تجربتي في تبسيط "بيريه الحكيم" للأطفال

بدأت علاقتي بأدب الأطفال عندما رزقني الله سبحانه وتعالى طفلين، فوجدت أنه من الواجب الأدبي أن أكتب لهما ولجيلهما، بعد أن كتبت لنفسي ما يقرب من خمسة عشر عاما قبل وجودهما في الحياة. ومن هنا خضت هذه التجربة الجميلة لكتابة الشعر للأطفال، وأصدرت أوَّل أعمالي الشعرية المطبوعة لهم عام 1994 تحت عنوان "أشجار الشارع أخواتي" وصدرت عن دار البـشير للنشر والتوزيع بعمَّان بالأردن بالتعاون مع رابطة الأدب الإسـلامي العالمية، ثم أخذت في الإطلاع على الكثير من الأعمال الشعرية المطبوعة للأطفال في وطننا العربي، وتكوين رأي حولها، وكانت النتيجة أن أصدرت كتابي "جماليات النص الشعري للأطفال" عن الشركة العربية للنشر والتوزيع بالقاهرة عام 1996 وفيه قمت بدراسة أعمال اثنين وعشرين شاعرا عربيا يكتبون الشعر للأطفال، ثم صدرت لي بعد ذلك مجموعة شعرية للأطفال عن سلسلة قطر الندى التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة وكانت بعنوان "حديث الشمس والقمر". ولم تتوقف متابعاتي لما يصدره شعراؤنا العرب في هذا المجال، ولما يصدره أيضا كتابنا وأدباؤنا سـواء في مجال الإبداع أو في مجال الدراسات الأدبية في أدب الأطفال بعامة، ووجدت بعد صـدور كتاب "جماليات النص الشعري للأطفال" صدىً جيدا تمثل في صدور كتابٍ عنه بعنوان "الشعر والنقد والطفولة" لمجموعة من الكتاب والنقاد والصحفيين، وقد شجعني هذا على الإقدام لعمل "معجم شعراء الطفولة في الوطن العربي خلال القرن العشرين" الذي صدرت طبعته الأولـى عام 1998عن دار المعراج الدولية للنشر بالرياض، واحتوى على تراجم ونماذج شعرية كتبها للأطفال الكثير من شعرائنا العرب خلال هذا القرن. ثم صدر لي بعد ذلك كتابان جديدان هما: أدب الأطفال في الوطن العربي ـ قضايا وآراء، وتكنولوجيا أدب الأطفال. 

 
وعندما قرأت خبر اعتزام الهيئة العامة لقصور الثقافة بقيادة الفنان الدكتور مصطفى الرزاز، لتبسيط فكر وإنتاج أدبائنا الكبار للأطفال، هالني في بداية الأمر هذا الخبر، وأخذ بمجامعي، إذ كيف يبسط فكر هؤلاء العمالقة للأطفال، وهالني الأمر أكثر عندما عرفت أن البداية ستكون بأعمال توفيق الحكيم وشخصيته وفكره، فالمعروف أن معظم أفكار توفيق الحكيم تميل إلى الناحية الفكرية أو النواحـي المعنوية، كالعدالة والحرية والفن والفكر والتعادلية والمستقبلية، وأنها تسبح في سماوات عليا وقيم مثلى، من الصعب تبسيطها للأطفال الذين يتعاملون ـ بحكم سنهم وخبرتهم في الحياة ـ مع المحسوسات والملموسات والأشياء المجسـدة، أكثر من تعاملهم مع المثل العليا والأفكار المجردة والقيم الروحية والغيبيات .. الخ. هالني أمر تبسـيط أعمال توفيق الحكيم ـ بالذات ـ دون غيره من أدبائنا الكبار لأنه كما كان يُشاع عنه يعيش في برج عاجي صنعه روح الفنان فيه. ولكن عندما فكرت في الأمر جليا وجدت أنه ليس من الممكن أن تُقدم الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ ممثلة في رئيسها ـ على ترويج هذه الفكـرة إذا لم تجد في أعمال هؤلاء العمالقة ما يمكن تبسيطه وتقريبه للأطفال من سن 12 إلى 15 سنة. إذن يحتاج الأمر مني إلى إعادة قراءة الكثير من أعمال توفيق الحكيم، لأرى الجانب الذي من الممكن أن يقرَّب إلى أطفالنا، فوجدت بالفعل بعض الروائع التي من الممكن أن تُبسط للأطفال من ذوي هذه السن، وتحمست كثيرا للفكرة، ووجدت أنها حقا فكرة رائدة أن نبسط أعمال هؤلاء الكبار، بل إننا سنُعيد اكتشافَها من جديد من خلال هذا التبسيط، فهي كالجوهرة التي تزداد صَقْلا