لم يكن طه حسين قصاصا بارعا، فأين تكمن جاذبيته إذن؟

المعذبون فى الأرض

سبق أن تناولتُ بالنقد رواية الدكتور طه حسين "دعاء الكروان" قبل نحو عشرين سنة، وكان رأيى أنها ليست من فن القصة بمكانٍ يُذْكَر، وذكرتُ الحيثيات التى أقمتُ عليها هذا الحكم. وهذا النقد موجود فى كتابى "فصول من النقد القصصى"، الذى صدر فى طبعته الأولى سنة 1984م (ثم ظهرت له بعد ذلك طبعتان أُخْرَيَان)، فيمكن الرجوع إليه لمن يريد أن يطَّلع على رأيى فى هذه الرواية وتحليلى لها فى الفصل الثانى من الكتاب المذكور. ومع ذلك فإنى لا أخفى أبدا حبى لقراءة طه حسين، فأنا فعلا أستمتع بكتاباته بوجه عام بما فيها قصصه ورواياته رغم رأيى السئ فيها، فما السبب فى ذلك يا ترى؟ إننى دائم الرجوع لأعمال الرجل بين الحين والحين، وكلما قرأت له شيئا أجد أن متعتى بما أقرأ لا تزال كبيرة وقوية، بل أحيانا ما أجد أنها قد ازدادت قوة مع الأيام بفعل تنامى قدرتى على التذوق العميق واستطاعتى إبصار أوجه الجمال وتعليل هذا الجمال الذى تتمتع به، وذلك رغم اختلافى العنيف مع ما يقوله الدكتور طه فى بعض القضايا التى تمس الإسلام والعروبة والمعايير التى ينبغى أن تحكم علاقتنا نحن المسلمين بالغرب وحضارته.

فأما كتاباته التى ليس فيها شىء مما أختلف مع المؤلف فيها اختلافًا حادًّا فأمرها مفهوم، سواء كانت فى الأدب أو النقد أو الإسلام مما لا يحتوى على شىء من آرائه أو مواقفه المتهافتة ضد دين النبى محمد مما يوجد مثلا فى كتابيه: "فى الشعر الجاهلى" و"مستقبل الثقافة فى مصر". وأما فى الكتابات التى يتخذ فيها (أو فلنقل: التى نرى أنه يتخذ فيها) مواقف ويعلن آراء لا تتماشى مع ديننا، بل ربما ناقضته وعملت على التخوّن منه وتدميره، فإننا نجد، إلى جانب الضيق بهذه المواقف وتلك الآراء، بل والسخط عليها وعلى الفكر المنحرف الذى يقف وراءها ويسيّرها، غير قليل من المتعة التى نجدها فى كتاباته الأخرى، ومثلها فى ذلك رواياته وقصصه القصيرة التى نرى أنها ليست من الفن القصصى بمكان يُذْكَر كما سلف القول، ولكننا مع ذلك نستمتع بها من زاوية أخرى. فما السر يا ترى؟ إننى مثلا كثيرا ما أؤكد للطلبة أن كتاب طه حسين فى "ذكرى أبى العلاء"، رغم أنه قد ألفه وهو لا يزال شابا غض العود لم يبرح مصر ويتصل بالثقافة الغربية فى مهادها اتصالا مباشرا لا مجرد سماع أو ملامسة عن طريق القراءة وحدها، ورغم أنه، فيما أتصور، لم يكتبه تحت توجيه مشرف بالمعنى الذى نعرفه اليوم فى رسائل الماجستير والدكتوراه، بل رغم أنه ليس فى الواقع رسالة ماجستير أو دكتوراه بالمعنى المعروف بل بحثا كان عليه أن يكتبه فى نهاية دراسته فى الجامعة المصرية القديمة قبل أن يتخرج، ورغم أن ثمة شططًا وغلوًّا فى بعض الآراء الواردة فيه،

وكذلك فى المنهج الذى اتبعه صاحبه والذى يرى أن الإنسان بوجه عام (ومن ثم أبو العلاء أيضا) هو نتيجة حتمية لبيئته لا يستطيع عن ذلك خروجا، وإن كان قد رجع عن هذا الرأى فى بعض كتاباته فيما بعد ثم عاد إليه كَرَّةً أخرى على ما وضحتُ فى كتابى "مناهج النقد العربى الحديث" (ط 2/ مكتبة زهراء الشرق/ 2004م/ 194- 162)، هذا الكتاب قلما يستطيع باحث من باحثى هذه الأيام السطحيين أن يكتب مثله، سواء فى الأسلوب أو فى التخطيط بغض النظر عن موافقتنا على آرائه فى هذا الكتاب كلها أو بعضها أو لا. وبالمثل فإننى، رغم انتقادى الشديد لبعض قصص "المعذَّبون فى الأرض" لما فيها من سطحية وسذاجة فى الفن القصصى أو فى النظر إلى الحياة ذاتها على السواء، ورغم أنى أرى فى كلام من يُثْنُون عليها من النقاد من الناحية القصصية ويحاولون أن يُبْرِزوا أثرها الاجتماعى مبالغة شديدة لا تنهض على أساس من الواقع، رغم هذا وذاك فإنى أقرؤها الآن وأجد فيها متعة، ومتعة كبيرة فى بعض الأحيان، لا كفن قصصى بل كأسلوب لغوى متميز وروح تهكمية وتصوير فنى ليس إلا. وهذا هو ما أريد أن أوضحه هنا.

لقد قيل كلام كثير عن أثر كتاب "المعذبون فى الأرض" فى فضح التفاوت الطبقى الرهيب الذى كان سائدا فى بلادنا قبل الثورة وقوانين الإصلاح الزراعى والعمل والعمّال التى صدرت بعد قيامها بقليل، ذلك التفاوت الذى يقول طه حسين إنه جعل يلتفت إليه ويحس بما يترتَّب عليه "من هذه الفروق الحائلة بين الأغنياء المترفين والفقراء البائسين" منذ اتصل بــ"جريدة" أحمد لطفى السيد، وبمن حوله من المطربشين أصحاب الثراء العريض والمنزلة الاجتماعية العالية (الأيام/ ط 29/ دار المعارف/ 1981م/ 2/ 173). لكن الذى يقرأ الكتاب بعيدا عن هذه الدعاوى (أو فلنقل: بعيدا عن هذه الدعاية) سوف يفاجأ بأن الأمر ليس على هذا النحو دائما، وليس إلى هذا الحد أيضا: فبعض القصص لا علاقة لها بالمشكلة الطبقية من قريب أو بعيد كما فى قصة "خديجة"، الفتاة التى تَقَدَّم لها رغم فقرها النسبى شاب من أسرة أيسر من أسرتها، لكنها لم تكن سعيدة مع ذلك بهذا الزواج وانتهى أمرها بالانتحار، ولا ندرى لماذا، وهو ما يشكِّل عيبا كبيرا فى القصة، لكن هذه نقرة أخرى. وبعضها رغم علاقته بمشكلة الفقر بوجه عام لا تتناول هذه المشكلة من الناحية الطبقية ولا من الناحية الوطنية، أى على مستوى القطر كله، بل من ناحية الوضع الذى يحكم العلاقة بين بعض الأغنياء فى هذه القرية أو تلك وبعض الفقراء الذين يقومون بخدمتهم أو يتصلون بهم عن قرب فيُنْعِمون عليهم ببعض ما يفيض عن حاجتهم من طعام أو لباس أو ما إلى ذلك، وتنتهى المسألة عند هذا الحد.

