الدكتور جمال حمدان يعد من المفكرين المصريين الذين اهتموا بالقضايا المصرية والعربية وتميز بالعلم الغزير والنبوغ والتفوق وقدم للمكتبة العربية مجموعة من مؤلفاته الثمينة التي كلما تعاقبت عليها الأيام والسنوات زادت قيمتها وأهميتها واليوم أقدم بعض قراءاتي في فكر الدكتور جمال حمدان ومن يطالع مؤلفات الدكتور جمال حمدان يجد عبقريته عندما أكد أن الجاهلية حاربت الإسلام ولكن رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم واصل رسالته ودعوته فأقبل العرب على الإسلام بحماس وأدركوا أنه أعظم استثمار قومي أتيح لهم في التاريخ ونشروه خارج الجزيرة العربية فعن طريقه فرضوا سيادتهم ولغتهم العربية على المنطقة وعلى عالم بأسره وكونوا لأنفسهم رصيداً تاريخياً قومياً يعيشون عليه إلى الأبد فلقد خرج العرب من الصحراء ودخلوا التاريخ بفضل الإسلام فلم يكن الإسلام بالنسبة للعرب رسالة من السماء فقط ولكن أيضا نجدة من السماء
الدكتور جمال حمدان تحدث عن شخصية مصر في موسوعة أصدرها بهذا العنوان وتعد كتاباته وأفكاره في هذا الصدد الأهم في الكتابات والدراسات الجغرافية المصرية وقد سمى الموسوعة شخصية مصر لما يدرسه من شخصية مصر الإقليمية والبشرية والزمانية والتكاملية وهى دراسة فى عبقرية المكان المرجع المهم لكل من يريد أن يعرف الطبيعة الجغرافية لمصر فالموسوعة تعرض جوانب التفرد والتميز فى الشخصية المصرية بكل ما تحتويه من عوامل حضارية وإنسانية وطبيعية لتجعل منها مكانا متفردا يختلف عن كل ما يحيط به ففى الجزء الأول عرض الدكتور جمال حمدان ما يتعلق بالجيولوجيا والجغرافيا المصرية والصحراوات المصرية التى تمثل النسبة الأكبر فى مساحة مصر سواء الغربية أو الشرقية. وبالطبع أفرد الكاتب جزءاً خاصا لوادى النيل شريان الحياة فى مصر وفي الجزء الثانى ذكر ملامح التجانس الطبيعى والمادى والحضارى والبشرى والعمرانى للشخصية المصرية وكذلك الحضارة المصرية من العصر الفرعونى حتى ثورة يوليو ومراحل تطور الحضارة المصرية على مر العصور كما عرض الحياة السياسية فى مصر وجوانبها الاستراتيجية وفي الجزء الثالث عرض للجوانب الاقتصادية فى الشخصية المصرية والتى كانت الزراعة هى ركيزتها الأولى ثم تطور الصناعة والثروة المعدنية فى مصر كما تضمن الشخصية التكاملية خريطة المجتمع المصرى والعلاقات المصرية العربية بين الوطنية المصرية والقومية العربية .
كما تحدث الدكتور جمال حمدان عن القضية الفلسطينية وأكد على أن فلسطين عين القلب من العالم الإسلامي لا جغرافيا فحسب بل ودينيا أولا وقبل كل شىء فإن يكن العالم العربي هو قلب العالم الإسلامي روحيا وموقعا كمصر في هذا الصدد هى أرض الزاوية من العالم طبيعيا وبالفعل فإنها تقع في صرة العالم الإسلامي تتوسطه مابين الصين شرقا والأطلسي غربا ومابين وسط آسيا شمالا وإفريقيا جنوبا بل لقد كانت القدس هى مركز العالم كله في خرائط العجلة .
إن مكانة فلسطين في العالم الإسلامي تتلخص ببساطة وبما فيه الكفاية في أنها من منطقة النواة وقدس الأقداس فيه أرضا ودينا والكارثة التي تعرضت لها فلسطين على يد الصهيونية الإسرائيلية هى سابقة ليس لها مثيل في تاريخ العالم الحديث لا العالم الإسلامي ولا العالم الثالث إنها ليست استعمارا قديما أو جديدا فحسب وليست حتى استعمارا استيطانيا أو عنصريا ولكنها استعمار إبادي إحلالي صرف .
أيضا من خلال قراءاتي لفكر الدكتور جمال حمدان وجدته يؤكد على أن الصهيونيات التي تتخفى وراء النجمة السداسية هى استعمار استيطاني استهدف اقتلاع وتصفية الشعب الأصلي تصفية جسدية ويعمل على تهويد الأرض وتغيير طبيعتها ومعالمها وبالمقارنة فإنها تجمع بين أسوأ مافي الصليبيات وشر مافي المغوليات الوثنية من تخريب وبربرية إن الخطر الصهيوني لايستهدف الأرض المقدسة في فلسطين فحسب إن الخطر الكامن بل والمعلن حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات .
الدكتور جمال حمدان لم ينس نصر أكتوبر العظيم فقد قدم كتابا في غاية الأهمية بعنوان 6 أكتوبر فى الإستراتيجية العالمية فعن خطة العبور والمعجزة التى تحققت قال : كانت استراتيجية العدو دائما هجومية من البداية للنهاية وكان حريصا على أن لايترك لنا زمام المبادأة أو المبادرة وكان من الواضح تماما منذ يونيو 1967 أن ليس هناك ما يدعو العدو إلى تغيير استراتيجيته غير أننا مهما يكن كنا أسبق وأسرع فكانت الضربة الجوية لنا فور بداية عدوانه على خليج السويس بحيث اختل توازن العدو فى اللحظة الأولى ووضع على جانب الدفاع وكان الاضطراب الشديد والفوضى الارتجالية البادية وردود الفعل العصبية الطائشة هى أبرز ملامح سلوك العدوفى الأيام الأولى وبالأخص فى الساعات الأولى من المعركة وكان هذا كله دليلا ساطعا على أن جيش الدفاع الإسرائيلى كما يسمونه لم يكن جيشا للدفاع ولا صالحا للدفاع.
