الكشف

(0)
Year: 2013

الإنسان ومجاهدة الفتن الثلاث                        

قراءة فى مجموعة (الكشف) لسعيد سالم

د.أحمد المصرى

ثمة علاقة وثيقة بين التجربتين الصوفية والأدبية تكمن فى سعى كل منهما نحو الأسمى والأرقى، وتقديم صورة للعالم البديل الذى يرتقى الصوفى من أجله معراج الروح ويبغيه الأديب ويتوق إليه مرتكزاً على الثنائيات الضدية إظهاراً لعوار مجتمعه ومفاسده أو محلقاً فى عوالم خيالية مثالية يقدم من خلالها صورة ضمنية تجسد حلمه الأسمى بالمجتمع المثالى الذى يصبو للعيش فيه وقد برزت هذه العلاقة بوضوح فى كتابات سعيد سالم بوجه عام وفى مجموعته القصصية (الكشف بوجه خاص) حيث نجد خطاً واحداً يلعب دوماً دور البطولة فى كتاباته يكمن فى سعيه لاستبطان سر الوجود والكشف عن العوالم المتجاورة بين الخيال والواقع والارتحال عبر أزمنة متعددة، والحرص على إبراز الصراع بين الثنائيات الضدية كالوجود والفناء والحياة والموت والخير والشر وغيرها من الضديات.

قبل القراءة:

إن النص السردى الإبداعى لم يعد مجرد واحة يلقى القارئ بجسده المنهك على عشبها طلباً للراحة والاسترخاء، بل أصبح هماً يلازمه ويلاحقه فلا يستطيع الظفر بثماره إلا بعد لأي ومشقة ولم يعد القارئ مجرد مستهلك للنص بل أصبح منتجاً له ومشاركاً فيه بصورة أو بأخرى ،فالقراءة نشاط إيجابى من القارئ تجاه النص وتفاعل مثمر معه يؤدى إلى إثراء هذا النص وتعدد معانيه بالأخذ منه والاضافة إليه فيصير أشبه بنبع الماء المترقرق تنظر إليه فترى وجهك وتشرب منه فيرتوى ظمأك وتكمن خطورة القراءة الأدبية فى كونها قادرة على إبراز قدرات النص الفنية، كما أنها قد تبخسه حقه حين لا تكون فى نفس مستواه الإبداعى لذلك توسل نزار قبانى لقارئ شعره فى مطلع ديوانه قالت لى السمراء قائلا:

فيا قارئي يارفيق الطريق

أنا الشفتان وأنت الصدى

سألتك بالله كن ناعما

إذا ما ضممت حروفي غدا

تذكر وأنت تمر عليها

عذاب الحروف لكي توجدا

عتبة العنوان:

لعتبات النص دلالة كبيرة فى إبراز مضامينه وكيف لا وقد صارت جزءاً من بنيته ومسهمة فى بناء خصوصيته ،ولم تعد ترفاً أو شيئاً إضافياً يمكن الاستغناء عنه.

ويعد العنوان عنصراً جوهرياً فى مكونات النص ومفتاحاً نلج به أغوار النص العميقة، وقد جاء عنوان مجموعتنا القصصية مطابقاً تماماً لشروط العناوين الجيدة وهى :_ الإيجاز، والتعبير عن المضمون، والإثارة ولفت الانتباه.فعنوان مجموعتنا كلمة واحدة معرفة هى الكشف، وهو عنوان يطرح عدة تساؤلات حول كنهه وماهيته فأى كشف هو؟ هل هو كشف عن شئ ؟أم كشف لشئ؟، هل يقصد به بيان بشئ، هل يقصد به كشف حساب مثلاً ؟ أم يقصد به الكشف الصوفى؟

والكشف لغة رفعك الشئ عما يواريه، وكشف الأمر أظهره والكشف عند الصوفية:

نور يحصل للسالكين فى سيرهم إلى الله تعالى يكشف لهم حجاب الحس ويزيل دونهم أسباب المادة نتيجة ما يأخذون به أنفسهم من مجاهدة وخلوة وذكر.

ويقول الغزالى فى إحياء علوم الدين:

إن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر وإنه لا يمكن منه إلا الذين اتقوا، فالتقوى باب الذكر، والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر وهو الفوز بلقاء الله تعالى.