بمضي الزمن، وهذا أقل شيء يقدم لعمالقة الفكر العربي في الوقت الراهن. وتساءلت بيني وبين نفسي كيف تكون البداية، وكيف يكون الاختيار، فأعمال الحكيم كـثيرة تربو على الستين كتابا، ما بين مسرحية ورواية وقصة قصيرة، ودراسات ومقالات وخواطر وآراء وحوارات ومذكرات وخطابات، بل وشعر أيضا الخ. هل أبدأ في تبسيط وتلخيص رواية كاملة كعودة الروح، ويوميات نائب في الأرياف، والرباط المقدس، وعصفور من الشرق .. الخ، أم أعيد صياغة إحدى مسرحياته الفكرية بما يتناسب وسن الطفولة خلال الفترة المتفق عليها (12 ـ 15 سنة) مثل أهل الكهف، وشهرزاد، وبجماليون، وأشـواك السلام، وشمس النهار والسلطان الحائر .. الخ، أم أقوم بتبسيط وتلخيص أفكاره وآرائه التي تتجلى فيها شخصيته الفذة كحماري قال لي، وعصا الحكيم في الدنيا والآخرة، ومن البرج العاجي، وبين الفكر والفن .. الخ، أم أجمع بين هذا وذاك من خلال فكرة معينة. وراقتني فكرة الجمع، أكثر من الوقوف على عمل واحد فقط، وإن كان فيها نوع من التعب اللذيذ الذي سيجعلني أتنقل بين أكثر من كتاب للحكيم، وكانت تنقصني الفكرة نفسها التي سأدخل بها على أكثر من عمل، وأخذت أقلب الأمر، وأنظر في صورة الحكيم التي على أغلفة بعض كتبه المفروشـة أمامي، وفي صورته التي في حجرة مكتبي والتي وزعتها ذات يوم دار الهلال مع أحد أعدادها ـ وكان هذا دأبها في السـبعينيات مع كل عدد هدية لصورة مفكر عربي معاصر ـ وذات نظرة لصورة الحكيم شد انتباهي البيريه الذي يضعه فوق رأسه، وقفز إلى رأسي ذكرى أول لقاء مع الحكيم في الإسـكندرية وكان يلبس هذا البيريه، في مقهى الشانزليزيه، في عـز الصيف، وقتها سألت نفسي: لماذا يضع الحكيم البيريه على رأسه ونحن الآن في فصل الصيف، وفي وسط النهار ..؟ وبالطبع لم أجرؤ على توجيه السؤال للحكيم وقتها، خاصة وأنه كان بين جمع من أدبائنا الكبار: نجيب محفوظ وثروت أباظة ود. يوسف عز الدين عيسى والشاعر عبد المنعم الأنصاري ـ الذي اصطحبني إلى مجلس الحكيم ـ والسياسـي إبراهيم فرج وغيرهم. ولكن ظلت صورة البيريه ماثلة أمامي إلى أن واتنني فكرة تبسيط بعض أعمال الحكيم عن طريق هذا البيريه الذي صورته فيما بعد على أنه أصبح جزءا من رأس الحكيم وتفكيره، تماما مثلما أصبحت العصا جزءا من يد الحكيم، أو كما يقول الحكيم نفسه "وكما أصبحت العصا ابنةً من الخشب بالنسبة لي، فهي تلازمني كأنها جزء من ذراعي، تنتقل معي، وتسير معي، ولا تغضب مني، ولاتملُّ من صحبتي.." .. تخيلتُ أن البيريه، أصبح صديقا له، لا يفارقه شتاءً وصيفا، فهو يلازمه كأنه أصبح جزءًا من رأسه، بل جزءًا من تفكيره، وتخيلت أنه كثيرا ما كان يناقشه في أفكاره وكتاباته ومقالاته ومسرحياته، وكثيرا ما كان يعرض عليه أفكاره ليتناقشا فيها. وخشيت أن يكون هناك من سـبقني إلى هذه الفكرة، بعد أن وقعت عليها وفرحت كثيرا بها، فاتصلت قبل أن أبدأ العمل، بالسيدة الناقدة زينب العسَّال مدير تحرير سلسلة "عين صقر" وشرحتُ لها فكرتي في التبسيط عن طريق البيريه الذي سيكون مدخلي عندما أشرع في الكتابة، فأعجبتها الفكرة وعرفت أنه لم يتقدم أحد من الزملاء بالحديث عن بيريه الحكيم على النحو الذي سأتحدث به في العمل، وعرفت منها حدود الصفحات المسموح لنا بها في الكتابة، وأنه من الأفضل عدم تدخل الكاتب الذي يقوم بالتبسيط بشخصيته هو، وإنما ينبغي أن يكون صوت الحكيم هو الذي يسري خلال العمل وليس صوت المبسِّط أو آرائه، وعلى هذا الأسـاس بدأت في الانتقاء والكتابة، ولكن مزقت ما كتبته في الصفحات الأولى بعد أن أشارت عليَّ زوجتي بأنني أنا