قراءة في رواية الشمعة والدهاليز

وطار (شمعة) السؤال, و(دهاليز) الذات المتعالية

سعيد هادف عن جريدة الاشتراكي 23 فبراير2001

الطاهر وطار روائي له حضوره المتميز في المتن الروائي الجزائري. وهو إلى جانب ذلك مثقف خرج من صلب مجتمع هو خلاصة تاريخ حافل بالأحداث والصراعات والانكسارات. عايش فترة الاحتلال الفرنسي وثورة التحرير والاستقلال. لم يحدث أن غادر الجزائر التي ظلت محور أعماله الروائية. عرف جزائر الريف مثلما خبر جزائر المدينة وقد مكنته معرفته بالعالم الريفي من الفهم الأرض. كما مكنه استقراره بالعاصمة وتقلده لمناصب في مجال الإعلام من معرفة العمق المريض لهذا الوسط\المدينة. وما أفرزه هذا الوسط من سلوكيات وذهنيات مستلبة انعكست على الإيقاع السياسي والإداري. إيقاع ظل يفتقر إلى روح التمدن وما تقتضيه المدينة من زاد ثقافي وآداب التعامل وفن العلاقات. الطاهر وطار سجالي عنيد, لا يعرف المهادنة في مساجلة خصومه, عرف بمناصبته العداء للتيار الفرونكفوني إلى درجة التعصب أحيانا. يقول المقربون منه, خصوصا الذين عملوا معه في إطار الجمعية إنه يتميز بنزعة اقصائية غير أنه يتميز أيضا بدينامية نادرة ولولا استماتته وفعاليته لكانت "جمعية الجاحظية" في خبر كان.

إنها الجمعية الوحيدة (رغم ما توصف به من سلبيات وما تعانيه من صعوبات) التي استطاعت أن تحافظ على حضورها بشكل يكاد يكون منتظما سواء على صعيد الأنشطة أو على صعيد الإصدارات.

الطاهر وطار روائي من الرعيل الأول, من أعماله الروائية "اللاز" و"الزلزال" و"عرس بغل"- بعض أعماله مترجم إلى لغات أجنبية. روايته ما قبل الأخيرة "الشمعة والدهاليز" صدرت في نسخ محدودة سنة 1995 عن منشورات التبيين (الجاحظية) سلسلة الإبداع الأدبي. كما نشرت في حلقات بجريدة "أخبار الأدب".

الرواية مهداة إلى روح الشاعر والباحث يوسف سبتي الذي يقول عنه الروائي : "إنه كان يتنبأ بكل ما يجري قبل حدوثه, وهو الشخصية التي استلهمها الكاتب في عمله الروائي. الرواية تتألف من فصلين " فصل دهليز الدهاليز" و"فصل الشمعة" الفصل الأول يتكون من ستة مقاطع, والثاني يتكون من ثلاثة عشر مقطعا بين كل مقطع وآخر نجيمات توحي بالانتقال من حدث إلى آخر.

كما صدر الروائي عمله بمقدمة وقطعة قصيرة جدا ذات نفس شعري صوفي عنونها ب" طاسين الواحد والصفر". يوسف السبتي (المهدى إليه) أستاذ جامعي, باحث وشاعر, واحد المؤسسين للجاحظية واحد أعضائها النشيطين اغتيل في منزله. عرفته في نهاية الثمانينات في مهرجان شعري أقيم بمدينة عين الترك (ولاية وهران), عندما جلست إليه وجدت نفسي أمام شخص مختلف يطرح أسئلة أكثر مما يقدم إجابات, زاهد في كل شيء هكذا بدأ لي. في تلك الجلسة وجدت فيه المثقف القلق. ما إن تفاتحه في موضوع حتى يزج به في مختبر المسائلة والمرجعة حول موقفه من الحركة الفرانكفونية قال لي : إن ما يؤرقني هو أنني لم أتوصل بشكل كاف إلى معرفة الميكانيزمات التي تحرك هذا التيار."