إذن الكشف هو مكاشفة اليقين ومعاينة المغيب ،والكشف بهذا المفهوم هو الذى يعنيه سعيد سالم فى مجموعته القصصية التى تضم بين دفتيها عشر قصص كتبت على مدار ثمانية وعشرين عاماً بداية من 1982 وحتى 2010 ورغم التباعد الزمنى وما تبعه من تفاوت فنى فإن قصص هذه المجموعة كلها نظمت فى خيط واحد ببراعة فائقة وقدرة مذهلة.

العناوين الداخلية:

إذا كان العنوان العام موجها إلى عموم القراء فالعناوين الداخلية تتجه إلى دائرة أضيق من القراء شرعوا فعلاً فى قراءة النص، وهى ليست مجرد علامات تطبع العمل بل لها وظائف دالة من شأنها أن تساعد على قراءته وتشى بدلالاته ووظائفه.

ومن أمثلة العناوين الداخلية ما نراه فى قصة المعضلة الكبرى وترقيم الوثائق التى يطلع عليها بطل القصة مثل:

الوثيقة الأولى/ الوثيقة الثانية...الثامنة، التاسعة .

وفى قصة يوم من الأيام:

صباح اليوم/ ظهر اليوم/ بعد المغرب/ مساء اليوم/ آخر الليل.

وفي قصةهلوسة قصصية:

مقاطع مرقمة 1، 2، 3، 12 مقطع

 وكذلك الحال في قصة :الولايات المتحدة العربية 1، 2،...8

وفي قصة الكشف الثانى نجد تناصا واضحا مع النص القرآني في العناوين على النحو التالي:

مقدمة/ والسارق والسارقة، فطوعت له نفسه قتل أخيه ،الزانية والزانى. وفي الكشف الثانى كشف الجسد نجد عناوين مقاطعها كالتالي:

قراءة خاطئة لعينيها، شجرة الخلد، الذكر والأنثى ،وكلها عناوين اختيرت بعناية لتعبر عن المضمون الذى جاء تالياً لها.

وقد وردت العناوين الداخلية فى مجموعتنا القصصية فى صور مختلفة من حيث الأبنية التركيبية نحوياً ودلالياً وتوزعت على ثلاث بنى:

1-     بنية الإفراد مثل: مقدمة

2-     التراكيب الجزئية:

أ‌-       إضافة (شجرة الخلد، صباح اليوم، ظهر اليوم)

ب - نعت: الوثيقة الأولى، العطف: الذكر والأنثى السارق والسارقة.

3 - التراكيب التامة: فطوعت له نفسه قتل أخيه.

وهذه العناوين لم توضع بعشوائية وإنما وضعت بنظام دقيق وحرفية عالية اقتضاها السرد.

من العتبات إلى النص:

وإذا تجاوزنا عتبات النص إلى النص ذاته فإننا كما قلنا نجد مجموعتنا القصصية تضم عشر قصص كلها تقريباً تعبر عن صراع الإنسان فى الحياة من أجل الوصول إلى المعرفة والنفاذ إلى جوهر الأشياء، والتحرر من أسر الجسد الطينى والتحليق بحرية فى العوالم العلوية حيث النقاء والبقاء ومعين الحب الخالد الذى لا ينفد، وفى سبيل الوصول إلى الهدف المتبقى يدخل الإنسان فى صراعات متعددة :تارة مع نفسه وشهواته سعياً إلى قهرها والانتصار عليها، وتارة مع مجتمع فاسد يحيط به شره من كل جانب، وتارة مع الفتن والابتلاءات التى تعرض على قلبه كفتنة المال أو فتنة السلطة أو فتنة الشهوات ومن خلال هذا الصراع تولد الأحداث وتتنامى.

ففى قصة المعضلة الكبرى:

نرى الصراع الشديد بين إرضاء الشهوات والخضوع لها وبين طلب المنزلة عند الله سبحانه وتعالى من وجهة أخرى مما يجعل من الإنسان كائناً غير متزن عاجز عن التصالح الداخلى بين دينه ودنياه.

وقد عبر الكاتب عن هذه الحالة خير تعبير حين قال:

إننى أتمنى أحياناً أن أكون رجلاً ربانياً خالصاً ينكشف عن عين قلبى حجاب الحس وينفتح من دون قلبى باب القدس، فأرى ما لا عين رأت وأسمع ما لا أذن سمعت وأذوق من الحقائق والدقائق والرقائق ما لا يخطر على قلب بشر وأجدنى أبدأ المحاولة مرة وراء الأخرى لكنها لا تلبث أن تذوى فى أسابيع قليلة إذ يفتر حماسى بالتدريج فأنجذب من جديد إلى فلك الحياة.