بل إننا لنرى أن المؤلف، فى القِصَص التى نحس أنه قد أراد فيها فعلا أن ينبّه إلى حدة المشكلة الطبقية، لم يقدر على أن يُشْعِرنا بأن هناك مشكلةً حادة، إذ إن أحداث القصة وطريقة معالجته لها لا تعطينا هذا الانطباع، بل تقول إن حل المسألة بسيط سهل، فها هى ذى ربة البيت الميسور مثلا لا تتوانى عن التصدق بما تستطيع على هذا الطفل المحروم أو تلك البنت التعيسة، وبذلك ينتهى الأمر. أليس الطرف الأول قد أدى واجبه الدينى والإنسانى وأخرج من ماله ما سدَّ به حاجة الطرف الثانى؟ ثم أليس الطرف الثانى المحتاج قد حصل على ما كان ينقصه وانصرف به قرير العين؟ إذن فما المشكلة؟ إن القارئ لا يستطيع أن يحس بفداحة المشكلة بسبب ضعف الفن القصصى لدن الدكتور طه. إنه ليس قصاصا موهوبا، بل ولا ناقدا قصصيا ممتازا، فهو يصرف معظم نقده القصصى فى تلخيص العمل الذى ينقده دون أن يستطيع تحليله فنيا إلا فى أضيق نطاق، أو حتى تقديمه فى انطباعات حية تغرى بقراءته كما كان الدكاترة زكى مبارك مثلا يفعل حين يتناول عملا قصصيا على ندرة ما كان يتناول هذا اللون من الأعمال الأدبية مثلما هو الحال فى كتابه الذى جمعت فصوله ابنته كريمة بعد وفاته وسَمَّتْه: "زكى مبارك ناقدا"، إذ نجد فيه نقدا لرواية محمود تيمور: "نداء المجهول"، ومجموعة "الأجنحة المتكسرة" لجبران، وإن كان للدكتور طه مع هذا أسلوب ندر أن يُرَى له نظير رغم أن بعض من فُتِنوا بهذا الأسلوب قد عملوا بكل جهدهم على احتذائه والنسج على طريقته كما هو الحال مثلا مع إبراهيم الإبيارى فى كتابه الذى ترجم فيه لنفسه وقلّد فيه كتاب الدكتور طه: "الأيام" فسماه بدوره: "مع الأيام"، إذ إن هؤلاء المقلدين، وإن أمكنهم اصطناع بعض سمات الأسلوب الطَّاهَوِىّ، لا يستطيعون فى الحقيقة نقل روحه ونكهته الخاصة التى تستعصى على التقليد، علاوة على أنهم فى تقليدهم يفتقدون إلى المرونة التى فى الأصل.

لقد سلف القول بأننى قد تناولت فى كتابى: "فصول من النقد القصصى" رواية "دعاء الكروان" للدكتور طه حسين بالنقد، وكان رأيى فيها غير طيب بالمرة لما فيها من سذاجة فى تصوير الحياة والشخصيات وخَلَل فى البناء السَّرْدِىّ وعلوّ لغة الحوار كثيرا عن مستوى المتكلمين، وبخاصة أمينة بطلة الرواية، وغير هذا مما يجده القارئ فى الفصل الثانى من الكتاب المذكور. وهأنذا أعود لقراءة "المعذبون فى الأرض" بعد أن كنت قرأتها منذ سنوات طوال جدا، فأجد أن رأيى فيها لم يتغير، فهى مملوءة بالعيوب الفنية التى تنبئ عن أن طه حسين ليس قصاصا كبيرا: فهو مثلا قد يبدأ قصته بمقال قد يكون فى نفسه قطعة أدبية ممتعة، لكنه لا يمكن أن يُعَدّ جزءا عضويا من القصة بحال، بل نصًّا منفصلا قد أُلْصِقَ بها إلصاقا. ففى بداية قصة "المعتزلة" (ص 80- 87) نجده يمضى فيتكلم عن التفاوت الطبقى بين الفقراء والأغنياء ويقول كلاما جميلا عن وجوب الأخذ بناصر المحتاجين، مع توبلة ندائه هذا بشىء من التهكم الخفى الذى يبدو وكأنه يبارك هذه الأوضاع الإنسانية المزعجة، بينما هو فى الحقيقة يحمل عليها بكل قوة، بَيْدَ أن ذلك كله لا يشفع فنّيًّا لهذه الإضافة المجتَلَبَة اجتلابا.

إنها، كما قلت، قد تكون مقالا رائعا فى حد ذاته، لكنها لا يمكن أن تكون جزءا عضويا من القصة. إنها عبء إذا نظرنا إليها من الناحية القصصية، ومتعة بارعة إذا قرأناها على أنها مقال منفصل لا علاقة له بالعمل القصصى. ثم إن الكاتب، بعد ذلك، يستمر فى الطيران خارج سماء العمل فيدخل فى الحديث عن القواعد التى يضعها النقاد لضمان جودة الكتابة القصصية مؤكدا أنه لا يبالى بما يقوله هؤلاء النقاد لأنه لا يحب لأحد أن يحجر على حريته فى كتابة ما يريد أن يكتب عنه، وبالطريقة التى تعجبه... إلى آخر هذا الكلام الذى سبق أن قاله أو قال شيئا شبيها به فى تضاعيف قصة "صالح" (ص 14 فصاعدا) قاطعًا تيارها فى أكثر من موضع ليدخل مع القارئ فى حوار من طرف واحد ينتهزه ليعلن رأيه فى القواعد المذكورة ومؤكدا هنا أيضا حريته التامة فى أن يقول ما يشاء عمن يشاء، وبالأسلوب الذى يشاء، وهو نفسه أو قريب منه ما فعله فى الصفحات الأولى من قصة "صفاء" (ص 121 وما بعدها).

كذلك فإن هذه الأقاصيص يغلب فيها العنصر السردى على الحوار فلا يترك له مجالا كافيا يتنفس فيه بحرية، وهذا عيب من العيوب التى كانت القصص والروايات تعانى منها على أيدى غير الموهوبين فى هذا الفن فى بعض مراحله السابقة. كما أن الحوار الذى يجريه الكاتب على ألسنة أشخاص قصصه لا يتناسب عادة معهم لا من الناحية اللغوية ولا من الناحية النفسية. إن طه حسين لم يستطع هنا أن ينسى أنه طه حسين، ومن ثم لم ينجح فى أن يتخلى عن أسلوبه العذب الجميل فاصطنعه دائما لأبطاله بغض النظر عن مستواهم الاجتماعى أو الثقافى، فكلهم يتكلم بلسان طه حسين ويستعمل لغته الأنيقة العذبة التى لا نكران فى أنها ممتعة فى حد ذاتها بوصفها لغة طه حسين الأديب الذى نعرفه ونحب أن نقرأ له مقالاته ودراساته، وليس بوصفها لغة هذه الشخصية أو تلك من شخصيات قصصه. وفضلا عن هذا كله فإن نهايات بعض القصص تفاجئنا بما لا يقنعنا، أو تعانى من بعض الغموض، أو يبترها الكاتب بترا ولا يعطيها الوقت والعناية اللازمين لإنضاجها وإقناعنا بها وجعلها مريحة فنيا بدل القلق الذى تبذره فى ذهن القراء من جراء العيوب التى تحدثنا عنها آنفا.