عندما كتب الطاهر وطار روايته "الشمعة والدهاليز" كتبها وهو واقع تحت ضغط أسئلة مؤجلة " أسئلة التاريخ وأسئلة الواقع, أسئلة أفرزها واقع جديد. وضع حرج ومأساوي اختلط فيه الحابل بالنابل, والكاتب لا يجد حرجا في الاعتراف بأنه وضع "يحاول فهمه", وإذا كان هناك تاريخ حقيقي – يقول الكاتب- هو هذا الذي سيكتشفه القارئ, وعلى لسان الشاعر يقول "ومن لا يثور فضوله لمعرفة ما سيطر على عقول أجداده طوال خمسة عشر قرنا أبله" الرواية – واقعيا- تجسد الصراع المأساوي, الغامض, صراع الجزائري في أعماقه وفي محيطيه. في تاريخه وفي راهنه. الرواية وما اصطبغت به من إسهاب في الوصف من تفاصيل وجزئيات حول الأشخاص والحالات والأمكنة, عمل الروائي على هندستها بما يقتضيه التخييل من لمسات شعرية وواقعية سحرية, فضاءات من الحلم كمجال ينعكس فيه الواقع, جوهر الواقع وعمقه حتى يصبح أكثر تجليا في تمشهداته المرموزة والملغوزة, مستعينا بالتاريخ لإضاءة تمزقات الراهن الجزائري من خلال إشاراته الخاطفة والمركزة إلى اللحظات الكبرى والحرجة التي عبرتها الجزائر.

إنها استنطاق للتاريخ وإجابة لبعض فتراته (ص.20) وتقد للذات المتضخمة (ص.11), (ص.28) إدانة للسياسات الحاكمة ص(86/75/78), وأزمة الهوية (ص.143), (ص.171).

الشخصية المركزية في الرواية, شاعر وعالم اجتماع –عايش فترة الاحتلال طفلا, ابن قرية جبلية, ألتحق بمدرستها المخصصة للمحظوظين من أبناء الموظفين في الإدارة الفرنسية- هو الوحيد الذي شذ عن القاعدة, التحاقه بهذه المدرسة يبدو مقحما هو الذي لم يكن والده يوفر قوت أسرته إلى بشق الأنفس. والده كان يحلم له بمنصب رفيع حين يجيء الاستقلال, أما هو فكان يريد أن يكون (عازف ناي) في الأعراس. انتقل إلى الثانوية (الإسلامية الفرنسية) بمدينة قسنطينة, انفتحت شهيته على القراءة وأصبح مدمنا على المطالعة مظهره البدوي المثير للسخرية لم يثبط من عزيمته لقد أصبح صديق (القيم العام للثانوية) اليساري ذا الأصل الكورسيكي الذي لفت انتباهه إلى الفكر الماركسي. في الثانوية أصبح معروفا بالمهاتما غاندي, اكتسب هذا اللقب بسبب رأسه الحليقة, مظهره يبعث على الضحك غير أنه ذكي, جريء وسريع البديهة يعرف كيف يفحم خصمه بسخرية سوداء ولسان لاذع, بمرونة وتفكه فائقين.

البطل الذي أصبح معروفا فيما بعد بـ (هارون الرشيد), متشبع بالمعرفة القصووية والحس النقدي إلى درجة الهوس لا يكف عن تطعيم أحاديثه وتداعياته بحكم المتصوف وأقوال المعتزلة وأقوال روبيس بيار, حمدان قرمط, لينين, تروتسكي, أبو ذر الغفاري,... لا يكف عن انتقاد الوضع برمته الصحافة, التعليم, السياسة.. الطرقات, المواصلات, الذهنيات..كل شيء...حاول الغوص في الدهليز/ العمق الفسقي لمجتمعه – إنه تمظهر اللاوعي الجمعي, وهو لاوعي لم يأخذ كفايته من الإضاءة والتهوية- حيث اكتفت السياسات الحاكمة على اطماره بركام من الأغبرة الإيديولوجية بشكل أعمى وفارغ, سرعان ما تدفق بشكل تلقائي ومجنون ليتحول إلى طوفان مدمر.