وأتمنى أحياناً أخرى أن أظل أعب من نشوة الحياة حتى الثمالة وأن اعتصر رحيقها وألتهم جمالها وأذوب فى فتنتها حتى الموت وأبدأ المحاولة لكنها لا تستغرق أكثر من أشهر قليلة حتى أفيق لنفسى وقد أنهكنى الشعور بالذنب فأعود مذبذباً من جديد الخلاصة أننى لم أستطع أن أكون أحد الرجلين حتى الآن.

هذا الصراع المغلف بالحيرة والعجز عن الفهم يسيطر على جميع أبطال قصص هذه المجموعة.

وفى هذه القصة يتعرض بطلها لاختبارات متعددة حين يأتمنه كامل بك على أسراره ويموت، فيدخل فى صراع مع نفسه بين كتمان السر وإعلانه، وباطلاعه على الوثائق الموجودة داخل درج مكتبه تتفاوت ردود فعله، فيحرق بعضها تبعاً لوصية صاحبها، ويخالفه أحياناً، ويحتفظ لنفسه ببعضها أحياناً أخرى، ولا يستطيع اتخاذ قرار بشأن بعضها الآخر فيضعف أمام إغراء المال ويعجز عن التصرف وإن كان احتفاظه به مقدمة لفشله فى الاختبار.

أما قصة فى يوم من الأيام:

فنحن أمام صراعات من نوع آخر يمر بها إنسان ميسور الحال من الصباح وحتى آخر الليل، وعلى مدار هذا اليوم نرى صراعه بين دينه ودنياه، وتصدمنا المفارقات الصارخة بين الفقر والغنى مقارنة بين سيدة فقيرة تبحث عن طعام فى القمامة مشاركة لكلب في نفس العمل وبين من يعانون التخمة ويبحثون عن علاج لكلبهم المتخم بالطعام،بين امرأة فقيرة لكنها شجاعة وشريفة، وبين امرأة أخرى تنكرت لأصلها وماضيها المختلط بالفقر والانحراف وتعاملت مع الناس بتعال.

والقصة إجمالا ممتلئة بمفارقات موجعة بين الفقر والغنى،وبين التكافل الاجتماعي والظلم الاجتماعي ،.

قصة تحت البنج:

 تتناول هذه القصة صراع الانسان فى حياته ومحاولته اليائسة فى الوصول إلى السعادة وحيرته فى كنهها ،وهل ترجع إلى المال أم ترجع إلى السلطة، وظل البحث عن أسباب السعادة الحقيقية، وإلحاح أسئلة وجودية بلا أجوبة مثل البحث عن معنى الحياة، وهل هى حقيقة أم حلم وما جدواها إذا كانت ستنتهى إلى العدم، وما جدوى اللذة إذا كانت زائلة وغير مضمونة والحياة مجهولة قد تنتهى فى أية لحظة.

 ثم يعود من هلاوسه بقناعة واضحة أن الأمر كله لا يستحق بذل الجهد لأجله فما حدث قد حدث ولا نملك تغييره، وما سيحدث نجهله ولا نملك دفعه .

وفي قصة الولايات المتحدة العربية :

 تستمر تقنية الحلم وفيها يتحدث بشكل تغلب عليه الفانتازيا عن حلم الوحدة العربية واستحالة تحقيقه حتى لو لجأ الانسان إلى عالم الجن بقواهم الغيبية لتحقيق هذا الحلم، وفي سبيل تحقيق هذا الحلم تنكر لشخصه فتخلى عن اسمه (ناصر) وتخلى عن جسده، وباع نفسه لكنه فى النهاية فقد حياته لأنه فقد مسوغ وجوده.

عنبر الأكياس :

أما قصة عنبر الأكياس فنحن أمام فتنة السلطة والصراع بين الطبقات.

النقطة:

قصة مليئة بالدلالات الفلسفية وتتعدد فيها المفاهيم والتعريفات للنقطة، نقطة سوداء ،نقطة تحول وغيرها من الدلالات ،...

وفيها يكشف عبثية الحياة واختلال قيمها، ويصل إلى أن الحياة أكذوبة كبرى، تاه الانسان عن نفسه ففقد ذاكرته ووعيه.