أيضا قال الدكتور جمال حمدان : انتزعت القيادة المصرية المفاجأة النسبية والتكتيكية بدرجة حققت كل أهدافها المباشرة وغير المباشرة وتركت العدو فى حالة تامة من العمى ثم التخبط ثم الذهول واللوعة ومازال الجميع يتسآءلون فى كل الدنيا عن ذلك السرالغامض والمحير الذى أعمى الإسرائيليين عن كل علامات المعركة ومؤشراتها ونذرها وهى كانت تحملق فى عيونهم بشدة كما وضعها أحدهم أو كما عبر آخر بقوله أهو عمى الألوان أم عمى الصحراء ؟ فقبل انفجار الموقف بأيام كان يمكن مشاهدة القوات المصرية وهى منهمكة فى إعداد زوارق المطاط والجسور المجزأة على الضفة الغربية بينما على جبهة الجولان كان تقدير موشي ديان أن هناك مئات من فوهات المدافع مرئية للعيان كما أشار بقدر من الإنزعاج إلى أن السوريين قد نشروا شبكة من الصواريخ المضادة للطائرات تقارب فى كثافتها تلك القائمة على قناة السويس.
وجدت أيضا من خلال قراءاتي في فكر الدكتور جمال حمدان تأكيده على أن العلم كان فى خدمة المعركة حيث تحدث عن معجزة عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف والخداع الاستراتيحي وأكد على أن عامل السرية المطلقة توفر بدرجة فذة كما سارت عمليات الخداع الاستراتيجى للعدو حسب تخطيط كفء طويل المدى فمثلا استغرق تجميع قواتنا للهجوم فترة أربعة شهور أى بالتدريج الوئيد والقطاعى بينما لم يدفع بالقوات الرئيسية منها من العمق إلى الجبهة إلا قبل ثلاثة أسابيع تحت ستار المناورات وأعدت مكامن السلاح والعتاد ومعدات العبور التى تم تصنيع جزء كبير منها محليا مسبقا فى خفاء تام أما التوقيت فقد اختارت الخطة لساعة الصفرتوقيتا ذكيا وبارعا شل الجهاز العصبى لقيادة العدو برغم كل مخابراته وادعاءاته وهناك أبعاد ومستويات لهذا التوقيت أولا : أنسب طقس سياسى دولى وكان التأييد العالمى قد وصل فيه إلى الذروة واكتملت عزلة العدو ومعسكره دوليا بدرجة لم يسبق لها مثيل ولكن لاننسى كذلك أنسب طقس مناخى للنشاط البشرى والعمل العسكرى فخريف أكتوبر المصرى ربيع تقريبا وهو أبعد مايكون عن حرارة الصيف الواقدة وبرودة الشتاء القارسة التى تجعل حرب الشتاء حربا قاسية وصعبة قد لا تطيقها بسهولة إلا الدول الغنية كذلك يعد الشتاء موسم ثلوج على الجبهة السورية حيث يبدأ تساقطها فى نوفمبر وديسمبر وثانيا : أنسب يوم تعطل وبطالة فى دورة حياة العدو اليومية حيث كان منشغلا بنشاطاته ومعاركه الانتخابية وكذلك بمناسبة أعياده الطائفية التى تصاب فيها حياته بشلل تام تقريبا وإذا كان عيد يوم كيبور يوم الغفران هو قمة هذه الأعياد فقد كان الموعد آخر وقت يتوقع فيه العدو الهجوم ونعنى بذلك شهر الصوم الذى يتصوره العدو المتعالى شهر كسل وتواكل هذا فضلا بالطبع عما فى حرب رمضان من وجهة نظرنا من معنى دينى كبير وحافزللجهاد والفداء يرفع الروح المعنوية إلى ذروتها ويقدم سلاحا مضافا للنصر ثالثا : أنسب يوم للعبور تقل فيه سرعة تيارات قناة السويس ويصل فيها مدى المد والجزر إلى حده الأدنى فلا يعوق العمليات الهندسية وإقامة المعابر أو الملاحة عبر الماء بقدر الإمكان هذا إلى جانب أنسب ليلة قمرية تسنح بحرية العمل ليلا، وهنا نلاحظ أن ليلة العاشر من رمضان قريبة من منتصف الشهر القمرى ليلة 14 حين يكون القمر بدرا كما نلاحظ أن هناك ارتباطا طبيعيا بين دورة القمر وبين المد والجزر وهذا كله عدا أن ليل أكتوبر طويل 12 ساعة بما يكفى ليمنح العملية أطول وقت ممكن للحركة المستورة وعلى ضوء هذا كله تم تحديد السادس من أكتوبر بعد دراسة علمية مفصلة .
هذا هو القليل من الكثير لقراءاتي في فكر عالم الجغرافيا الدكتور جمال حمدان وبقى أن تعرف عزيزي القارىء أن الدكتور جمال حمدان فاضت روحه إلى بارئها عم عمر يناهز 65 سنة تاركا للإنسانية والتاريخ والبالغ عددها 29 كتاب و79 بحث ومقالة مابين اللغتين العربية والإنجليزية فرحمة الله على روحه .