لماذا روايات الأجيال / النهر.. مقاومية؟

يبدو أن الربط بين جنس الرواية الأدبى والتاريخ حقيقة يجب التوقف أمامها ومعها حين الولوج الى تناولات عالم الرواية المختلفة. فالتاريخ "زمان- مكان- أحداث" وكذلك الرواية!
حتى أن نشأة الرواية ارتبط الى حد ما بالمادة التاريخية للحكى والقص, كما أن السرد التاريخى أحيانا ينحى منحى القص, حتى قبل أن تعرف الرواية.
فيدعى بعض الروائيين أنه يكتب عن أشخاص حقيقيين, محاولة منه كى يصدقه القارىء, وبعض المؤرخيين (أغلبهم) من القدامى أضاف من خياله الكثير على الحدث التاريخى.

كان تعريف "هيجل" للرواية "بالقرن الثامن عشر بأنها: "ملحمة حديثة برجوازية , تعبر عن الخلاف القائم بين القصيدة الغزلية ونثر العلاقات الاجتماعية". ومن المؤكد أن ما كتب فى شكل الرواية (عالميا) وبعض العربى, كان تاريخيا , وفى العربية وضح ذلك للتعبير عن منعطف جمعى تاريخى تعيشه الأمة.. ومن هنا كانت نضالية فى بعضها.
الا أن الأمر فى حاجة الى مناقشة , خصوصا أن جنس الرواية عمل قابل للتكيف مع المجتمع على حد تعبير "رولان بارت", خصوصا أن الرواية تقوم على تشكيل الرؤية الى العالم من خلال الشكل (الذى هو من شخصية الروائى) وعلى المضمون (الذى هو وجهة النظر)..الأول عنصر جمالى والثانى فكرى.. حتى وصلنا الى فكرة "الخطاب فى الرواية" من خلال الشخصية, الوصف, السرد, المونولوج, الحوار, الحيز, الزمن...".

لسنا بصدد التأريخ للرواية أو تعريفها, فقط لايضاح العلاقة بينها وبين التاريخ..التى هى مزدوجة ووطيدة. كما جاءت روايات جورجى زيدان وغيره من الرواد, كأنها لاحياء الموتى التاريخيين, وهو ما اتضح من بعده فى رواية "حديث عيسى بن هشام" وكأن التاريخ الفردى وتوظيفه فى الزمان من جوهر النسيج الروائى. حتى نضجت الرواية ونضج التوظيف التاريخى فيها وبها.

ورواية "الأجيال" أو "النهر" مرتبطة بهذا البعد الزمنى (التاريخى) وان اعتبرت تقنيا أكثر نضجا.. وفيها بسعى الروائى الى ابراز حركة الأجيال وخصائصها جيلا بعد جيل (غالبا خلال فترة نضالية للجماعة أو الشعب)

ربما من المناسب الاشارة الى جذور الرواية "النهر" أو "الانسيابية" أو "الأجيال". فقد كان "رومان رولان" الفرنسى, أول من كتبها , حيث بدت الرواية فى القرن التاسع عشر فى أزهى عصورها التاريخية (كما وكيفا) , وقد نضج مذهبان أدبيان "الرومانتيكى" و"الواقعى". ثم ظهرت الطبيعية عام 1870م.
ومع بشائر القرن الجديد ظهرت رواية المغامرات فى أمريكا على يد الكاتبة "بيشر ستو", كما كانت أعمال "هانز أندرسون" الدينماركى الخرافية..بات للرواية مكانة متميزة فى الغرب.
الاسم الاصطلاحى فرنسى, يعنى النهر الكبير الذى له عدة فروع , وفى الرواية هى الرواية الطويلة جدا التى يشترك فى صنع أحداثها ..عدد كبير من الشخصيات المنتمية غالبا الى عدة أجيال.
يعرفها البعض بأنها: "الرواية الحديثة التى ترتبط بتقليد فنى طويل وقديم هو الفن الملحمى وتتخذ من الشكل الدائرى اطارا لها , وداخل تعريجات النهر الروائى تقدم دلالة شاملة , وتحليلا نفسيا للطبائع , وتصويرا تاريخيا واجتماعيا عظيما , وتقدم الرمزية الأخلاقية أو الفلسفية."
ثلاثية "بين القصرين-قصر-السكرية" للروائى "نجيب محفوظ"
(كرر الروائى نجيب محفوظ فى أكثر من مرة, أنه كتب العمل كرواية واحدة, ونظرا لظروف النشر لجأ الى النشر فى ثلاث كتب, نشروا على التوالى أعوام 1954-1957و1957)