لنأخذ مثلا هذه العبارات التى التقطتُها من أفواه بعض شخصيات المؤلف من بين الفلاحين والصيادين المُدْقِعين ومن على شاكلتهم. ترى أمن الممكن أن تتحدث بنتٌ أُمِّيّةٌ ريفيةٌ شديدةُ الفقر إلى أمها بهذا المستوى اللغوى الراقى وفى الظروف الذى قيل فيها: "تريدين أن تعلمى أين ذهبتُ، وماذا كنت أصنع حين انسللتُ من البيت فى ظلمة الليل. فاعلمى إذن أنى لقيت زوج عمتى غير بعيد من مزرعته وأقمتُ معه ما أقمت، ثم رجعتُ حين كاد الصبح أن يُسْفِر. أعلمتِ الآن ما كنتِ تجهلين؟ أراضية أنت بما عملتُ؟" أو أن ترد عليها أمها قائلة: "ومتى لَقِيَتِ الفتياتُ أزواجَ عماتهن فى جنح الليل؟ إنك لَتَلْقَيْنَه فى وضح النهار" (ص 55)؟ كذلك فإن خاتمة قصة "رفيق" تأخذنا على حين بغتة، ولا تفصح لنا عما يريد الكاتب أن يقوله. ذلك أن القصة تتحدث عن حب بين فتى وفتاة نصرانيين انتهى بالاتفاق بين الأسرتين على ما يشبه خِطْبتهما. لكن ما طرأ من ارتقاء فى المستوى الاجتماعى لأسرة الفتاة قد أدى إلى تجاهلهم تلك الخطبة التى اتُّفِق عليها وقبول خطيب آخر لها يتفوق على الأول مكانة ووظيفة ومالا، مما آلم الفتى وجعله ينطوى على نفسه، فيظن أهله أنه قد نسى المسألة، على حين أنه كان يدبر فى نفسه أثناء ذلك أمرا لم يفصح أى من تصرفاته عنه أو يومئ إليه بل أومأ إليه المؤلف نفسه من بعيد، لنفاجأ فى نهاية القصة بأنه كان نائما على قضيب القطار ينتظر الموت حتى جاء القطار فشطر جثته شطرين، وأن البنت "قد أصبحت مزوَّجة كالمطلقة، ففصمت تلك العروة التى عقدها القسس والتى لا يفصمها إلا الموت" (ص 149). وهكذا تنتهى القصة وأم الفتاة ووالدا الفتى يبكون جميعا ويندبون حظهم التعيس.

وهذا كل ما هناك! فالكاتب لم يحاول أن يتدسس إلى نفس القتى لنعرف ماذا كان يزمع أن يفعل، أو على الأقل ماذا كانت مشاعره بالضبط تجاه فصم الاتفاق الذى كان بين الأسرتين، علاوة على أن ما قاله كاتبنا عن استجابة الفتاة لذلك الفسخ ولو ظاهريا قد أوهمنا أن الأمر لم يزعجها كثيرا، إذ هى بنت، ومتى كان للبنات فى مثل هذا المجتمع رأى غير ما يقوله رجال البيت؟ كما أن الهدايا التى أخذت تتتالى عليها من خاطبها الجديد وكونه موظفا ذا مكانة ومرتب مضمون قد أدخل على قلبها شيئا من السلوى بحيث إننا نؤخذ على غرة بنهاية القصة وما فيها من إشارة إلى أنها "قد أصبحت مزوَّجة كالمطلقة". ترى ماذا يقصد المؤلف بالضبط؟ إنه، لِشديد الأسى والأسف، قد اختصر الكلام اختصارا فلم يستطع، كما سبقت الإشارة، أن يمهد لهذا الذى قد حدث، بل لم يستطع أن يساعدنا فى فهم هذا الذى قد حدث!

ليس ذلك فحسب، بل هناك السذاجة المتمثلة فى إثارة بعض الأشياء التى لا يستلزمها الفن القصصى بوجه عام ولا القصة التى يكون الكاتب بصدد حكايتها لنا بوجه خاص: ففى مفتتح قصة "قاسم" الصياد الفقير الذى ستزلّ ابنته مع زوج عمتها بسبب إغوائه إياها ببعض الأساور التافهة الحقيرة التى تَكْلَف بها بنات الريف ولا يجد كثير منهن ما يشترينها به من مال رغم قلته وتفاهته وما إلى ذلك، نرى الكاتب يصف لنا فى عدة صفحات منعطفات الطريق الذى كان يسلكه الصياد فى طريقه إلى النهر ومشاعر الخوف التى تنتابه وهو يمشى وحده فى ظلمة الليل قبيل الفجر قاصدا الماء وكيف كان يدفعها بقراءة بعض آيات الذكر الحكيم الكفيلة فى اعتقاده بطرد العفاريت...إلخ (ص 42- 45)، رغم أنه لا علاقة لشىء من ذلك كله ببقية أحداث القصة، وبالذات بنهايتها. وبالمثل نرى المؤلف يبذل جهده فى نفى ما يمكن أن يعترى القارئ فيدفعه إلى الظن بأن خديجة بطلة القصة التى هو بسبيل روايتها "قد نزلت من السماء كما تنزل الملائكة رحمةً ورَوْحًا على الأرض، أو خرجت من النهر كما كانت العذارى يخرجن فى الزمن القديم من الجداول والأنهار ومن العيون والينابيع، أو حملها إلينا السحاب أو أرسلها إلينا نجم من النجوم، بل نشأت فى القرية" (ص65)! الله أكبر! ومتى كان الناس فى مصر أو فى غير مصر، فى عصرنا هذا على الأقل، يمكن أن يقعوا فى هذا الظن حتى يجهد المؤلف نفسه فى نفى هذا الوهم؟ إن مثل هذا الكلام، من ناحية أصول الفن القصصى، هو ترف سخيف لا معنى له ولا داعى لتضييع الوقت والحبر والصفحات والجهد فى تحبيره! لكنه من ناحية اللغة التى كُتِب بها شىء آخر له جاذبيته وحلاوته. فما هى إذن تلك السمات التى تميز أسلوب الدكتور طه وتجعل لكتاباته هذه الجاذبية والحلاوة حتى ليمكن أن نستعيض بها عن العيوب الفنية التى فى أدبه القصصى كما هو الوضع فى كتاب "المعذبون فى الأرض"؟

من أهم ما يستلفت نظرنا فى أسلوب د. طه بروز الطابع القرآنى فيه بروزا قويا غلابا. لكن هذا الطابع لا يأخذ شكل الاقتباس المباشر عادة، ولا يتوقف عند التأثر ببعض العبارات فحسب، وإلا لما تميز الأسلوب الطَّاهَوِىّ عن كثير غيره من الأساليب التى تحتذى أسلوب القرآن ثم تتوقف فى الغالب عند نقل هذه العبارة أو تلك منه إليها. إن المسألة لدى طه حسين تتخذ أشكالا أُخَرَ عادة، أما الاقتباس المباشر فهو قليل. وعجيب أن يكون تأثير القرآن على الدكتور من القوة إلى هذا المدى، وهو الذى استفتح محاضراته فى الأدب العربى بالجامعة المصرية بالتشكيك فى هذا الكتاب! لكن ما العمل، وهذا هو الواقع الذى لا يمكن أىَّ مكابر أن يجادل فيه؟ إنه يدل على أن للقرآن سطوة غلابة، وأنه إذا كان طه حسين قد تطاول عليه يوما فإنه فى أعماقه يرى فيه رأيا آخر. ومظاهر تأثر أسلوب الدكتور طه بالقرآن متعددة: فقد يتمثل ذلك فى استعماله لفظا قرآنيا نستعمل نحن الآن بوجه عام لفظا آخر غيره، وقد يتمثل ذلك فى لجوئه إلى صيغة صرفية وترك صيغة أخرى أكثر شيوعا لا لشىء سوى أن الأولى هى الصيغة التى وردت فى القرآن. وقد يتمثل ذلك فى اقتباسه عبارة قرآنية، وإن كان الدكتور فى العادة يحدث فيها بعض التحويرات أو يوردها فى سياق يختلف عن سياقها القرآنى بحيث لا يلتفت الذهن إلى قرآنيتها رغم وضوحها. وقد يتمثل التأثر فى استخدامه تركيبا قرآنيا لم يعد أحد يستعمله إلا الأقلون إن وُجِدوا. والمهم أن الدكتور فى كل هذا يفعل ذلك بثقة وبساطة وكأنه يتنفس حتى إننا لا نجد فى الأمر أية غرابة إلا إذا وقفنا ودقَّقْنا النظر.

