لماذا يتزوج بعض الرجال الشواذ جنسيا؟

صوت الأمة - 13 أغسطس 2002
دراسة بقلم أ.د.خليل فاضل زميل الكلية الملكية للطب النفسي ـ لندن


"أن تتظاهر بما هو ليس حقيقي، قد يبدو أن ذلك هو كل ما تبقي لك لكن أن تستمر في هذا التظاهر حتى نهاية عمرك، فإن ذلك هو العذاب بعينه" ـ هكذا قال تشايكوفيسكى بعد زواجه من تلميذته أنطونيا عام 1877. 

وعبد ربه (عبده)، جندي الأمن المركزي الذي لم يكن بطبيعته شاذاً جنسياً وإنما دخل إلى اللعبة وتورط فيها مع حاتم رشيد الصحفي الشاب بمزاجه ومن الطفولة بعد أن أحدث فيهالطباخ النوبي (إدريس) بؤرة متعة جنسية شرجية (عمارة يعقوبيان ـ علاء الأسواني).

في الرواية أبدع الأسواني في تشخيص حالة الصراع ومحاولة إخفاء ممارسة الشذوذ الجنسي لدي عبده عن زوجته لكنه لم يفلح، ودلف بسرعة إلي دائرة الإحساس بالذنب والألم، مما أدى به في النهاية إلي العنف الدموي الشديد، إلي هجر الأفندي الذي يغدق عليه المال والخدمات، وإلي ترك المكان والزمان. 

لكن هناك علي سطح كوكب الأرض، الكثيرون ممن لهم ميول وممارسات شاذة جانحة وغير طبيعية تتناول النفس والجنس وأشياء أخري ظاهرة وخفية.

(عبد ربه) كما ذكرنا سابقاً لم يكن بطبيعته شاذاً جنسياً، لكنه مع مرور الوقت اكتسب الشهوة واللذة الآثمة والدفينة، ليس فقط من أجل المكاسب المادية، لكن من أجل مكاسب نفسية وجنسية، لكنه و بعد زواجه وبعد خلفته وبعد موت ابنه الرضيع مريضاً، تفجر داخله الصراع الرهيب الذي صوره علاء الأسواني أروع تصوير انفعالي ووجداني: ( ظَل عبده واقفاً في وسط الحجرة حتى استجمع الأمر في ذهنه، ثم أصدر صوتاً غليظاً أشبه بحشرجة حيوان متوحش غاضب وانقض على حاتم يركله ويلكمه بيديه وقدميه، ثم أمسك به من رقبته وأخذ يضرب رأسه في الجدار بكل قوته، حتى أحس بدمه ينبثق حاراً لزجاً على يديه ). 

من الواضح أن حاتم رشيد، حينما كان صغيراً، لم يكن شاذاً بالفطرة، لكنه كان على ما يبدو كان على استعداد، فلم يشعر حاتم بنفور أو خوف عندما قبله إدريس، وكان حاتم في التاسعة، شعر بالخجل والارتباك عندما طلب منه إدريس أن يخلع ثيابه، ويقول الأسواني هنا ( ورغم شهوة إدريس و عنفوانه فلقد دخل إلي جسد حاتم برفق وحذر وطلب إليه أن يخبره إذا أحس بأدنى ألم)، ( حتى أن حاتم عندما يسترجع لقاؤه الأول بإدريس، لا يذكر أبداً أنه تألم) ـ مما يدل علمياً على أن حاتم رشيد كان لديه الاستعداد البيولوجي لأن يتحول يتشكل ويتكون مثلياً جنسياً ( شاذاً).

عودة إلي عبده الذي تحول أيضاً إلى شاذ عندما اصطاده حاتم وأغواه، وعبده أيضاً كان لديه الاستعداد النفسي والمادي لتقبل الأمر، وهو ما يوضحه المؤلف بقوله عن عبده (صار أكثر تقبلاً لعلاقتهما، ذهب النفور الأول، وحَل مكانه اشتياق لذيذ آثم، وكان هناك أيضاً المال والعز والثياب الجديدة والأكل الفاخر والأماكن الراقية التي لم يحلم عبده بدخولها يوماً) وهو أيضاً ما يتأكد بالتجربة الشاذة مع تكرارها وتذوق لذتها تتحول شيئاً فشيئاً إلي شهوة أصيلة عند الشاذ البرغل (الفاعل)، مهما كرهها ونفر منها في البداية] .