الروايات تناول بانورامى للكثير من التفاصيل الحياتية الاجتماعية الاقتصادية السياسية بل والفكرية للمجتمع القاهرى (القاهرة القديمة) تحديدا. وهو فى ذلك يتتبع مصائر شخصياته فردا فردا فى ضوء ما خطط له من ملامح ومسارات.
الرحلة تعلقت باحدى الأسر البرجوازية الصغيرة, ومع آخر جيلين منها بحى الجمالية , حيث الملامح المميز لشريحة التجار (أهم شريحة بالمجتمع حينها) , مع ابراز الملامح الاجتماعية المتمثلة فى عدد من المفاهيم..الرجولة, العلاقة الزوجية..وغيرها.
"أمينة" زوجة مسالمة مستسلمة لكل أوامر ومفاهيم "السيد أخمد عبدالجواد زوجها", ترعى بيتها وأولادها.."ياسين" من زوجة أخرى" الذى لا هم له سوى العبث والجنس, و"فهمى" الثورى الرافض للكثير من الظواهر السياسية من الملك حتى سيطرة الأب, و"كمال" الصغير الذى يكبر ليعبر عن التوجه العلمى للمجتمع القاهرى الجديد ..ثم "زينب" و"خديجة" البنتان المتناقضتان فى كل شىء , من الجمال الى السلوك. وكما امتد النهر مع "كمال", بدأت روافد جديدة مع أولاد الابنتين. خديجة تنجب "احمد" الشيوعى فيما بعد, و"عبدالمنعم" المنضم الى تنظيم "الاخوان المسلمين" الاسلامى., ومع ابن خالهما "رضوان ياسين" تتشكل ملامح الجيل الجديد..وملامح الحياة السياسية التى اتسمت بالتناقض والثورة.

غلبت الأحداث السياسية ووضحت الحركة النضالية بالقاهرة, من خلال "السيد أحمد" فى جلساته ورفقائه منذ البداية..ولا يمنع أن يكون ذلك أثناء سهرات الأنس:
"قال السيد ابراهيم الفار: "أبحر سعد من الاسكندرية اليوم" قصر الشوق ص7 لتتابع الحوارات والآراء حول أحداث الثورة (ثورة 19).
وتستمر الأحداث لنتابع ذروتها ص 171, فالأم المسالمه الأمية تسأل ابنها المتعلم:
"كنت مارة بالأزهر فى الطريق الى الحسين فقابلتنى مظاهرة كبيرة تهتف بهتافات ذكرتنى بالماضى , هل جد جديد يا أبنى؟
قال: الانجليز لا يريدون أن يذهبوا بسلام"
قالت بحدة وفى عينيها نظرة غضب:
"الانجليز , الانجليز متى تنزل عليهم نقمة الله العادل؟"

واضح من القراءة السريعة للثلاثية الدور الهام الذى أولاه الروائى للبعد السياسى والأحداث السياسية اليومية والآراء المختلفة فيها , حتى يمكن للكتابع أن يرصد الأحداث الحقيقية خلال تلك الفترة ..صفحة بعد أخرى. ذلك مع كل الآراء والتوجهات السياسية الهامة , مثل: انذار 4فبراير سنة 1942, والافراج عن سعد زغلول ثم وفاته فىالجزء الثانى, وفى الثالث تجلت مفاهيم الرواية النضالية , رواية الأجيال ..جيلا بعد جيل:
"عندما مرا بدكان الشرقاوى, وهو يقول:"كلفتنى كريمة بان أستبضع لها بضائع للمولود المنتظر. ودخلا الدكان , وراح ياسين ينتقى ما يريد من لوازم المولود المنتظر: قماطا وطاقية ومنامة , وعند ذلك تذكر كمال أن رباط العنق الأسود الذى استعمله عاما حدادا على والده قد استهلك , وانه يلزمه آخر جديد ليواجه به اليوم الحزين , فقال للرجل حين فرغ من ياسين:
-رباط عنق أسود من فضلك.
وتناول كل لفافته وغادرا المكان ".. السكرية ص332
ويبرز تواصل الأجيال , واستمرار الحياة, على الرغم من كل شىء.
رواية "مكابدات عبدالله العاشق" للروائى "عبدالخالق الركابى"