والآن مع هذه الشواهد التى يقتبس فيها الدكتور طه، على طريقته، بعض عبارات القرآن الكريم، وكلّها من "المعذبون فى الأرض": "والصبى على ذلك كله باسطٌ يدَه إلى رفيقه بهذه الطاقة الساذجة الخشنة من زهر الحقول" (ص 17). وهى مأخوذة من قوله تعالى فى الآية 14 من سورة "الرعد": "كباسطِ كَفَّيْه إلى الماء ليبلغ فاه". ويستطيع القارئ أن يدرك بسهولة ما يميز بين الاستعمالين: فـ"الكفّان" فى القرآن تحولتا إلى "اليد" عنده، كما أن الإضافة هناك بين "باسط" و"كفّيْه" قد فُكَّتْ هنا، فضلا عن اختلاف السياق هنا وهناك كما هو ظاهر، إذ هنا "رفيق"، وهناك "ماء". ومن الشواهد أيضا على هذه السمة قوله: "فلم يكن بُدٌّ إذن من تفقّد هذه الأختام...وعقاب الصبى أو الفتى إذا مُحِيَت آية الختم عن فخذه قبل الأوان" (ص 29)، الذى يتعلق أشد التعلق بقوله سبحانه: "فمَحَوْنا آية الليل وجعلنا آية النهار مُبْصِرة" (الإسراء/ 12) رغم اختلاف السياق والجو والموضوع والتركيب، هذا الاختلاف الذى يدل على أن تأثر طه حسين بأسلوب القرآن هو من العمق بحيث يتسلل حتى إلى المناطق التى لا يُتَّوَقَّع ظهوره فيها. ومن هذه الشواهد أيضا قول كاتبنا: "ولكن الأتراب والرفاق أعرضوا عن صالح وأمين واتخذوهما عَدُوًّا" (ص 30)، وهو يجرى فى أثر قوه جل جلاله مخاطبا البشر يحذرهم من إبليس: "إن الشيطان لكم عدو، فاتخذوه عَدُوًّا" (فاطر/ 6).

ومنها كذلك قوله: "وجعلوا يكيدون لهما ويمكرون بهما" (ص 30)، فهو من قوله سبحانه: "كذلك كِدْنا ليوسف" (يوسف/ 76)، أما غير طه حسين فيقولون: "يتآمرون عليهما". ومن هذا الوادى قول المؤلف: "الذين يسوقون الأحاديث لا يقدّمون بين يديها هذه المقدمات" (ص 35)، فهو يراعى قوله عزَّت قدرته: "يا أيها الذين آمنوا، لا تقدِّموا بين يَدَىِ الله ورسوله" (الحجرات/ 1) رغم ما بين الأصل والفرع من اختلاف فى المجال وفى بناء الكلام. ومن هذا الوادى أيضا قوله: "ولكنى أعلم أن أبا أمين راح إلى أهله حين تقدم الليل" (ص 41)، فهو يردد صدى قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: "فراغَ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمين" (الذاريات/ 26)، والفرق لا يزيد عن تبديل "غين" الفعل فى الجملة القرآنية إلى "حاء"، ومع ذلك فمن ذا الذى يستطيع أن يتنبه إلى هذا التأثير القرآنى فى جملة طه حسين بسهولة؟ ومنه قول الكاتب: "فاحْفَظْ هذه الآية من القرآن وردِّدْها فى قلبك أو فى لسانك، فإنها تُؤْمِنك من خوف، وتُؤْنِسك من وحشة" (ص 43)، الذى يضع نصب عينيه قوله سبحانه فى الآية الرابعة من سورة "قريش": "فَلْيَعْبُدوا رَبّ هذا البيت* الذى أَطْعَمَهم من جوعٍ، وآمَنَهم من خوف" رغم اختلاف السياقين معنًى وتركيبًا وترتيبا. كما أنه فى قوله: "إن حكمة الله بالغة، فقد ضحكتما منى، وأضحكتمانى منكما" (ص 49) يحذو حذو الآية الكريمة التى تتحدث عن قو نوح وما أرسل الله عليهم من العذاب فتقول: "ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مُزْدَجَر* حكمةٌ بالغةٌ فما تُغْنِى النُّذُر" (القمر/ 4- 5).

وبالمناسبة فالعبارتان كلتاهما تتحدث عن حكمة الله، بيد أن عبارة القرآن لا تسندها إلى الله صراحة كما فى عبارة طه حسين، كما أن التركيبين مختلفان مثلما هو واضح لا يحتاج لشرح، وهذان هما السبب فى أن ملاحظة التشابه بين العبارتين لا تتأتى من أول وهلة. وهناك أيضا قوله: "اشتهى جمالها وطمع فى محاسنها وابتغى إليها الوسائل" (ص 58)، وهو ترديد لقوله عز سلطانه: "يا أيها الذين آمنوا، اتَّقُوا الله وابتغُوا إليه الوسيلة وجاهِدوا فى سبيله" (المائدة/ 35). أما قول طه حسين: "فأقبل يسعى" فوجه التأثر فيه بالقرآن ليس مباشرا، إذ العبارة القرآنية هى: "ثم أدبر يسعى" (النازعات/ 22)، ووجه التشابه شديد الوضوح رغم أن بين الفعلين طِباقا لا تطابقا. كذلك فقوله: "هيهات! هيهات! إنما ذلك تعليل للنفس بالأمانى الباطلة" (ص 192) هو تقليد لقوله عز وجل فى الآية 36 من سورة "المؤمنون" على لسان الكافرين الذين ينكرون يوم القيامة: "هيهات هيهات لما توعَدون". وبالمثل فقوله: "وما من شك أن الشمس قد أشرقت بعد ذلك بنور بربها" (ص 63)، وكذلك قوله: "ويُسْفِر الصبح شاحبا كئيبا، وتشرق الشمس بنور ربها" (ص 149) مأخوذان من قوله عز شأنه: "وأشرقت الأرض بنور ربها ووُضِع الكتاب" (الزمر/ 69)، مع ملاحظة أنه قد أدخل فى العبارة بعض التحويرات، فـ"الشروق" فى القرآن هو شروق يوم القيامة لا الشروق الدنيوى الذى نعرف. كما أن شروق" القرآن هو شروق الأرض، أما "الشروق" عند طه حسين فهو شروق الشمس، فضلا عن أن الجِرْم المشرق فى عبارة المؤلف الأولى قد أتى اسما لـ"أن"، على حين أنه فى القرآن فاعل، وأن الفعل فى عبارة د. طه الثانية هو فعل مضارع، بينما هو فى الشاهد القرآنى فعل ماضٍ. وقد كرر الدكتور طه العبارة بعد ذلك بقليل، ولكن مع مزيد من التحوير، إذ قال: "تطلع الشمس مشرقةً عليهن كل يوم بنور ربها" (ص 64).

