نشرت اول مرة في أخبار الأدب
لازلت أتذكر ذلك اليوم ، عندما كنت طالبا في السنة الثانية في كلية الآداب ، في ذلك اليوم ذهبتُ إلى الجامعة لأجل الامتحانات ، لكنني وجدت المظاهرات تعم الجامعة. هناك التقيت أحد الأصدقاء الذي أخبرني أن هنالك مقاطعة للامتحانات ( ذكرني هذا بأجواء روايات جيل الستينات في مصر)... كان ذلك أحد الأيام القائظة لشهر يناير ، لا فائدة من البقاء في الكلية تحت الشمس وسط ضجيج الطلبة المتظاهرين... ودعتُ صديقي وعدت إلى المنزل . وجدت أمي قد عادت من المستشفى خائبة كعادتها كلما ذهبت إلى هناك... أخبرتها أن هناك مظاهرات وأنه لا توجد امتحانات ، غرفتُ من طنجرة المعكرونة بالصلصة طبقا كبيرا ، وجلست آكل بشهية بالغة سعيدا بمقاطعة الامتحانات التي لم أذاكر لها جيدا ... ومع آخر لقمة في الطبق وصلني إشعار على الهاتف ، أخرجته من جيبي ، أشعلته... سقطتْ الشوكة من يدي محدثة رنينا على الصحن.. شهقت من الصدمة والفرح ... رسالة من صنع الله إبراهيم !!!
كنت قبل ذلك قد كتبتُ رسالة على الإيميل إلى الروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم ، أتحدث فيها عن إعجابي بنصوصه وبسيرته الروائية ، وعن تأثير رواياته عليّ ، خصوصا روايته "اللجنة" ، الرواية التي قررت بعد الانتهاء من قراءتها أن أصبح كاتباً وأن أتخلى عن دراسة القانون ـ مثلما فعل الأستاذ صنع الله بعد خروجه من المعتقل ـ للتفرغ للكتابة والأدب ، و أُصْبِحَ كاتباً . القرار الذي كان جنونيا ، لكنه كان يحمل لذة الرغبة في كتابة نص بديع مثل "اللجنة"، التي بالنسبة لي واحدة من الروايات المثالية ، و التي تمنيتُ لو أنني كنت كاتبها . أرفقتُ مع رسالتي بعضا من قصصي القصيرة التي لم تكن قد نشرت بعد... كتبت تلك الرسالة بحب بالغ ، لكاتب كبير أُقدره و أحبه ، و أقرأ نصوصه بشغف بالغ ، بل كنت كلما عثرت على نسخة ورقية منها - بعد مسيرة من القراءة الإلكترونية - دون تردد كأنني عثرت على كنز كبير... لم أتوقع أن صنع الله إبراهيم ، واحد من أهم الروائيين العرب، واكثرهم شغبا سيجيب على إيميلي الطفولي ، لكنه أجابني... شكرني على الرسالة ، وعلى تقديري له ، وحدثني عن محبته للمغرب وكُتابه ، والأجمل من ذلك أنه قرأ قصصي ، وأشاد بها ، وعلى رأسها قصتي "الهم" القصة التي لا أحبها كثيرا ، والتي افتخر بها فقط لأن صنع الله إبراهيم بجلالة قدره قد أشاد بها...
كذلك كنت قد رسمت له رسمة ـ هي أقرب للخربشة منها إلى الرسمة ـ مستوحاة من بورتريه كاريكاتوري له على غلاف روايته "اللجنة" ، فرح بها الأستاذ صنع الله، و شكرني عليها.
ظلت هذه الرسالة واحدة من أجمل الأشياء التي حصلت لي طوال مسيرتي الأدبية ، خصوصا ككاتب ناشئ يبحث عن التقدير والإعتراف... ثم يأتيه الإعتراف من واحد من أعظم كتاب مصر والعالم العربي ... إذ ستحصل معجزة ، وتنشر نصوصي القصصية تباعاً ، بعد رفض طويل ، كأنها كانت تنتظر قراءة صنع الله المباركة كي تُنشر... للأسف ضاعت مني رسالة العم صنع الله بعد ضياع ايميلي الأول الذي أرسلتها منه ، وقد رغبت بشدة أن أنشرها ككلمة على غلاف مجموعتي القصصية الأولى، التي كانت ستصدر عن دار المستقبل العربي التي يملكها ... لكن لم يحدث نصيب.