واحدة من الروايات العربية "عراقية" التى صنفت على شكل رواية النهر, حيث تعالج الفترة من الاحتلال العثمانى حتى الاحتلال الانجليزى للعراق, ثم جيل الثورة هناك.
ثلاثة أجيال موزعة بين الجد والأب والحفيد .."خلف", "عبدالله", "صمد عبدالله". الأول يمثل جيل المعاناة والمفأجاة , حيث استبداد واستعلال الاحتلال العثمانى ثم الانجليزى, وقد اختار الروائى المكان فى احدى القرى الحدودية , فساعد على ابراز الجانب الاجرائى والأفاعيل الشرسة للاحتلال.
الثانى, وهو يمثل جيل اليقظة, والرغبة فى التحرر مع تحدى السلطات الاستغلالية المحتلة, كما بدت التحديات وبالتالى النضال من خلال الحياة اليومية والحياتية..مثل مقاومة "بشار" الذى طمع فى "نرجس" التى عشقها "عبدالله"..وبلا ادعاء أن تكون نرجس هى الرمز للعراق الجديد, مجرد الفعل المقاومى دلالة هامة. وقد أشار البعض أن تكون "نرجس" هى العراق, دليل أن عمد عبدالله الى اخصاء "بشار" , وهذا العقاب وحدة يحمل دلالة الرمز .
الثالث, هو جيل الثأر والثورة, جيل الكفاح المباشر , بلا ترميز أو ايحاء بالنضال. فمقتل "الشيخط عميل السلطة ورمز التسلط ..وحده, يعنى افعال العمل النضالى من أجل تحقبق المزيد من التحرر والتحقق أيضا.

قد يؤخذ على العمل الروائى , قدر التعليمية أو التلقينية أو المباشرة ..فى الكثير من الأحيان يبدو وكأن الروائى له هدف ويسعى الى ابلاغه, دون البحث فى التقنيات الفنية الخبيثة والمرغوبة. وهو الأمر الذى يجب ألا نتوقف امامه طويلا بالنظر الى سنوات كتابة ونشر العمل, فى الثلاثينيات من القرن الماضى.

الا أن العمل يمثل رواية النهر أفضل تمثيل, ويبرز العمل المقاومى / النضالى بين طياته جليا, سواء من أجل البحث عن الهوية, أو اظهار الآخر العدوانى بكل مساوئه.
تتبع استشهاد "عبدالله العاشق" باستخدام السرد المباشر, والاسترجاع من خلال معايشة الشخصية وابنه "صمد". حيث أبرز الروائى نشأته ثم عمله لدى "الشيخ" الذى يمثل الوجه الآخر بما يحمله من مساوىء الاقطاع والاستغلال أو أصحاب السطوة والمال. فلما أحب "نرجس" رفضه الأب للفوارق الاجتماعية بين الأسرتين. ومع ذلك وضح الروائى كيف أنه رفض فعل الخطأ أو "الاغتصاب" كحل اجبارى على أهلها لتزويجها له..
"أن تموت أولا..أن ينالها أولا ..شىء واحد شخص أمام عينيه المعتكرتين ...الخزى...الخزى الأبدى ...سواء قتلها أم لم يقتلها سيظل الخزى يلاحقه" ص82
أما أن يفعلها "بشار"..يغتصب نرجس, فلم يجد عبدالله الا أن يقتل غيه رجولته التى هى أهم وأقسى ما يمكن أن يعاقب به الرجل.. قطع أعضائه التناسلية.

من شدة وطأة أفعال "الشيخ" هرب "عبدالله" , لستشهد بشظايا القصف العشوائى من الانجليز على أهل القرية, معبرا عن جيل يحاول ولكنه الأضعف قليل الحيلة.

اجمالا الشيخ عميل للآنجليز كما كان أبوه "أبوالليل " عميلا للعثمانيين, ويبدو أن اهتمام الروائى بشخصية عبدالله غلبت , فبدت الكثير من الشخصيات باهته الى جواره, وهو مأخذ فنى لا يقلل من دلالة العمل, ومن كونها رواية نهر ..أبرزت تاريخ بلد عربى خلال فترة زمنية طويلة.

ثلاثية "الصعود فوق جدار أملس", "جبل ناعسة", الجهينى" للروائى "مصطفى نصر"
هذه الثلاثية نموذج آخر من روايات النهر النضالى, فقد استبدل الروائى وحدة المكان بدلا عن وحدة الأسرة, وان عبرت الروايات الثلاث الأجيال المختلفة والكفاح من اجل الخلاص من الفقر وقلة نسبة التعليم والعادات الاجتماعية والظواهر السيئة مثل تعاطى المخدرات...الخ.
يعتبر حى "غربال" بالأسكندرية من الأحياء القديمة الفقيرة بها. وقد نزح اليه جماعات من أهل صعيد مصر وشكلوا هذا التجمع السكانى. ومع كل المتناقضات بالحى , كانت السلبيات الاجتماعية التى أبرزها الروائى.