أما فى العبارة التالية فالأمر يحتاج إلى مزيد من التنبه كى نستطيع اقتناص وجه التأثر. يقول الكاتب عن "محبوبة" إنها كانت تدور فى بيوت القرية تساعد النساء فى صنع الخبز، ثم تعود منتصف النهار إلى بيتها الوضبع الحقير حسبما وصفه، "وقد حملتْ طائفةً من هذا الخبز تضيفها إلى طائفة" (ص 69)، ولا يفد على الخاطر بسهولة أن هذه العبارة متأثرة بقوله تعالى عن المسيح عليه السلام واستجابة قومه لدعوته ما بين مؤمن به وكافر: "فآمنتْ طائفةٌ من بنى إسرائيل، وكفرتْ طائفة" (الصف/ 14). ذلك أن التركيبين متباعدان، فضلا عن الاختلاف التام بين السياقين هنا وهناك، إذ أين الخبز من الدعوة إلى دين الله؟ وأين الحواريون والكافرون الغلاظ القلوب والرقاب من بنى إسرائيل من ألوان الخبز المختلفة؟ لكن هذه الصعوبة لا نجدها فى المثال التالى حيث يقول الكاتب: "لقد رَأَيْنَ الفتاةَ تُزَفّ إلى زوجها شاحبة الوجه ممتقعة اللون زائغة البصر لا تمسك نفسها إلا بمشقة وجهد كأنما كانت تُسَاق إلى الموت وهى تنظر إليه" (ص 78)، إذ إن الشُّقَّة بين هذه العبارة وبين قوله جَلَّ من قائل عن فريق من المؤمنين إبان غزوة بدر كانوا لا يريدون الحرب: "يجادلونك فى الحق بعدما تبيَّن كأنما يُسَاقون إلى الموت وهم ينظرون" (الأنفال/ 6) غير واسعة، فكل الخلاف لا يزيد عن أن الفعل هنا مسند لجمع الرجال، بينما هو هناك للمفردة المؤنثة، وأنه هنا مضارعٌ خالص المضارعة على حين أنه هناك ماض مستمر، أى مضارع مسبوق بـ"كان"، وأن المضارع الثانى فى عبارة طه حسين (وهو الفعل "تنظر") قد أُلْحِق به جار ومجرور، فى الوقت الذى عَرِىَ نظيره منهما فى العبارة القرآنية. وكلها، كما ترى، أشياء شكلية.

وفى قول كاتبنا: "ما خَطْبها؟وما مصدر هذه الكآبة التى تغمر نفسها، وهذه الدموع التى تغمر وجهها؟" (ص 77)، "ما خَطْبه؟ وما خَطْب أمه؟" (ص 101)، "وخَطَرَ لى أن أسأل عن العفريت: ما خَطْبه؟ وكيف يكون؟" (ص 117) احتذاء بقوله تعالى على لسان العزيز يخاطب نسوة المدينة اللاتى راوَدْنَ يوسف عن نفسه: "قال: ما خَطْبُكُنَّّ إذ راوَدْتُنَّّ يوسُفَ عن نفسه؟" (يوسف/ 51) وقوله سبحانه على لسان موسى للفتاتين اللتين كانتا لا تستطيعان أن تسقيا مواشيهما بسبب الزحام على الماء: "قال: ما خَطْبُكما؟" (القَصَص/ 23). ومنه أيضا قول كاتبنا: "أصحاب اليمين" و"أصحاب الشمال" بدلا من مصطلحَىْ: "اليمينيين واليساريين" (ص 89)، وهو بهذا يستخدم مصطلحين قرآنيين معروفين، لكن فى معنى غير المعنى الذى يستخدمهما القرآن فيه، إذ هما فى كتاب الله يعنيان "أهل الجنة" و"أهل النار"، أما هنا فالدكتور طه يقصد بهما "الرأسماليين" و"الاشتراكيين". وهذا هو التحوير الذى أدخله مؤلفنا على استعمال هاتين الكلمتين والذى يجعل التنبه إلى أنهما مأخوذتان من القرآن المجيد بطيئا وضعيفا. ومنه كذلك قوله: "ليستْ منهم وليسوا منها فى كل شىء" (ص 95)، الذى يسير على خُطَى قوله عز من قائل: "إن الذى فرَّقوا دينَهم وكانوا شِيَعًا لستَ منهم فى شىء. إنما أمرهم إلى الله" (الأنعام/ 159)، وإن كان قد زاد كلمة "كلّ" قبل "شىء"، مع اختلاف ضمير الفاعل وتكرير الفعل "ليس" مرتين، مما تسبب فى ألا ينتبه الذهن بسهولة لهذا الاحتذاء بأسلوب القرآن.

ومن التأثر بالأسلوب القرآنى أيضا قول الكاتب: "وظهرت سعادتهما وقحةً مسرفةً فى القِحَة لا تتحفظ ولا تحتشم ولا ترجو لشىءٍ وقارا" (ص 113)، وهو ما يذكرنا بقوله تعالى على لسان نوحٍ لمشركى قومه: "ما لكم لا ترجون لله وقارا؟" (نوح/ 13). ومن ذلك قول مؤلفنا: "هذا الرجل يداعب امرأته الشابة ويلاعبها راضيا مغتبطا مسرورا ولم يمض على دفن أمنا إلا يوم وبعض اليوم" (ص 115)، وهو قريب جدا من قوله سبحانه: "قال: لبثتُ يومًا أو بعضَ يوم" (البقرة/ 259)، "قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم " (الكهف/19، والمؤمنون/ 113) رغم التحويرات التى نالته. ولست أستطيع أن أتذكر أنى قابلت هذا التعبير عند أحد فى العصر الحديث غير طه حسين. كذلك لا أستطيع أن أذكر أنى وجدت كاتبا غير طه حسين يستخدم التعبير القرآنى: " أدنى الأرض" فى قوله جل جلاله: "غُلِبَت الروم فى أدنى الأرض" (الروم/ 2)، أى فى أقرب البلاد إلى جزيرة العرب، كما فى قوله: "وهاجرت أُسَرٌ أخرى إلى أدنى الأرض" (ص 116)، مع التحوير المتمثل فى تبديل الحرف "إلى" بالحرف "فى". ومثله قوله: "ويهمّ أن يراجعنى،...ولكنى أُعْرِض عنه بوجهى، وأنأى عنه بجانبى" (ص 124)، الذى استلهمه طه حسين من قوله عز شأنه: "وإذا أنعمنا على الإنسان أعرضَ ونأى بجانبه" (الإسراء/ 83)، مع بعض التحويرات التى تتمثل فى تحويل الماضى إلى مضارع، وإدخال شِبْهَىْ جملةٍ على الفعل "أعرض" بعد أن كان فى النص القرآنى غير محدد بشىء معين. ومنه قوله: "فلم ينشئه فى التجارة ليخلفه فى الحانوت" (ص 127)، الذى ينظر إلى قوله عزَّت قدرته عن النساء اللاتى كان العرب ينظرون إليهن على أن خِلْفَتهمن عارٌ، وأىُّ عار: "أوَمَنْ يُنَشَّأُ فى الحلية، وهو فى الخصام غير مبين؟" (الزخرف/ 18). وهذا أيضا مما لم أتنبه إلى أن أحدا غير طه حسين يفعله.

