Freedom in Christianity

من التأملات التي راودتني اليوم ونحن في أسبوع الآلام فكرة لا يتعرض لها الوعظ الديني المسيحي كثيراً، وهي أن السيد المسيح وقف في موقف مناويء للسلطتين الدينية والسياسية في زمانه ومكانه، سلطة الكهنة اليهود الذين حاربوه وخشوا من تعاليمه المخالفة للسائد من شرائعهم، فكان يقول دائماً، قالوا لكم (كذا وكذا) أما أنا فأقول لكم (من ضرب علي خدك الأيمن فأدر له الآخر) -كمثال -
كما عارض السلطة السياسية الممثلة في الحاكم اليهودي أولاً ثم الحاكم الروماني فوقه، رغم أنه قال اعط ما لقيصر لقيصر، إلا أنه وقف في النهاية أمام الحاكم الروماني بيلاطس، دون أن يدافع عن نفسه بكلمة، بما معناه عدم اعترافه بشرعية محاكمته، ومع هذا أعلن الحاكم الروماني أنه لم يجد أي جريمة ارتكبها هذا الانسان البار، وترك الخيار للقادة اليهود أن يختاروا حسب العادة من يطلق سراحه الحاكم في عيد الفصح، وسألهم هل أطلق لكم سراح يسوع، فصاحوا قائلين لا بل اصلبه، اصلبه، واختاروا أن يطلق لهم سراح المجرم المخضرم بيراباس وليس يسوع، إلي هذا الحد كان خوف ورفض وكراهية القيادة الدينية اليهودية للسيد المسيح ورسالته الثائرة علي تعاليمهم الجامدة والغير إنسانية والمخالفة للمشيئة الربانية.
إذن هي حقيقة أن السيد المسيح وقف موقفاً مناوئاً أمام السلطتين الدينية والسياسية السائدتين في عهده مقدماً الكلمة فقط، فلم يكن يتزعم جماعة تريد فرض أي شيء بالقوة، فقط قدم فكراً جديداً، يخرج الانسان من عبادة مظهرية تعتمد علي ما يدخل فم الإنسان من مأكل ومشرب يقرر الكهنة اليهود ما هو الحلال وما هو الحرام منه، إلي فكر يرتفع فوق الماديات والجسديات فيقول ليست القضية ما يدخل فم الإنسان ولكن ما يخرج منه،
وكان هذا يمثل إنقلاباً فكرياً خطيراً يهدد السلطة الدينية التي لن يصبح من حقها في هذا الفكر الجديد أن تقرر للناس ما يأكلون ويشربون، ويصبح التدين علاقة روحية خالصة بين الانسان وخالقه، ولهذا أدرك كهنة اليهود مدي الخطر الذي يمثله هذا الفكر الجديد، وتربصوا بالسيد المسيح الذي كان يلقبه الناس ب"المعلم" فلم يكن يملك سوي تقديم الفكر الجديد، ومنه أيضاً رفضه عادة رجم الزانية، وتوبيخه للرجال الذين كانوا يريدون رجمها قائلاً من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولاً بحجر، فانصرفوا جميعاً، فقال للزانية لم يدنك أحد ولا أنا أيضاً فاذهبي ولا تخطئي مرة أخري، ولك أن تتخيل كيف سيفقد القادة اليهود سلطتهم حين لا يعود في مقدورهم الحكم علي الخطاة ورجمهم أمام الناس فكيف يتسلطون علي العباد إذن؟
بجانب اهدافها الروحية كان للرسالة المسيحية إذن هدفاً واضحاً هو تحرير الانسان من براثن السلطة الدينية للكهنة والقيادات الدينية، ولم يهاجم المسيح أحداً بقدر ما هاجم بل لعن هذه القيادات الباغية التي كانت تتحكم في العامة، ورغم طباعه النقية المتسامحة المسالمة فقد وصفهم السيد المسيح ب"أولاد الأفاعي"، كما أنه لم يأت بفعل غاضب سوي حين رأي تجار ألدين ينصبون موائد البيع والصرافة في ساحة المعبد بموافقة الكهنة وبالإشتراك معهم، فقلب عليهم الموائد وطردهم بالقوة قائلاً قيل بيتي بيت الصلاة يدعي وأنتم جعلتموه مغارة لصوص.
إذن رغم أن رسالة السيد المسيح هي رسالة سلام ومحبة، ولهذا يلقب بملك السلام، إلاً أنها أيضاً وفي الأساس رسالة تحرير وحرية، ولهذا وقفت في موقع مضاد للسلطتين الدينية والسياسية السائدتين في ذلك الزمان، ولكل سلطة متسلطة في كل زمان، ولكن لن تسمع هذه الفكرة كثيراً في الوعظ الديني الذي لا يريد التركيز علي الجانب التحرري في الرسالة المسيحية، ويركز أكثر علي جانب الطاعة والخضوع و "إبن الطاعة تحل عليه البركة"، فكل سلطة سواء دينية أو سياسية لا تريد سوي الطاعة وتخشي أعظم ما تخشي فكر الحرية ولاهوت التحرير.
وكل عام وأنتم بخير.