ففى رواية "الصعود فوق جدار أملس" المكان هو فندق أو "لوكاندة" قديمة متهالكة . داخل الفندق تمارس كل المبيقات والمفاسد, وكأنه تجمع شامل لكل ما هو سىء خارج الفندق.
بينما رواية "جبل ناعسة" أصبحت فيه الشخصيات هى التاريخ , ومن خلالها يتعرف القارىء على أصول المنطقة أو الحى كله.
أما رواية "الجهينى", فقد اتسعت الرقعة المكانية وكان حى غربال صراحة هو المكان والارضية التى يتحرك عليها الشخصيات وتدور الأحداث.

يمكن الاشارة الى بعض الشخصيات المحورية وابراز الجوانب التى تشى بأسباب النضال أو المقاومية بالتالى, ومنها:
"نبيل" وأختيه "عزيزة" و"أمال" فى رواية فوق جدار أملس, يبدو نبيل متلصصا ويسعى للكشف, الا أنه لا يعرف عما يتلصص عليه, وان بدى أنه يتلصص على كل غرف الفندق لأسباب نقترح منها الأسباب الجنسية والتطفل. بينما سوء سلوك "عزيزة" وممارسة الجنس مع "صابر" وأيضا "أمال" سيئة السمعة.. لا يعنى سوى البحث عن شىء ما , مع نزعة الى رفض واقعهم.
أما "جابر عبدالواحد" فى رواية "جبل ناعسة" وهو الكاتب الذى وجد الشهرة فى القاهرة, وعشق الراقصة "سامية خضر" .. فقد بدأت الرواية به فى زيارة له للحى, وتنتهى بزيارة الأخ الأكبر "صبحى" الذى قتل "أنطونيو" انتقاما منه لأنه أقام علاقة جنسية بالأم (أم جابر وصبحى". وسواء جابر أو غيره من شباب الحى, فلا يعنون سوى الانتهازية أو الحلم المجهض.
ثم "عباس الجهينى" فى رواية "الجهينى" , الذى هو الأمى , القادم من الصعيد بلا أى مؤهل سوى الاستغلال والحيل الخبيثة مع الذكاء الفطرى الموظف لغير أغراضه. يرشح نفسه فى تنظيم "هيئة التحرير" فى الخمسينات, بينما النموذج المثقف أعتبر ثورة مضادة , وهو "الدكتور اسماعيل الجهينى " وهو عم عباس. وفى هذه الرواية تحديدا بدت ملامح المكان القميئة والتى لا يمكن أن تنتج الا النبت القمىء.

كما كانت هناك الشخصيات النسائية القميئة , التى بوجودها تبدو وتنكشف الشخصيات الأخرى وتضيف لأحداث الرواية/الروايات..مثل "بدرية" صاحبة اللوكاندة , والتى طردت زوجها.. و"أنصاف" أو أم جابر التى رفضت قتل عشيقها ,وان كان ذلك من ابنها. أما "خضرة" فى رواية "الجهينى" فهى النموذج المضىء بين أغلب العناصر النسائية فى الثلاثية . فهى المأوى والمستقر لكل قادم جديد الى الحى , وتسعى لكل مشكلته.

يبقى الاشارة هنا الى أن تلك الثلاثية, لها خصوصيتها التى تتمثل فى أن الآخر العدوانى ليس بالضرورة عدوا من الخارج أو محتلا.. ربما الجهل والفقر والمرض والسلوك البغيض والنزوات الشريرة..الخ هو العدو والواجب مقاومته.


خاتمة:
يمكن ابراز علاقة رواية النهر بالمقاومة فى العناصر التالية..
1- جوهر هذه الأعمال الروائية , يعتمد على ملاحقة شخصيات عديدة , لأكثر من جيل , فى بيئة اجتماعية تبرز الملامح الاقتصادية المعرفية ..للطبقة الوسطى أو الطبقة الدنيا..أو من بيئة ريفية أو حضرية.
2- فى الغالب العدو هو عدو أجنبى, وقلة هى التى تبرز جانب آخر من الأعداء, وأيضا تدعو لمقاومته بالتالى.
3- الاعتماد على عنصر الوصف والتحليل ضمن تقنية الحكى.
4- غالبا تقع تلك الأعمال ضمن أعمال المذهب الواقعى, وهو الملائم حتما مع الخاصية الأولى.
5- العناصر السابقة مجمعة تبرز وجهة نظر الروائى..التى هى الانتماء وازكاء روح النضال والكفاح.