ومنه قوله: "ويتركون آباءهم وأمهاتهم وأخواتهم يَشْقَوْن بالنقص فى الأموال والثمرات، بل يَشْقَوْن بالبؤس والجوع والحرمان" (ص 131) المتأثر بكل قوة بقوله تعالى: "ولنبلُوَنَّكم بشىء من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات" (البقرة/ 155)، رغم التحويرات المتعددة التى أصابته. ومنه قوله: "ثم لا يكاد الصبح يتنفس حتى يراه فى الطريق العامة غاديا على عمله" (ص 132)، الذى يدور فى فلك قوله جل شأنه: "والصبح إذا تنفَّس" (التكوير/ 18). ومنه قوله: "وقد صَبَرَتْ حنينةُ نفسَها عن هذا المكروه فلم تتحدث فيه إلى ابنتها" (ص 140)، وهو مأخوذ من قوله سبحانه: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغَداة والعَشِىّ يريدون وجهه" (الكهف/ 28) مع شىء من التحوير تمثل فى استبدال حرف الجر "عن" بالظرف "مع". ومنه قوله: "بعد أن تقطعت الأسباب بينه وبين هذا الحب" (ص 142)، الذى ورد فى القرآن، لكن على نحو مختلف فى التفاصيل بعض الشىء: "وتقطّعتْ بهم الأسباب" (البقرة/ 166). ومنه قوله: "وحِيلَ بين مرجانة وبين الرضا عن ابنها والإعجاب به" (ص 144)، "فقد حِيلَ بينهما وبين اللقاء" (ص 147- 148) مما يكاد يتطابق وقوله عز من قائل عن المشركين يوم القيامة: "وحِيلَ بينهم وبين ما يشتهون" (سبأ/ 54). ومن ذلك الوادى أيضا قول المؤلف: "وإنما أسبغ الله نعمته ليستمتع بها الناس جميعا" (ص 158)، فهو مأخوذ من قوله تعالى: "وأَسْبَغَ عليكم نِعَمَه ظاهرةً وباطنة" (لقمان/ 20).

أما فى قوله: "يجهلون ما حولهم من البؤس والضنك والضيق والموت: يضعون أصابعهم فى آذانهم حتى لا يسمعوا، ويجعلون على أبصارهم غشاوة حتى لا يَرَوْا، ويجعلون على قلوبهم أَكِنَّةً وأقفالاً حتى لا يصل إليهم ما يثير فيها شيئا من تضامن أو تعاطف أو رحمة أو إشفاق" (ص 176) فإن التحوير معقّد بعض الشىء، إذ قد مزج الكاتب فى كلامه بين عدة عبارات من آيات متباعدة، وهى: "يجعلون أصابعهم فى آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت" (البقرة/ 19)، "ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة" (البقرة/ 7)، "وقالوا: قلوبنا فى أكنَّة مما تدعونا إليه" (فصلت/ 5)، " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالُها؟" (محمد/ 24)، علاوة على تغير السياق وإدخال العبارات والألفاظ القرآنية فى جمل ذات تراكيب مختلفة. وبالمثل نجد د. طه فى قوله: "نرى الشقاءَ يُصَبّ عليه صَبًّا" (ص 184) قد مزج فى استلهامه للقرآن الكريم بين قول الحق جل وعلا عن صب الماء من السماء لرىّ الأرض آخذا منه تركيب الكلام: "فلْينظر الإنسان إلى طعامه* أنّا صببنا الماءَ صبًّا* ثم شققنا الأرض شقًّا* فأنبتنا فيها حَبًّا* وعنبًا وقَضْبًا*..." (عبس/ 24- 28) وبين قوله سبحانه أيضا فى الكلام عن تعذيب الكفار فى الدنيا، آخذا منه استخدام "الصبّ" فى العقاب: "فصبَّ عليهم ربُّك سَوْطَ عذاب" (الفجر/ 13). وأخيرا نسوق من الشواهد على هذه السمة فى أسلوب كاتبنا قوله: "ثم ننظر إليه فنجده من أجل ذلك خائفا يترقب" (ص 185)، وهو ما يُخْطِر على البال قوله تعالى فى وصف موسى حين قتل مصريا دون قصد وفى فورة من فورات الاندفاع انتصارا لما رأى أنه الحق ثم فر من مصر كلها خوفا مما كان فرعون وملؤه يدبرونه للإيقاع به: "فخرج منها خائفا يترقب" (القَصَص/ 21)، وكذلك قوله: "ولكن العيد أخلفهم موعده" (ص 191)، وأصله قوله عز وجل على لسان بنى إسرائيل لموسى حين عاد من لقائه بربه فوق الجبل فوجدهم قد عبدوا العجل: "قالوا: ما أَخْلَفْنا موعدك بمَلْكِنا" (طه/ 87).

استلهام طه حسين القرآن فى أسلوبه استخدامه للصيغ الصرفية القرآنية التى لا نستخدمها الآن، وربما لم تكن تستخدم فى العصور القديمة على نطاق واسع، مثل كلمة "ضيف" فى كثير من الأحيان بدلا من "ضيوف" كقوله: "وقد كثرت على هذه الصينية الأطباق فيها من كل أصناف الطعام التى قُدِّمَتْ للضيف" (ص 19. وقد تكررت هذه الكلمة عدة مرات فى الكتاب/ ص 14، 15، 16، 17، 18، 20)، ولم ترد فى القرآن إلا بصيغة المفرد رغم أنها لم تستخدم فيه إلا لجماعة الضيوف لا للضيف الواحد مثل: "فاتقوا الله ولا تُخْزون فى ضيفى"، أى ضيوفى (يونس/ 78)، "هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المُكْرَمين...؟" (الذاريات/ 24). ومثلها استخدامه كلمة "عَدُوّ" بصيغة الإفراد أيضا للمثنى والجمع كما فى هذه الجملة: " ولكن الأتراب والرفاق أعرضوا عن صالح وأمين واتخذوهما عَدُوًّا" (ص 30)، وفى القرآن نقرأ قول الحق تبارك وتعالى عن الأوثان على لسان سيدنا إبراهيم: "فإنهم عدوٌّ لى إلا رب العالمين" (الشعراء/ 77)، وقوله سبحانه موجها الخطاب للمؤمنين: "يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا عدوّى وعدوَّكم أولياء تُلْقون إليهم بالمودّة" (الممتحنة/ 1)، وقوله عن موسى عليه السلام حين استغاثه الإسرائيلى على المصرى: "فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه" (القَصَص/ 15)، أى من أعدائه.