(علاقته بزوجته هدية ظلت متوترة، كانت سعيدة بحياتها الجديدة الرغدة، لكن شيئاً ما، عميقاً وشائكاً ظل يضطرم بينهما، يعلو يخبو ويتوارى أحياناً لكنه دائماً موجود، عندما يأتي إليها في الصباح بعد ليلة قضاها مع حاتم، يكون مرنبكاً وعصبياً، ويتحاشى النظر إلي عينيها ويعنفها بشدة على أقل هفوة).

ميكانزمات دفاع نفسية وحيل عقلية تتمحور حول الإحساس بالذنب، العدوانية المختبئة ـ على الذات تتحول إلي إسقاط على الزوجة، التكوين الضدي، فعل ظاهر مضاد لفعل باطن مخجل ومخز. هذا هو بالفعل الشاذ المتزوج، والسؤال الحار القاسي الآن هو لماذا يتزوج؟ لمجرد التحمل اجتماعياً؟ تري ما هي الآثار المترتبة عن ذلك الزواج؟ هل هي مجرد صراعات نفسية شديدة الوطأة؟ أم أن مسألة الشذوذ تلك هي حجر عثرة ضخم في طريق تحقيق التناغم الزواجي يعتقد أن الشاذين جنسياً يتزوجون استجابة لـ "ضغط اجتماعي" في مجتمع يكون فيه الشواذ أقلية ومنبوذون، وهنا فإن الشاذ المتزوج يدخل إلي نفسه وفي عمقها المجتمع بكل ضغوطه وعذاباته ومتطلباته، وهو هنا لديه إشكالية مزدوجة تتعلق بالتكيف مع مجتمعه والبيئة المحيطة به (الأولى تتعلق بما يفضله هو جنسياً؟ عشيقه (الرجل) وما يفضله المجتمع، العادات، التقاليد، الأخلاق، (المرأة) ـ (الزوجة) ـ العلاقة (السوية) ـ والعلاقة (الجانحة) ـ العلاقة المتشكلة مع زوجة لا يعرفها تماماً وأمامها علاقة مع (رجل) يعرفه جيداً بل ويعشقه ويستثمره مادياً. علاقة تكررت فاستمرأها.

يتزوج الرجل الشاذ جنسياً استجابة صريحة لضغوط اجتماعية لا يتمكن من تجاهلها منها أصدقاؤه وعائلته؟ وربما خطيبته، يتزوج أيضاً في محاولة صريحة لمسح وطمس وإخفاء (جنوحه الجنسي المثلي) ويتزوج الرجل الشاذ كذلك لرغبته ـ فعلاً ـ في الالتقاء بأنثى وفي تكوين عش زوجية، (زوجة وأولاد)، بمعني رغبة جامحة للهروب من (جحيم) العلاقة المثلية: أن نقول أن رجلاً ما شاذاً جنسياً ـ بمعني أنه يفضل العلاقة الحميمة مع رجل مثله على العلاقة مع امرأة ـ أو أنه لا يخلص إلا لعلاقته مع الذكر ـ فقط ـ لكن لب الموضوع هنا هو (استثمار المشاعر المثلية الشاذة) في علاقة ذات أهمية، لها معني وفحوى ومحتوى. وفي دراسة بلجيكية لاحظ الباحث (روس) أن بعض الرجال كان لديهم إحساس واشتياق وجاذبية تجاه الرجال قبل أن يتزوجوا نساءاً استجابة للعرف العام، لكن الرجل ذي الميول الشاذة ـ يجد نفسه قد تقدم في العمر، وأن كل أصدقائه تقريباً قد تزوجوا وهو لم يزل دون سبب واضح عازباً ووحيداً يحارب نزعاته غير المقبولة، وهو خائف من إقامة علاقة مع رجل تحنباً للآثار الوخيمة، وهو غيور من زملائه الذين يصادقون نساء ويخطبون بنات زي الشربات ويحكون عن غرامياتهم في استرسال واستمتاع لا حَد له. 