يبقى صنع الله إبراهيم واحدا من أهم الكتاب الذين قرأت لهم في حياتي ، والذي عرفته عن طريق مسلسل "ذات" ، المأخوذ عن رواية له بنفس الإسم...المسلسل الذي كنت أتابعه على إحدى قنوات ال إم بي سي ، منبهرا بأداء نيللي كريم، و باسم سمرة، و إنتصار... جاهلا لصاحب العمل الأصلي ، الذي قرأت له بعد ذلك بسنوات ، وقراري المجنون بأن أصبح كاتبا... في رحلة القراءة قرأت كل روايات صنع الله إبراهيم تقريبا : بدءا برائعته "اللجنة" ، مرورا ب: "ذات"، و "شرف" ، "بيروت بيروت" ، "أمريكانيلي"، " التلصص " ، " تلك الرائحة " ، "نجمة أغسطس"، "الجليد" ... و ترجماته البديعة : "العدو" ، "التجربة الأنثوية"... هكذا أُعجبتُ بصنع الله إبراهيم ، الذي صار بالنسبة لي أسطورة أدبية حقيقية... ذلك الرجل النحيل، بشعره المنفوش الأبيض ، و نظاراته المُدورة ، و قمصانه الزرقاء ( القمصان التي صرت أحرص على شراءها تقليدا له)، ضحكته الطفولية الجميلة... كتاباته ذات الطابع الكافكاوي، التي تستغرق في ذكر تفاصيل الأماكن، و أسماء الماركات، و الملابس، و الأغاني، و الأحداث التاريخية، و الأرشيفات... ببراعة أقرب إلى براعة فلوبيرية... صديق سألني: " كيف تقرأ كاتبا يكتب بهذا الكم من التفاصيل؟" ، قلت: " تلك حلاوة صنع الله إبراهيم ! " .
صنع الله إبراهيم صاحب المشوار الروائي المرموق ، والأهم في العالم العربي... مشوار من النبل والدعم للقضايا الإنسانية والوطنية والدولية... الكاتب الذي لا يخشى من قول آراءه السياسية بكل وضوح و صراحة... الكاتب الذي ناصر بلاده في لحظاتها السياسية الحاسمة دون جُبنٍ أو خوفٍ... صنع الله إبراهيم الزاهد في الحياة والشهرة ، على حساب الكتابة ، الكتابة التي بلا تكلف ، أو بهرجة ، أو بهارات تجارية ، أومحاباة للأنظمة و السُلط... صنع الله إبراهيم الذي أُعده واحداً من أحق كتابنا العرب بجائزة نوبل للأداب... و أهم كتاب العالم على قيد الحياة.
علمت مؤخرا بالوعكة الصحية التي ألمت بالعم صنع الله ، وقرأت منشورات الكتاب والمثقفين العرب و المصريين حول وضعه الصحي ، وحاجته لنقل الدم ، إذ تمنيت ـ لولا بُعْدُ المسافة بين المغرب والقاهرة ـ لتبرعتُ له بدمي . إذ يكفيني شرف أن يجري دمي في دم كاتب عظيم مثل صنع الله إبراهيم... لكن ما باليد حيلة... لا يمكنني سوى مراقبة المشهد من بعيد عبر صفحات الفيس بوك، و الدعاء بالشفاء و طول العمر للأستاذ صنع الله.
لا زالت رسالة صنع الله إبراهيم لي أجمل ما حدث معي طوال مشواري الأدبي ، ولا زلت مفتخرا أن صنع الله إبراهيم أعجبته قصصي ، ولا زلت كلما ضاقت بي الدنيا أقرأ لجيل الستينات المصري: إبراهيم أصلان ، إدوار الخراط ، يوسف القعيد، محمد البساطي، إبراهيم أصلان، جمال الغيطاني، بهاء طاهر... لكن أقربهم إلى قلبي و إلى ذائقتي القرائية : صنع الله إبراهيم ، و الراحل إبراهيم أصلان... أستاذاي المصريين الأولين في عالم الكتابة... أحبُ كثيرا أن أقرأ أدب صنع الله إبراهيم السياسي ، رغم كراهيتي المطلقة للأدب السياسي والمغلف بالأيديولوجية ... ولكنه : صنع الله إبراهيم ! ولا زلت كلما ذهبت إلى المكتبة العامة أتأمل كتب صنع الله إبراهيم المصفوفة جنبا إلى جنب... ولازلت أتمنى أن أقابله ذات يوم في القاهرة ، إذ ستكون أول ما أفعله إذا زرت أرض الفراعنة...
بالشفاء العاجل للكاتب الكبير صنع الله إبراهيم... الرجل الذي علمني الإخلاص للكتابة و الإيمان بقوة الكلمة، وأن الكلمة "شرف" كاتبها ... متمنيا أن يجمعني القدر به ذات يوم، القدر الذي باعد بيننا جغرافيا، لكنه قربنا روحيا عبر الأدب ، و الكتابة ، والقراءة... فعبر هذا الإمكان المجازي يبقى صنع الله إبراهيم في متناول اليد، أٌخرج روايته "اللجنة " من بين كتبي، عائدا إلى زمن القراءة الأول قبل عشر سنوات .. عندما كنت أخطو خطواتي الأولى في عالم الأدب... حين وصلتني رسالة من صنع الله إبراهيم...