ثلاثية الكشف :

ثلاث قصص متتالية بعنوان الكشف،والكشف الثاني، وكشف الجسد.

قصة الكشف:

تتناول هذه القصة الفتن الثلاث المتكررة في هذه المجموعة وهي فتن: المال والسلطة والشهوة ،وخلاصة ماوصل إليه الكاتب في هذه القصة أن كل شيء إلى زوال وقد عبر عن هذه الخلاصة في بداية قصته الكشف الثاني حيث قال:

 (ليس هناك يقين لاشك فيه أشبه بشك لا يقين فيه أكثرممانحن فيه وأن اللعبة لا تساوى ما يحمل على الكاهل.)

قصة الكشف الثاني:

بدأها بمقدمة قصيرة بين فيها خلاصة كشفه الأول ثم استمر في الحديث عن الفتن الثلاث عبر ثلاث قصص تتحدث الأولى منها عن فتنة المال وكيف أن التجارة قد تشهد غشا وأكلا للحقوق وفيها يقرر بطلهابعد موت شريكه الذي كان يسرقه الاحتفاظ لنفسه بقيمة آخر صفقة كنوع من التعويض لكنه يفشل في تنفيذ مخططه ويعيد المال لابن المتوفى في لحظة اختلطت فيها المفاجأة بصحوة الضمير،وفي القصة الثانية تبرز فتنة السلطة التي تقمع كل من يحاول أن يكون صاحب رؤية مغايرة وعندما يقرر بطل القصة الانتقام ممن قمعه يراه يصارع الغرق فلا ينقذه ولا يغرقه ويتركه لمصيره وينصرف،أما القصة الثالثة فتتناول فتنة الشهوة وفيها يستعد البطل للقاء غرامي محرم يعد له العدة وينتظره بشغف لكن هذا الشغف يتحول تدريجيا إلى قلق ثم فتور ثم رغبة شديدة في الهرب أو الاعتذار ويأتي الإنقاذ عندما تتصل الحبيبة لتعتذر عن هذا اللقاء ليكتشف البطل أن الانفصال عن الجسد حياة.

ثم يأتي الكشف الثاني بعد هذه القصص الثلاث عندما يسافر إلى المدينة المنورة وينجح في الوصول إلى الروضة الشريفة والصلاة فيها بعد عدة محاولات فاشلة.

ليثبت أن الحياة لا تساوى شيئاً وأن محصلتها النهائية تساوى صفراً فمهما تعددت علاقات الإنسان الغرامية ومهما امتلك مفاتيح الثروة والسلطة فإنه لن يظفر بشئ ،لذا فعليه أن يسمو فوق رغباته ويثرى آخرته بدنياه وهنا فقط يحدث له الكشف.

كشف الجسد:

وفيا يخلص إلى أن البقاء يكمن فى التحرر من سلطة الجسد ،فالعبد إذا انصرف عن الحس الظاهرى إلى الحس الباطني تغلبت روحه على نفسه الحيوانية الملتبسة ببدنه والروح لطيفة شفافة كشافة فيحصل له حينئذ الكشف ويتلقى واردات الإلهام.

الشخصيات:

يمتلك سعيد سالم قدرة فنية هائلة مكنته من تقديم شخصياته تقديما متقناً تفوح منه رائحة الحياة، وأبرز ما يميز شخصيات سعيد سالم أنها شخصيات حقيقية إنسانية وليست شخصيات أسطورية ممجدة، هى شخصيات مكبوتة حائرة تعيش أزمات متعددة منها الشرير المتسلق، والانتهازى المتسلط والجبان العاجز، والمثالى الساعى لتغيير مجتمعه وواقعه ومنها المهزوم العاجز المتوحد مع عجزه والمتعايش معه شخصيات من لحم ودم برع إلى حد بعيد فى رسمها وخلق الصراع بينها، شخصيات تحمل فكرة ورؤية للحياة وتتماهى معه فى كثير من الأحيان.

شخصيات تعانى متوترة أبداً من الداخل وثمة قوة خفية يستعر أوراها حيناً ويهمد حيناً آخر كأننا هنا إزاء صراع مرير وقاس يستنزف كل قوى القلب والعقل لتحقيق درجة من الصفاء أو الكشف.

وقد ركز سعيد سالم فى رسم شخصياته على ولوج العالم الداخلى لها معتمداً على تقنية الاستبطان والمناجاة والمنولوج الداخلى للشخصية.