في دراسة أخري تناولت ستين رجلاً شاذاً جنسياً متزوجاً في كاليفورنيا تركز البحث حول الكوامن والأسباب خلف قرار الزواج خاصة فيما يهم الأمر الاجتماعي "تبين أن الشاذ عندما يتربى ويترعرع في مجتمع معاد للشذوذ فإنه يختلط ويتعايش مع الآخرين (العاديين) ولا يختلط بمن هم مثله من الشواذ ويلعب دوراً نمطياً عادياً يحوي في إطاره الزواج من امرأة. والرجل ذو الاتجاهات والميول الجنسية (الشاذة) تجاه جنسه يواجه بصعوبات وعقبات تجعله حائراً في وصف نفسه وتحديد هويته، ومن ثَم فهو يفتقد إلي القاموس اللغوي الاجتماعي والنفسي الذي يمكن أن يفسر به نفسه، ويضطر هنا إلى استخدام مفردات طبيعية تحوي الإعجاب بالمرأة والحديث عن فتنتها مثلاً ، ونجد الرجل الشاذ في مرحلة تطوره النفسي الاجتماعي تلك يتعرض لثقافة تكاد تؤكد على أن الرجل الشاذ لازم ولابد أن يكون مخنثاً (مع أن ذلك ليس حقيقياً)، أوأنه يلبس ملابس نسوية رقيعة (هذا نادر)، أوأنه يجب أن يغرم بالغلمان (ليست هذه هى الحالة دائماً) مما يخلق نموذجاً للرجل الشاذ قد يكون بعيداً عن الحقيقة والواقع بمعنى أن الرجل الشاذ أو ذا الميول الجنسية المثلية قد يبدو عاديا جدا ورجلاً جداً لكنها نفسه وروحه وعقله التي ترغب إقامة علاقة مثلية مع مثيله الرجل. 

تطرح دراسة أخري مسألة (التناقض الاجتماعي الحاد) حيث يتأكد ـ خطأ ـ عند بعض الناس أن الرجل الشاذ ـ لازم ولا بد أن يمارس الجنس مع رجل آخر، وهذا هو كل الأمر وأن الرجل الشاذ إذا ما مارس الجنس مع امرأة انتفت مسألة الشذوذ من عنده، في تلك الدراسة تبين أن 48 في المائة من عينة الرجال الذين وسموا بالشواذ مارسوا الجنس الكامل مع نساء في مرحلة ما من حياتهم. المسألة إذاً معقدة ومركبة وتحتاج إلي أسئلة عميقة تركز على هذا الأمر ولا تخرج عن ستة محاور: 

·الرجال الشواذ جنسياً ـ المتزوجون ـ أقل في مقاومتهم النفسية للضغوط الاجتماعية وأنهم أقل تكيفاً (نفسياً) مع واقعهم المعاش. 

·أن هؤلاء الرجال الشواذ الذين أحسوا بميولهم نحو الرجال قبل زواجهم من نساء تزوجوا من أجل خفض درجة التوتر المتعلقة بشذوذهم. 

·أن هؤلاء الرجال الشواذ المتزوجين يظهرون تقبلاً للتقاليد العامة خلافاً لهؤلاء الرجال الشواذ الذين لم يتزوجوا قط .

·أن معظم الرجال ذوي الميول الشاذة جنسياً قد تزوجوا قبل سن الـ 25 وأن وحدتهم وعدم قدرتهم على التمازج مع مجتمعهم كانت أكبر الأسباب وراء زواجهم. 

·أن هؤلاء الرجال ذوي الميول الشاذة جنسياً قد حاولوا جاهدين تغيير تفضيلهم وإحساسهم الجنسي العام من الرجال إلي النساء وبذلوا مجهوداً في هذا الصدد. 

·أن أهم الأسباب لزواج الرجل الشاذ تكمن في الضغوط الاجتماعية، الأسرية وأيضاً من المرأة التي قد تكون أحبته وارتبطت به.