البطل, الإنسان الشاعر وعالم الاجتماع مجموعة هواجس تساؤلات, عشق, عزلة, تمزقات..عندما كان طالبا كان يعشق الفلكلور والعزف على الناي, اغتنم فرصة حفل نهاية السنة الدراسية ليقدم نشاطا مختلفا تماما عن الحفل ذي الطابع الفرنسي, لقد قرر أن يجسد على الخشبة (رقصة مرواح الخيل), رقصة الفارس المغوار (الفارس البربري/ العربي) ببرنسه الأبيض. إنها رقصة تلخص تاريخا بأكمله, وهي الرقصة التي ظلت تسكنه طيلة حياته- بعد أكثر من ثلاثة عقود من ذلك الحفل شده الحنين (إلى مرواح الخيل), في غمرة التحولات ومظاهرات المدينة وفي عزلته بمنزله يخرج البرنس من حقيبته العتيقة, وعلى إيقاع فلكلوري مسجل على شريط كاسيت انخرط في رقصة صوفية مجنونة "الجزائري سليل الشياطين والملائكة, البحر والبر, الساحل والسهل, التل والصحراء, البربري, العربي, الفينيقي, الروماني, الوندالي, الأبيض الزنجي, الأصفر..سليل الحماقة والحكمة, ابن الوطنية والخيانة, القاتل المقتول.." كل ذلك كان يتداعى في خلده وهو يصول ويجول إيقاع الأغنية يزفر في أنفاسه وتشوقاته, وإيقاع التاريخ يخترق رأسه ويعصف بها..تينهنان عقبة, الكاهنة, الأندلس, بربروس, دونات, أوغستين الأمير عبد القادر.. العارم والخيزران..الثورة, رقصة مرواح الخيل, والخيزران الخيزران لا تأتي حين تأتي إلى حلما عصيا محفوفا بعواصف التاريخ وأسئلته الحارقة, الوجودية الأنطلوجية والميتافيزيقية ظل يبحث لها عن إجابات في الواقع, في التاريخ وفي المرأة..وفي حالات الوجد في رقصة (مرواح الخيل).

موضوع الرواية على صلة مباشرة بالأسئلة التي أفرزها الواقع المحلي والدولي. وهي الأسئلة التي ظلت تعصف بالواقع الجزائري."ما الذي حدث؟. "من المسؤول عن زرع الرعب والموت؟", " من يقتل من ؟," وهذا ما نجده في نهاية الرواية, النهاية المأساوية التي باغتت البطل حيث سبعة ملثمين وفي ساعة من الليل يقتحمون عليه منزله ثم يشرعون في محاكمته. المحاكمة كانت محاكمات أو هكذا أرادها الكاتب أن تكون. كل ملثم يمثل جهة أو تيارا أو موقفا. .الملثم الأول حكم عليه بالإعدام برصاصة في الصدر وطعنة في البطن التهمة معاداته للنظام الجمهوري الديمقراطي. .الثاني حكم عليه برصاصة في الرأس وطعنة في القلب, التهمة ممارسة السحر والشعوذة. .الرابع حكم عليه بالموت. التهمة الزندقة. .الخامس حكم عليه بالإعدام بعشر رصاصات في الرأس. التهمة معاداته لفرنسا والجزائر والإسلام والعروبة.. .السادس قدم مجموعة من الإدانات.. .السابع (لم ينطق ولم يقدم أي شيء.). كل بطل "الشمعة والدهاليز" ينظر إليهم وهو في حيرة من أمره غير أن سكينة ما كانت تنبسط في أعماقه. كان يقول في قرارة نفسه : "إن موتنا لا يعنينا, سأموت وحين أموت فموتي لن يعود يعنيني".. " إن موتنا لا يعني إلا الآخرين" قضى الأمر, ونفذ (الملثمون) حكمهم فيه في غسق الليل وفي جوف الصمت.