أسماء الشخصيات:

اسم الشخصية هو الذى يحددها ويختزل صفاتها؛ لذلك لابد أن تحمل الشخصية اسماً يميزها، وقد انتقى سعيد سالم أسماء شخصياته بعناية شديدة مثل اختيار اسم ناصر فى قصة الولايات المتحدة العربية وما يحمله هذا الاسم من دلالات وإسقاطات.

واسم نشوى للدلالة على المرأة الجميلة التى كان يمني النفس بلقائها.

وكامل بك وهو اسم له دلالة عكسية فالمضمون أبعد ما يكون عن الكمال إذ هو لشخصية مليئة بالمتناقضات، وكذلك اسم عزيزة المرأة التى تتخلص ممن حولها لتصل إلى قمة السلطة دون أن ينالها أحد أو يصل إليها أحد.

            وقد استخدم الكاتب تقنية الراوى العليم والراوى المشارك وراوح بينهما فى رواية الأحداث.

سمات أسلوبية:

            لغة سعيد سالم لغة راقية إلى حد بعيد بها سلاسة الشعر ورقته وطريقتة فى التعبير بخطوط مواربة تجعل القارئ يبحث عما وراء الكلمات والتكوينات المفعمة بشهوة التحديق فى خفايا المشهد السردى وأسراره، لغة تعتمد على الإثارة والتشويق، تميزها براعة واضحة فى استخدام جملة من المستويات اللغوية تناسب أوضاع الشخصيات الثقافية والاجتماعية والفكرية بحيث يمنح كل شخصية اللغة التى تليق بها لغة تظل عين الكاتب عليها حتى آخر قطرة حبر فى قلمه، وآخر نوبة جنون فى أصابعه، وآخر نغم كونى تعزفه القريحة يغلفها الرمز حيناً ولكن يبقى أهم ما يميز لغة الكاتب يكمن فى اتساق هذه اللغة ومضمون المجموعة القصصية لذا فكثيراً ما نجد كلمات وعبارات صوفية خالصة تعبر عن المجاهدة والكشف والانعتاق والتحرر.

 

ومن أبرز سمات هذه اللغة:

التفاعل النصي:

يعد التفاعل النصي من أبرز السمات اللغوية فى مجموعة الكشف لسعيد سالم وهو كتقنية فنية يجب أن يكون اعتماد الكاتب عليه ليس من باب استعراض الثقافات بقدر ما يكون لضرورة فنية تفرضها طبيعة قصته، وللتفاعلات التناصية متعددة المصادر والأشكال دور كبير فى كسر نمطية الحكى المغلق عن طريق تهجينه وتحاوره مع أساليب سردية جديدة تسهم فى إثراء لغة القصة والارتقاء بها.

ومن أمثلة التفاعل النصي فى هذه المجموعة:

التفاعل الدينى:

وله صور متعددة منها:

التفاعل مع آي القرآن:

القرآن الكريم مصدر غني من مصادر البلاغة ويحمل للإنسان دلالات لا متناهية فضلا عن التأثير العظيم الذي يعكسه في وجدان القارىء وذاكرته.

وقد ورد التفاعل القرآني فى مواضع كثيرة من هذه المجموعة منهاما نراه في قصة النقطة:

زوجها اختلس لأجل إرضائها وكان يضحك كثيرا هو الآخر فكان مصيره السجن...آه من جدرانه الكئيبة ورفاقه التعساء وأيامه السوداء في لون الكحل...أما هي فقد تبوأت أعلى المناصب السياسية والحزبية وصارت تمتلك الشقق والأراضي في كل مكان ولم يعد من السهل مقابلتها..هذه هي الحقيقة إن سعكيم لشتى.

وقد اسنخدم الكاتب نفس الآية في سياق آخرفي قصة كشف الجسد فقال:

فالإنسان في حقيقته حيادي عالمي لا جنسي لايهم إن كان ذكرا أو أنثى ولئن كانت المرأة هي الصورة السلبية للتكامل مع الرجل ،فهي التي تهب الحياة وتخلق الوجود من قطرات الماء هنا وهناك.. والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى.

وهذا الاختلاف في الاقتباس طولا وقصرا يوحي بأن وعي الكاتب قد رافقه أثناء عملية التفاعل النصي بحيث يأخذ في كل مرة ما يتطلبه السياق ولا يقتبس بشكل عشوائي أو يقتبس لمجرد الاقتباس.