ومن هنا تنبع ثلاثة تساؤلات تتعلق بآثار زواج الرجال الشاذين جنسياً أو ذوي الميول الشاذة:

·أن قسماً كبيراً منهم قد اكتشف ميله نحو نفس الجنس الآخر (المرأة) ، وأن زواجه من أنثي بين ووضح وفسر له الفرق في الرغبة والاتجاه إلي كل من الجنسين ودرجة رد الفعل الاجتماعي في الحالتين، وكذلك درجة التكيف النفسي قبل وبعد الزواج. 

·أن الرجال الشاذين جنسياً قد أخفوا ميولهم الجنسية نحو الرجال أمثالهم ـ خاصة ـ بعد زواجهم وجعلوا الأمر سراً مطلقاً. 

·أن درجة التوتر العالية، وعدم القدرة علي التأقلم الاجتماعي والتكيف النفسي لدي الرجال الشواذ المتزوجين إنما هي نتيجة الزواج وكافة الضغوط المتعلقة به وليس الخوف أو الفزع أو الحرج من اكتشاف ميولهم الجنسية نحو الذكور. 

السؤال المهم هنا هو هل يلجأ الرجل الشاذ جنسياً إلي الانفصال أو الطلاق عن امرأته أحياناً؟ الإجابة: نعم ولكن ليس بدرجة أكبر من الرجال (العاديين) الذين يتزوجون وينفصلون لأسباب شتي لا تتعلق بالشذوذ أو حتى الميول غير الطبيعية، لكن وجد أن انفصال الشواذ مرتبط بدرجة أعلي من الإكتئاب وعدم تحمل القدرة على العيش مع امرأة. من الطبيعي ألا يترك موضوع الشواذ الرجال إلا وتبقي ضرورة علمية لمناقشة موضوع الرجل الثنائي الرغبة الجنسية Bisexualأي الرجل الذي يعشق المرأة ويحب الرجل بل و له علاقات جنسية كاملة مع كل من الجنسين، ولا يجد غضاضة في ذلك، والإزدواجي الميل الجنسي مختلف عن (الخنثى): الإنسان الذي يحمل تشريحياً بعض من أعضاء الرجل وبعض من أعضاء الأنثى التناسلية وهنا فإن الــ Bisexual يستمتع بالعلاقة العاطفية والجنسية مع كل من الرجل والمرأة؟ لكن هل يفضل ذاك حباً عن الآخر : تحدد المسألة مجموعة عوامل منها رؤيته لنفسه، وضعه الاجتماعي، نشاطاته، رغباته، دوره الوظيفي، الأسري والاجتماعي، وهنا وبكثير من الحذر يمكن القول أن (عبده) في رواية الأسواني (عمارة يعقوبيان) ثنائي النشاط الجنسي لكنه ـ غالباً ما يفضل المرأة على الرجل وإلا لما انتابه ذلك الإحساس العظيم بالذنب وذلك الغضب القاتل تجاه رفيقه الجنسي (حاتم رشيد)، وهو أيضاً غير تقليدي لأنه تمكن في زمن واحد من أن ينام مع امرأته لتحمل منه ويستشعر اللذة وينام أيضاً مع رجل، نام معه قبل امرأته ولا تصيبه العنة ولا النفور بل ربما كما هو واضح بين السطور أنه يظل فاعلاً ومستشعراً اللذة الآثمة والشهوة الدفينة، لكن من مضمون ذلك يتبين لنا اصطلاحاً مبهماً ألا وهو "الثنائي الجنسية الدفاعي" Defense Bisexual أي أنه يدافع عن رجولته بأن تكون له علاقة مع امرأة ويدافع عن شذوذه بإبقاء علاقته مع رجل، وهؤلاء الرجال لا يقرون ولا يودون أن يقال عنهم أنهم شواذ يفضلون وصفهم بأنهم طبيعيين ذوي ميول جنسية غريبة؟ 

في الغرب يجد الرجال الشاذون الشجاعة لإخبار زوجاتهم المرتقبة بشذوذهم وهنا تكون الأمور أكثر وضوحاً وأقل شدة، أما الرجال الذين يستمرون في الحفاظ بأسرارهم يتوترون وتصيبهم الكآبة والانغماس داخل أنفسهم وهذا ما حدث لعبد ربه مع زوجته هدية في عمارة يعقوبيان.