من إبداعات ورشة الكتابة

Leaving the Coccoon

وجد رجل فراشة في شرنقتها تجاهد لتدفع جسدها من خلال ثقب صغير الى الخارج. بعد فترة وجيزة بدا أنها عاجزة عن الذهاب أبعد مما فعلت. قرر أن يساعدها فشق بالمقص الجزء المتبقي من الشرنقة. هكذا خرجت الفراشة بسهولة، لكن بدا جسدها متورما وجناحيها صغيرين ذابلين. راقبها متوقعا أن يكبر الجناحان ويمتدا إلى أن يصبحا قادرين على دعم جسدها، لكن هذا لم يحدث.

عندما قرأت هذه المروية تذكرت أول مرة تركت فيها منزل العائلة للعمل خارج مصر. كان عليّ أن أسكن وحدي في شقة صغيرة، وأن أقوم بنفسي بالأعمال المنزلية مثل الطبخ والترتيب والتنظيف وغسل الملابس. لم تكن لدى خبرة بهذه الأمور مثل غالبية جيلى من أبناء الطبقة الوسطى في ذلك الوقت، فكان في بيتنا دائما مساعدة أو اثنتين للقيام بهذه المهام تحت إشراف أمي رحمها الله. أقصى ما كنت أستطيع عمله، وبعد حث شديد ونُصح من والدتى، أن أسخن قطعة من الخبز وأضع بها جبن أو بيض مقلي. في شقتي الجديدة حاولت لمدة شهرين أن أقوم بأعمال المنزل ثم استسلمت بطلب الطعام الجاهز واستخدام شركة تنظيف مرتين أسبوعيا وإرسال ملابسي إلى المغسلة.

تذكرت أيضا أني لم أكن أتدرب على العمل في العطلة الصيفية خلال دراستى الجامعية، بل كنت ألهو مع أصدقائي على شواطئ البحر. كان ذلك في نهاية الثمانينات ولم يكن من اللائق اجتماعيا – باستثناءات قليلة جدا – أن يعمل الابن ما دام يدرس، حتى لا يظن الناس أن ولي الأمر لا يفي باحتياجات الأسرة. كما تصور غالبية أولياء الأمور أن رفض عمل أبنائهم راحة لهم من مشاق العمل ووقاية من صعوباته، وأن الابناء سيجتهدون ويكتسبون الخبرة ويتحملون المسئولية بمجرد أن يخوضوا معترك الحياة العملية. أما نحن الأبناء فكنا سعداء بهذه التبريرات. وعندما بدأت وظيفتي احتجت بضعة شهور لأتعلم بديهيات النظم الإدارية، والكثير من الوقت لاستيعاب خباياها والتعرف على نوايا أطرافها وتنافُسيتهم. مضت نحو ثلاث سنوات حتى بدأت أشعر إني تمكنت من أساسيات عملي وأتقنت أدواته وفنياته. بعدها فقط بدأت في تطوير أساليبي ومنهج التعامل مع حالات العمل المختلفة. الكثير من معارفي احتاجوا إلى وقت أطول، والتنقل بين أكثر من وظيفة، للوصول إلى هذه المرحلة، بينما تطلبت قلة منهم فقط وقتا أقل.

