طفولته التي أثرت في نفسيته بقية العمر.
إن اختيار مفردة «رهاب» تحيل إلى الاختلال النفسي الذي يصيب البعض بـ (فوبيا) الأشياء، أو الأماكن، أي الخوف الذى يتمكن من إنسان بعد تعرضه لحادث ما، يؤثر على سلوكه، فمثلا رهاب/ فوبيا الخوف من/ الماء، تجعله يستحضر حادثة إشرافه على الغرق حين باغته طفل بدفعه الى بركة عميقة وهو لا يعرف السباحة، وتم إنقاذه بأعجوبة ولطف من لله: «ومنذ ذلك اليوم أصبت برهاب الماء، ولم تعد تفارقني، لسنوات، صور الموت كلما رأيت بركة أو سدا أو نهرا».
وحادثة سقوط أصيص الورد على رأس صديقه جواد، التي جعلته يسير في منتصف الطرق، يقول: «صرت أرقب النوافذ والشرفات التي بها أصص، صرت على الرغم مني، أمشي لسنوات طويلة وسط الشارع، أزاحم السيارات وأترك الأرصفة الفارغة خوفا من مصير جواد»؛
ورهاب ملعب الحسن الثاني، وحادثة سقوط صديقه المُقرب إدريس الذي قفز من أعلى الشجرة ليسقط مصابا، إصابة جسيمة خلفت لديه عاهة مستديمة، وكانت النتيجة أنه فقد صداقته، كما فقد نشوة اللعب يقول: «لم يعد يخرج الى الزقاق، ولم أعد بدوري، ألعب به، كي لا أحرجه إذا مر مصادفة ورأى عافيتي التي تذكّره بعافيته التي صارت ماضيا بفعل ضربة قدر قاسية، منذ ذلك اليوم لم أعد الى ملعب الحسن الثاني».
إن استخدام محفوظ لهذه الحوادث، جعله يتذكر ملابسات وتفاصيل على هامشها، وخصوصا منها ما نتج عنها رهاب متعدد… وانطلاقا من الخاص الى العام يسرد لنا الكاتب حدثاً سياسياً عاصره في طفولته، إنه انقلاب 1971.. الذى جعله يتراجع عن رغبة كانت لديه في أن يصير جنرالا، حيث قرر، متأثرا بالحدث، العدول عن الالتحاق بالمدرسة العسكرية، وتنازل عن أمله الذى راوده في أن يصير جنرالا: «فهمت لأول مرة معنى الانضباط العسكري الذى يقضي بأن ينفذ الأدنى رتبة أوامر من هو أعلى منه رتبة، وبدا لي هذا غير ملائم لي(…) كيف أمتثل لأمر شخص آخر بقتل نفس بريئة في غير ميدان الحرب. بدأت أغير رأيي في الالتحاق بالمدرسة العسكرية… «وهكذا صار يتصرف كراشد وليس كطفل، فمزق أوراق الالتحاق.
ولم يوافنا محفوظ بتفاصيل الانقلاب، بل حكى عنه بوعي طفل، وهنا تتجسد مصداقية الكاتب وشفافية كتابته واحترافيتها، فقد كان واعيا تمام الوعي بأنه يسرد محكي الطفولة، فجاء سرد حدث الانقلاب من وجهة نظر محفوظ الطفل، يقول: «وفجأة انقطع الإرسال من جديد، فأخذ إسماعيل يتنقل بين إذاعات لندن والقاهرة والجزائر وليبيا، وفجأة وقع على إذاعة طنجة الجهوية التي كانت تطمئن المواطنين، وتخبرهم أن الانقلاب باء بالفشل …»
ولكنه لم يستطع في بعض الأحيان أن يتخلى عن محفوظ الراشد الذى يسرد سيرة الطفل/محفوظ، إذ نجده يحلل بعض المواقف والسلوكات، باستحضار محفوظ/الراشد الذي يقوم بدور المحلل النفسي، فنجده يفسر ردة فعل محفوظ / الطفل إثر إصابة صديقه إدريس، وحزنه عليه، بأنها حالة تطهير. إنه يفسر ويبلور تجارب الطفل التي لم يكن يدركها آنذاك. ومن المواقف والحوادث الأخرى التي يفسرها ويعطيها مسميات دالة، تعلقه بمدينة فاس التي افتتح الفصل الأول بذكرها؛ فالطفل أحب فاس، ولكنه لم يدرك هذا الحب الذي يصل حد قول (لم أولد بمدينة فاس، ومع ذلك لا أحب غيرها، أعُدُّهٓا مدينتي، ولو كره الكارهون، ولو تٓقٓوّل العنصريون).كما نجده يفسر فكرة الزمن البرزخي بين الحياة والموت بعد انقلاب السيارة في حادثة الطريق إلى حامة مولاي يعقوب …الخ.