ومن ذلك كلمة "تساقط" فى قوله: "فإذا امرأة تساقط دموعها غِزَارا" (ص 61)، وهى موجودة فى القرآن فى الآية 25 من سورة "مريم": "وهُزِّى إليك بجذع النخلة تساقط عليك رُطَبًا جَنِيًّا". وأرجو أن تتنبه إلى أن الفعل فى الحالتين مسند إلى المفردة المؤنثة مما يقرب بين الشاهدين ويؤكد أن يكون طه حسين قد تأثر بالقرآن هنا لا بغيره. ولا شك أن الأمر فى عبارة "مسَّهم الضُّرّ قبل الوباء" (ص 82) لا يحتاج إلى شىء من الجهد كى يتنبه الذهن إلى أنها تنظر من قريب جدا إلى قوله تعالى: "قالوا: يا أيها العزيز، مسَّنا وأهلَنا الضُّرّ" (يوسف/ 88). ومنه أيضا قوله: "ويحمّلنا هموما ثقالا" (ص 86) بدلا من "هموما ثقيلة" كما هو المعتاد فى وصف جمع غير العاقل سواء كان ماديا أو معنويا أو فى الإخبار عنه. وفى القرآن: "حتى إذا أَقَلَّتْ سحابا ثقالا سُقْناه لبلدٍ ميت" (الأعراف/ 57)، ولاحظ كيف أن العبارتين كلتيهما تتحدثان عن "حمل" شىء ثقيل. وهناك أيضا: "السحاب الثقال" (الرعد/ 12)، ولكن الآية الأولى أقرب كثيرا لعبارة الكاتب كما لا يخفى. ومن هذا الضرب قول المؤلف فى وصف فتاة: "وكانت على ذلك ماكرة حديدة اللسان" (ص 111) بدلا من "حادة اللسان"، وذلك متابعة لقول القرآن فى وصف البصر يوم القيامة بالحدّة مستخدما صيغة "فعيل" لا صيغة اسم الفاعل: "حادّ": "فبَصَرُك اليوم حديد" (ق/ 22). "ويجرى هذا المجرى قوله: "حُجُبًا صِفَاقًا وأستارًا كِثَافا" (ص 142)، وأشهد أنى لم أر كاتبا يقول: "كِثافا، وصِفاقا" بصيغة الجمع، إنما رأيت من يقول: "صفيقة، وكثيفة").ومن ذلك قوله: "لنُنْفِقْ سائر الليل معا" (ص 119)، الذى يُحْضِر فى الأذن والعقل معا قوله تعالى جَدُّه: "لِيُنْفِقْ ذو سَعَةٍ من سَعَتِه" (الطلاق/ 7). كذلك يذكرنا قول المؤلف: "وما لهم لا يُهْرَعون إليه، وهم كانوا يشعرون بحبه لهم وعطفه عليهم؟" (ص 159) بقول الحق سبحانه: "وجاءه قومه يُهْرَعون إليه، ومِنْ قَبْلُ كانوا يعملون السيئات" (هود/ 78) حيث تتطابق عبارتا "يُهْرَعون إليه" أولا، وتعقبهما "واو الحال" هنا وهناك ثانيا، ثم يأتى بعد هذه الواو الفعلُ "كانوا" تتبعه جملة خبرية فعلية فعلها مضارع.

ومن ذلك أيضا إكثار مؤلفنا من استعمال الفعل: "أُنْسِيت"، ببناء الفعل المزيد بهمزة للمجهول، بدلا من الفعل المجرد المبنى للمعلوم: "نسيت" كما فى الجمل التالية: "وأُنْسِىَ الصبى بهذا كله صلاةَ الشيخ والضيف والنبأ الذى كان يجب أن يحمله إلى أمه" (ص 18)، "وكان قد أُنْسِىَ قصة صالح، ولم يذكر إلا أنه سيعود معه آخر النهار إلى الدار" (ص 27)، "أريدُ أسرةً مصريةً بائسةً كنتُ أُنسِيتُ أمرها" (ص 80)، "شُغِلْتُ عن الجنين وعن أمه البلهاء، وأُنْسِيتُ أم تمام وابنيها" (ص 101)، وذلك تأثرا بقول القرآن على لسان ساقى الملك فى الآية 63 من سورة "الكهف": "وما أنسانيه إلا الشيطان أن أَذْكُره" بدلا من "وقد نَسِيتُ أن أذكره"، وقول الحق تبارك وتعالى عن الكافرين: "استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله"، بدلا من "فنَسُوا ذكر الله" (المجادلة/ 19). وهناك شاهدان آخران على الاستعمال القرآنى لهذا الفعل (يوسف/ 42، والحشر/ 19). وقد وقف د. البدراوى زهران عند هذا الاستعمال الطّاهَوِىّ وردَّه إلى ميل صاحبه بوجه عام، نظرا لظروفه الخاصة التى تجعله قادرا بغيره، إلى استخدام الأفعال المبنية للمجهول بما تدل عليه من أنه لا يقوم بفعل الشىء عادة، بل يعتمد فى فعله على غيره، وأن دوره فى الغالب دور سلبى لا فاعل. بيد أنى، وإن كنت لا أريد أن أعترض على هذا التعليل فيما يخص صيغة المبنى للمجهول لدى الدكتور طه بوجه عام، أوثر أن أركز النظر فيما يخص الفعل "أنسى" على التأثير القرآنى على طه حسين وأسلوبه.

وقد رأينا أن مسألة تأثره بلغة القرآن لا تقف عند هذه الصيغة من الفعل "نَسِىَ"، بل تمتد إلى أشياء أخرى كثيرة متنوعة. صحيح أن القرآن يستعمل الفعل المجرد أكثر، لكن طه حسين يستعمل أيضا الفعل "نسى" كثيرا، ومع ذلك فإن مجرد استعماله للفعل "أنسى" يومئ إلى إعجابه بلغة القرآن وحبه لاستلهامها. علاوة على أن صيغة المبنى للمجهول من هذا الفعل لا تساعد على الاختصار، وهو السبب الذى يعلل به الأستاذ الدكتور انتشار هذه الصيغة فى كتابات الدكتور طه، بل تزيد حروف الفعل حرفًا هو حرف الهمزة. كما أن صيغة المبنى للمجهول تُعْفِيه من نسبة النسيان الذى يصيبه أو يصيب من يتحدث عنهم إلى الشيطان حسبما ورد فى ثلاث حالات من الحالات الأربع التى وردت فى القرآن. وحتى فى الحالة الرابعة التى أُسْنِد فيها "الإنساء" إلى الله سبحانه فى قوله تعالى فى سورة "الحشر": "ولا تكونوا كالذين نَسُوا الله فأنساهم أنفسهم"، فإن السياق هو سياق الذم لمن وقع عليهم هذا الفعل. ومن هنا فإننى أرى أن طه حسين، حين نبذ صيغة المبنى للمعلوم إلى المبنى للمجهول، قد أراد أن يتجنب هذه الإيحاءات، فجعل الفاعل مجهولا كى ينصرف الذهن فى هذه الحالة إلى الظروف الإنسانية المختلفة لا إلى الشيطان أو إلى رب العزة بما يحصر المعنى فى دائرة العيب والإدانة. أى أن طه حسين قد أراد عامدا متعمدا، على العكس مما رأى د. زهران، تجنُّب نسبة الفعل إلى نفسه أو أبطاله حتى يبعد بهم عن مجال تأثير الشيطان أو سخط الله (انظر، فى رأى د. البدراوى زهران فى هذا الموضوع، كتابه "أسلوب طه حسين فى ضوء الدرس اللغوى الحديث"/ دار المعارف/ 1982م/ 81- 84).