ومن نماذج التفاعل النصي مع النصوص القرآنية ما جاء في نهاية قصة النقطة ليكون بمثابة الجزاء العادل لكل ما اقترفه بطل القصة من سيئات ففقد ذاكرته في النهاية إلا أنه تذكر هذه الآية لتكون آخر ما يعلق بذهنه وهي قوله تعالى:

(ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون.)

ولا يقف التفاعل النصي عند حدود الدين الاسلامى بل يتعداه إلى الدين المسيحى فنرى عبارة منقولة عن المسيح عليه السلام حيث يقولواصفا حال صديقه في قص منتهى الأشياء: طالت غيبتى عنه ولكن حالته لم تبارح ضميرى قلت ربما وجد فى الزهد والتصوف مخرجا وخلاصا إعمالاً بقول السيد المسيح: من أراد أن يخلص نفسه فليهلكها وهذا الذى يقهر نفسه أعظم من ذاك الذى يفتح مدينة

 كما لا يقف عند النص القرآنى أو أحاديث الأنبياء بل يتعداه إلى أحاديث الصالحين مثل وصية أبى بكرلجنوده التي استشهد بها ليقارن بين فعل جيوش المسلمين وفعل جيش اليهود، وقول الشافعي واصفا حال النفس:

(النفس فارغة تعطى الفرصة السانحة لمشاعر الخوف والقلق والحقد والغيرة والحسد أن تملأها فتبدد سلامها واستقرارها.)

وهناك التفاعل الشعري كما نرى في قصة الكشف الثاني:

حيث يقول:

لم أجد أحداأبثه وجدي وشوقي ولهفتي فقلت أحدث نفسي فمن أستامن إن لم أستامنها على مثل هذا الحديث؟ولقد تمنيت لو أن الشاعر قد استبدل بالشرح الفضيحة حين قال:

لا تخف ما فعلت بك الأشواق     واشرح هواك فكلنا عشاق

لتصبح وافضح هواك فكلنا عشاق..ذلك أنني استمرأت أن أفضح امامي هواي وأن أراه وأتفرج عليه وأعريه من سواتر الحرص والتخفي والإخفاء.

وأبرز ما يميز تفاعلات سعيد سالم النصية أنهاحققت وظائف جمالي وفني وإبداعية أخرجت النص من الأحادية المغلقة إلى المتعدد والمنفتح ،يهدم الحدود بين الأجناس الأدبية فيكسر ضفافها ويجعل منها نصوصا مترابطة ومتقاطعة فتكون جنسا جامعا لشتى ضروب القول الأخرى القصة والنص الديني وأقوال الصالحين والحكماء والشعراء فالتفاعل النصي يحفر في الذاكرة المشتركة بين المؤلف والقارىء،ويغذي المعارف المشتركة التي تؤسس للتفاهم وتسهل الفهم والتأويل فهو الذاكرة المعرفية للكاتب لحظة الكتابة وللقارىء لحظة التلقي.

سمات سريعة:

البطولة عنده للفكرة قبل أن تكون للحدث أو الشخصيات.

تغلب على قصصه حركة الصراع بين الثنائيات المتضادة مثل:

الروح والجسد، الموت والحياة، المادى والمعنوى، الفناء والبقاء، الفقر والغنى، السعادة والشقاء.

الكتابة عنده صعبة مكتوبة بقطرات دمه مغموسة فى محبرة جوفه معجونة بعصارة فكره وخلاصة تجاربه.

الزمن عنده يعتمد على القطع والتناوب والقفزيختلط فيه الحلم بالواقع والحاضر بالماضي والمشاهد بالغائب.

وأخيراً فإن هذه المجموعة القصصية للكاتب الكبير سعيد سالم تقرأ بعين العقل فهي جديرة بالقراءة الواعية المتأنية لما تحمله من قيمة فنية وأدبية وفكرية كبيرة تضعها فى طليعة الأعمال الإبداعية المتميزة، وهذا ليس غريباً على مؤلفها الذى يعد واحداً من أبرز الكتاب فى عصرنا الحاضر الذين أثروا الإبداع السردى وأضافوا إليه إضافات مؤثرة أسهمت إسهاماً حقيقياً فى تقدم هذا الفن ورقيه.

د/أحمد المصري