أسترجعت من جهة أخرى، تجنيب معظم أبناء جيلي الخوض في المشاكل الأسرية والقضايا العامة، بحجة أن الأفضل نفسيا للأبناء البعد عن التوترات والضغائن حتى لا ينظروا للحياة من زاوية سلبية. هذه ذريعة، وإن كانت تبدو مقنعة فى ظاهرها، قد تم المبالغة في توظيفها. فالأبناء، عند بلوغهم العاشرة أو أكثر أو أقل قليلا، يشعرون بالخلافات والمشادات الأسرية والأزمات المالية مهما حاول الأباء إخفاءها. تغييب الأبناء عن المشاكل، أو عدم اشراكهم فيها بأسلوب مبسط يناسب أعمارهم، يجعلهم يظنون أن المشاكل تُحَل بدفنها، خاصة عندما يشاهدون رجوع علاقة آبائهم وأمهاتهم إلى سابق عهدها دون أن يعرفوا كيف أو لماذا. فيبدأ الأبناء اقتداء بأهاليهم، في تغييب الأهل عن مشاكلهم، ويخسرون بوصلة التوجيه الصادق. يضاف إلى هذا إنهم يعتمدون على أسلوب ”الدفن“ في علاقاتهم مع كل من حولهم بدلا عن اللجوء الى المصارحة والمناقشة، تاركين أنفسهم لسوء الظن والتفسيرات المقولبة المريحة للـ "أنا“. ومع مرور السنوات يألف الأبناء هذا الأسلوب حتى يصبح منهج تعايش يصعب التخلي عنه أو تبني غيره. ونفس الأساليب والمعايير والنتائج تنطبق على أمور الشأن العام، ناهيك عن عدم الخبرة وقلة الحيلة في مواجهتها أو حتى التفاعل معها.

لم تكن لأبناء جيلي مسئوليات (مفترضة) تذكر خلال فترة الطفولة والمراهقة والشباب إلا الدراسة، ولكنها لم تكن كافية لإشغال عقولنا، فالعقل البشري له طاقات كبيرة ومتعددة، لا تكتفي بالاهتمام بشأن أو مجال واحد. وفي ظل غياب المسئوليات والمهام الجادة يشعر الأبناء بالضجر، ويتجهون لا شعوريا للبحث عن أمور يفرغوا طاقاتهم بها. ونظرا لقلة خبرتهم وعدم وجود ترغيب كاف في نشاطات رياضية وثقافية، يلجأون إلى إشغال عقولهم في أمور ثانوية وشكلية، قد ترضى رغباتهم وغرورهم، ولكنها لا تسمن مهاراتهم الحياتية ولا تغنيهم عن مفاهيم سطحية، معظمها ملتو بالتعريف.  
    
شاهدت جيلي وجيلين من الجنسين من الطبقة المتوسطة والعليا، قبلي وبعدي، وهم يترعرعون وسط هذه الأفكار والأجواء، وهي طبقات يستحوذ المنتمين إليها على غالبية المناصب القيادية والوظائف التنفيذية، سواء آنذاك أو في السنوات التالية. ومن متابعتي للشأن العام هذه الأيام، وبالتحاور مع المعارف وتصفح السوشيل ميديا، لم ألحظ تغييرات جوهرية طرأت على الوضع العام. في تقديري الحسي، وليس الاحصائي، لم يحدث إلا تحسن طفيف في مفاهيم بعض الأهالي بشأن إكساب الأبناء المهارات الضرورية لمواجهة صعوبات وتقلبات الحياة وكيفية التغلب عليها. وعلى جانب آخر زاد عدد المساعدين والمربيين في منازل الطبقة العليا، التي في أغلب الأحوال تضمن لأبنائها مناصب رفيعة ومربحة، وتوفر لهم مستوى معيشة مماثل لما شبوا عليه.

ما لم يفهمه الرجل الذي شق الشرنقة، إنها كانت البيئة الضرورية لخلق روح العزيمة التي كان مطلوبا من الفراشة إظهارها كي تنفذ من خلال الفتحة الصغيرة. كانت الطريقة الوحيدة التي تمكنها من ضخ الدم من جسدها إلى جناحيها كي تستطيع الطيران، فإن لم تقم بهذه المهمة البسيطة، كيف لها أن تتعامل مع متطلبات وتحديات الحياة خارج الشرنقة؟

المسئوليات والتجارب والصعوبات مصادر لتكوين العزيمة عند الإنسان، والعزيمة هي لوح التزلج الذي يمتطيه لعبور أمواج رحلة الحياة المتقلبة. ولو كنا نعيش حياتنا بلا مشاكل ولا منغصات أو عقبات لأصابنا الشلل والعجز، ولما كنا أقوياء .. ولما استطعنا الطيران.