ومن مظاهر تأثر طه حسين بالقرآن فى أسلوبه استخدامه بعض الكلمات فى سياقاتٍ أو معانٍ لا نستخدمها فيها الآن إلا على ندرة: فمثلا من منا يستخدم الآن كلمة "هنالك" لظرف الزمان؟ إننا إذا استعملناها فإنما نستعملها عادة لظرف المكان لا الزمان. أما طه حسين فى الجمل التالية فيجرى على طريقة القرآن: "هنالك وَجَمَتْ أم الصبى شيئا" (ص 14)، "هنالك كانت أمّونة تخرج متباطئة فتُلِمّ بهذه الدار أو تلك" (ص 46)، "هنالك استأنف العُودُ تمزيقَه لجسم الفتاة" (ص 55)، "هنالك ينهض عمر للقاء هذه الأزمة العنيفة الجائحة" (ص 159)، "هنالك يكتب عمر إلى عماله فى الأقاليم" (ص 161)، "هنالك لم نرفع الأكتاف ولم نهزّ الرؤوس" (ص 184)، أى عندئذ" أو "فى تلك الأثناء". وهذا كقوله تعالى عن زكريا حين جاءته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب بأن الله يبشره بابنٍ عفيفٍ سيدٍ شريف: "هنالك دعا زكريا ربه، قال: رَبِّ، هَبْ لى من لدنك ذرية طيبة" (آل عمران/ 83)، وقوله واصفًا الظروف الحرجة التى أحاطت بالمسلمين أثناء غزوة الأحزاب: "هنالك ابْتُلِىَ المؤمنون وزُْلْزِلوا زلزالا شديدا" (الأحزاب/ 11). ومنها أيضا استعماله كلمة "اتخذ" بمعنى "استعمل" أو "لجأ إلى" أو "لبس" أو "جعل لنفسه"...إلخ كما فى قوله: "فرأت ابنها وبنتها قد اتخذا ثوبين باليين كذلك الثوب القديم" (ص 39) بدلا من "لبسا"، وقوله: "فاتخذ هذه المرأةَ له زوجا واستقر فى حياة مطمئنة" (ص 57) بدلا من "تزوج هذه المرأة"، وقوله: "وكادت تتخذها لنفسها صديقا" (ص 74) بدلا من "صادقتها"، "يتخذون من قصصهم أغشية لهذه المواعظ والعِبَر" (ص 88) بدلا من "يجعلون"، وقوله: "وقد اتخذت فى إحدى يديها حقيبة صغيرة" (ص 114)، أى أمسكت أو حملت، وقوله: "قد اتخذ له حانوتا يبعد عن داره بعض البعد يبيع فيه سِقْط المتاع من هذا الخرز الملون الذى يتخذ النساء منه أساور أو دوائر مفرغة يدخلن فيها سواعدهن" (ص 126)، أى يصنعن.

وهذا كقوله سبحانه: "أتتخذونه وذريته أولياء من دونى، وهم لكم عدوّ؟" (الكهف/ 50)، "وقالوا: اتَّخَذ الرحمنُ وَلَدًا" (مريم/ 88)، "أم اتخذ مما يخلق بناتٍ وأصفاكم بالبنين؟" (الزخرف/ 16). ومن ذلك اللون من التأثر بأسلوب القرآن قول كاتبنا: "هنالك وَجَمَتْ أم الصبى شيئا" (ص 14)، "وَجَمَتْ أمّونة شيئا" (ص 55)، بدلا من "وَجَمَتْ أمّونة بعض الوجوم"، وهو مثل قوله تعالى: "إنهم لن يُغْنُوا عنك من الله شيئا" (الجاثية/ 19). أى أن الدكتور طه استعمل نائب المفعول المطلق بدلا من المفعول المطلق نفسه، وهو كما يرى القارئ استعمال تفوح منه عراقة القديم الجزل الأصيل. ومنه استخدامه الحرف "قد" مع المضارع فى معنى التحقيق، وهو المعنى الذى نستخدمه فيه الآن مع الفعل الماضى فقط، بخلاف ما لو جاء مع المضارع، فإنه فى هذه الحالة يدل على الشك أو الظن لا أكثر. يقول طه حسين: "فقد يجب لتستقيم القصة أن يُحَدَّد الزمان والمكان" (ص 22)، "كانت سيرة أم تمام وبنيها تمنع جيرانها من أن يعرفوا شيئا من أمرها، فقد كانوا يعتزلون الناس اعتزالا غير مألوف. ولكن أوان الحديث عن هذا الاعتزال لم يئن بعد، فقد ينبغى أن نعرف قبل ذلك أم تمام هذه" (ص 92). وقد تكرر هذا الحرف فى القرآن بهذا المعنى عدة مرات: "قد نعلم إنه لَيَحْزُنك الذى يقولون" (الأنعام/ 33)، "ألا إن لله ما فى السماوات والأرض. قد يعلم ما أنتم عليه" (النور/ 64)، "قد يَعْلَم اللهُ المُعَوِّقين منكم والقائلين لإخوانهم: "هَلُمَّ إلينا"، ولا يأتون البأس إلا قليلا" (الأحزاب/ 18). وكل الشواهد، كما ترى، تدور على تأكيد علم الله. ومن ذلك استعماله حرف الجر "على" مع الفعل: "غدا يغدو" بدلا من "إلى" التى نستعملها عادة فى هذا السياق، فهو يقول: "لن تغدو على الكتّاب إذا كان الصبح" (ص41)، "ثم لا يكاد الصبح يتنفس حتى يراه فى الطريق العامة غاديا على عمله" (ص 132) متابعة للعبارة القرآنية: "وغَدَوْا على حَرْدٍ قادرين" (القلم/ 25). ومنه قوله: "قد اكتسب ثروةً مكانَ ثروة، وكَنَزَ مالاً مكانَ مال" (ص 166)، الذى بناه على غرار قوله جَلَّ مِنْ قائل: "بدّلنا آيةً مكانَ آية" (النحل/ 101).

ولا يقف التأثر الطاهوى بالقرآن عند هذا الحد، بل يمتد إلى التأثر بتراكيبه: ومن ذلك قوله: "وهم يريدون أن أذكرهم أنا...، وإن كانت حياتهم تلك الأولى لأهون من أن يفكر فيها أصحابها" (ص 124)، وهو ما نجد أصله فى القرآن فى كثير من الايات مثل:"وإن كانوا من قَبْلُ لَفِى ضلالٍ مُبِين" (آل عمران/ 164)، "وإن كان أصحاب الأيكة لَظالمين" (الحِجْر/ 78)، ومنه كذلك: "ليس هو نائما، وليس بيقظان، وإنما هو شىء بين ذلك" (ص 62)، "يتيح له أن يكفل لأهله حياة إن لم تكن رخية كل الرخاء فلم تكن ضيقة كل الضيق، وإنما كانت شيئا بين ذلك" (ص 126)، حيث نرى المؤلف يستخدم "بين ذلك" بدلا من "بين هذا وذاك"، التى نستعملها نحن الآن جريا على أن "البينية" تستلزم وجود طرفين هما "هذا" و"ذاك"، أما "بين ذلك" فتبدو وكأنها قد اكتفت من البينية بطرف واحد دون الآخر. وهذا غير صحيح، فالعرب يعدون "ذلك" فى هذا التركيب بمثابة "هذا وذاك"، وهذا ما جرى عليه القرآن، وإن كنا لا نجد ذلك الاستعمال فى الأساليب الحديثة، وهو ما لفتنى بقوة إلى وجوده فى كتابات طه حسين وإلى تسجيله. ومن شواهد ذلك فى القرآن قول رب الجلال: "ويريدون أن يتخذوا بين ذلك (أى بين الله ورسله) سبيلا" (النساء/ 150)، "وكان بين ذلك (أى بين الإسراف والتقتير) قَوَاما".
المعذبون في الارض الجزء الثاني

المعذبون في الارض الجزء الثالث


Further Reading