الذي أتحدث مع البيريه وليس توفيق الحكيم. فبدأت أكتب من جديد، وكان مدخلي هذه المرة شعريا، لأنني قرأت على لسان الحكيم قوله: والشيء الذي أدهشني أن كثيرا من الأطفال والصبية قد رددوا هذا الكلام ( يقصد يا طالع الشجرة) وما زالوا يرددونه في بلادنا إلى هذا الوقت. فقلت على لسان الحكيم: لقد أحب البيريه أعمالي القريبة إلى الشعر، وكثيرا ما كان يردد في وقت خلوتي هذه الكلمات التي كتبتها في مقدمة مسرحية "يا طالع الشجرة" التي أقول فيها: يا طالع الشجرة هات لي معاك بقرة 
تحلب وتسقيني 
بالمعلقة الصيني ..". ولكني سرعان ما انتبهت إلى فكرة محورية من الممكن أن تجمع بين البيريه والحكيم في حوار متبادل، وتكون قريبة في الوقت نفسه إلى عالم الطفل وإدراكه الذي هو الهدف من وراء عملية التبسيط، ووجدت هذه الفكرة متمثلة في مسرحية "رحلة قطار" حيث الحركة مقابل السكون، وهو ما سـوف أبحث عنه في الكثير من أعمال الحكيم، حتى يتحقق الهدف من إبراز هذه الفكرة وزرعها في أعماق الطفل القارئ لهذا العمل. ولعل هذه الفكرة تبرز بجلاء ووضوح في نهاية تبسيطي وتلخيصي لهذه المسرحية، حيث تخيلت أن الحكيم يشرح للبيريه الهدف من وراء هذه المسرحية في السطور التالية: قلت للبيريه الذي كان يفكر معي أثناء كتابة أحداث هذه المسرحية: أنا مع الحركة، وضد السكون، فالحركة بركة، والسكون يعني الخمول الذي يؤدي في النهاية إلى الموت، ولابد للأشياء أن تتحرك، ولا بد للإنسان أن يتحرك، لأن الأشياء إذا توقفت، والإنسان إذا ظل ساكنا، فمعنى ذلك أنه لا يوجد حياة، فالحياة هي الحركـة، والحركة هي الحياة. هل رأيت أيها البيريه العزيز إنسانا يظل طوال حياته نائما، لا يأكل ولا يشرب، ولا يعمل .. ولا يتحرك ..؟ أو حتى نملة خامدة في الأرض لا تسعى إلى رزقها ..؟ وتعميقا لهذه الفكـرة قمت بعدة اختيارات بسطتها للأطفال من خلال أعمال الحكيم: مسرحية أهل الكهف، وقصة في سنة مليون، والحديث عن شخصية كليوباترا، وشخصية جحا باعتبارهما شخصيتين جذابتين تحركتا، أو تحدثتا، فتحرك معهما الناس، أو تحدث عنهما التاريخ. وبطبيعة الحال تخلل الحديث عن شخصية جحا بعض النكات المناسبة لسن الطفولة والتي نسبت إلى جحا في كتاب الحكيم، واختتمت "بيريه الحكيم" بتبسيط القصة الفكاهية "الأسطى عزرائيل" التي جاءت ضمن مجموعة الحكيم القصصية "أرني الله".
 
وبطبيعة الحال، اضطررت في بعض الأحوال إلى تغيير بعض الكلمات وحذف بعض المشاهد التي لا تتناسب مع سن الطفولة ـ وخاصة في مسرحية "رحلة قطار" ـ مثل مشهد الرقص والجنون والهوس الذي صار عليه الركاب جراء توقف القطار، وبعض عبارات الغزل الصريح بين بعض الشخصيات (مثل السيدة والمالي الذي أسميته في التبسيط رجل الأعمال) مثل قول السيدة للمالي: إني ألعب على المكشوف .. وغيرها، كما قمت بتغيير لفظ الوقَّاد إلى مسـاعد القطار، لأنه ربما لا يعرف الطفل معنى الوقاد، خاصة بعد التطورات التي دخلت على تكنولوجيا تصنيع القطارات، كما قمت في أحيان قليلة بشرح بعض الكلمات في الحواشي، وخاصة في شعر الحكيم مثل: دمقس، وأبدية. وكنت حريصا كل الحرص على اسـتخدام المعنى السهل المباشر ذي الألفاظ الواضحة التي تكون في متناول الطفل في هذه السن، مع اعترافي بأن عبارات توفيق الحكـيم في معظم أعماله عبارات سهلة وواضحة للكبار، غير أنه قد يلزم الأمرَ شيء من التغيير عند التبسيط والتلخيص.

وأخيرا أرجو أن أكون قد وفقت في هذا العمل الذي أمتعني أثناء كتابته لأنني وجدتها فرصة للرجوع ـ مرة أخرى ـ لقراءة معظم أعمال الحكيم التي سبق أن قرأتها في شبابي