يبدو من خلال التفسير والتعليق والتحليل المؤطر للمواقف والأحداث والحوادث التي نجم عنها رهاب متعدد، كما لو كان محفوظ/ الراشد، يقوم مقام الطبيب النفسي المعالج لرهاب محفوظ/ الطفل…
لقد شخص الكاتب مجمل أحداث سيرته بلغة سلسة بعيدة عن المحسنات والفذلكة البلاغية، والإغراق في الوصف والتفاصيل. كما توسل بتقنية الاسترجاع، فقدم لنا الكاتب، بشكل مكثف، سردية / شهادة على عصر، انطلاقا حيوات متواضعة عاشت في حقبة اتسمت بالبساطة وسيادة القيم الأخلاقية والإنسانية التي اندثرت على نحو ما نتيجة تحول العالم إلى قرية كونية، تسود فيها قيم العولمة المادية، والتقدم التكنولوجي والاتصالات، التي غذّت الأنانية، والانكفاء على الذات، وعدم المشاركة الاجتماعية والمجاملات، والاتصال الفعلي بين الأصدقاء، بل وحتى بين العائلة الواحدة. على خلاف هذه القيم قدم لنا نوستالجيا جميلة تتمثل في تلك العلاقات بين الأسر، والعائلات، والجيران، وبين الأطفال تحديدا. ومن اللافت أنه مررها من خلال تعامل الأطفال أثناء الألعاب التي عدد أهمها (الخذروف والعصاقيل، ولعب للورق.. وغيرها)، والتي اختفت بفعل استبدالها بمواقع التواصل الافتراضي المختلفة، لتحل بدورها محل العلاقات الحميمية بين الأهل وبين الأصدقاء -كما أسلفت-..
وبذلك الصنيع جعلنا نرصد تلك القيم التي كانت سائدة في الستينيات والسبعينات من القرن الماضي، بمدينته فاس التي اصطحبنا فيها عبر شوارعها وأحيائها، وأزقتها (باب الفتوح، باب الحمرا، ضريح بو غالب، وجنان السبيل وغيرها…) فوصف لنا العلاقات الاجتماعية، بين الأهل، وبين الجيران. ورصد صور التضامن والتحاب التي كانت سائدة، وشخص الطفولة المرحة، والأسمار، واللعب في زوايا الحي، وفوق أسطح المنازل، ولحظات الطيش والشغب الذي كان يثير الضحك أحيانا، ويغبط جيلا ويثير حنينه أحيانا، فيدعوه إلى تذكر هذه الحياة الدافئة بحنين وارف.
استخدم الكاتب ضمير المتكلم، وأشار في العتبة الاولى للنص/ العنوان، إلى أن نصه هو سيرة طفولته، فجاء هذا موافقا لعقد فيليب جلون في سياق كتابة السيرة ذاتية.
أما بالنسبة للغة فقد استخدم محفوظ لغة فصحى سلسة، وإن كانت مخترقة ببعض جمل العامية المغربية التي تلفظت بها امه أحيانا، ووالده أحيانا أخرى في بعض الحوارات؛ وهنا يُحسب على الكاتب عدم ترجمة هذه التعبيرات والمقولات المغربية حتى تفهم من قبل المتلقي العربي…
ولا بد في النهاية من التنويه باختيار الكاتب مرحلة الطفولة ثيمة لقصصه السيرية، لأنها تؤسس للمراحل اللاحقة، فنشأة الطفل هادئاً، أو مشاغباً، متعلما أو جاهلا، اجتماعياً أو منعزلا… الخ تعود، في الغالب، إلى تلك المرحلة.