وقفة نقدية في القص القصير جدا

طرأت تقليعة إدمانية على القص القصير جدا لدى كتابنا في إطار التجريب الإبداعي في منهجيتهم القصصية ، وغدت موضى دارجة في النشر وبالأخص على شبكة الإنترنت ، لذا كان لا بد من تسليط الأضواء حول تلك الظاهرة ومعالجتها في ضوء المنطقية المنسجمة مع خط الواقعية في الإبداعية الأدبية وفي الواقع ما زالت الآراء تطارح نفسها في عوالم ( ق. ج.ج ) بين متبني لها ومدافع مستميت عنها وبين رافض مقاوم لها وكل له وجهته في الطرح ،و أدلته في تحري الإقناع ، والمنطقية العلمية تقتضي المحاكمة الموضوعية لهذا الجنس الأدبي من القص بين أبعاد إبداعه وأثره في المنجز الأدبي وتحقيق رسالته وبين ضبطه من خلال منظومة الأركان التي تسهم في جعله يقف ببناء قصصي مقنع على الصفحات ، وستبقى الآراء متضاربة في هذا الجين الأدبي الجديد على ساحتنا الأدبية والزمن في أفاق رحلته البعيدة ما زال متاحا له ليكشف عن ذاته وإمكانياته في البقاء وتحقيق ماهية الإبداع في تكوينه الجيني ،باعتبار أن ما سينفع الناس سيمكث في الأرض

ووجهة نظري أن من أهم السلبيات والمعضلات القاهرة التي لا يقوى ذلك النوع من القص على مواجهتها وردها هو مسالة الاستسهال والغرابة الطريفة فيه وهي موضع الحرب الشعواء عليه وفي هذا الصدد يطل علينا نص لنبيل جديد تحت عنوان " حياة مواطن " إذ يقول فيه : حاضر سيدي فهذا النص يعاني حالة ضمور في كافة عناصر التكوين الأدبي، فضلا عن الوضعية الخطرة التي يخلفنا فيه الناشئة من استسهاله واخراجه من دائرة الموهبة الإبداعية فالاستسهال هنا نابع من قصر النص وامكانية كتابة عدد كبير على غراره فأين مغزى الإبداع في هوية ذلك الجين القصصي المتشكل في هذا النص !!!! وبناء على تلك المنصة من القص سيخرج علينا من يتبؤى مقام القص فيجد فيها من لاهوايةله سوقاً لابتذال بضاعة القص في خلل يشكل انتحار للإبداعية الأدبية في المشهد القصصي العربي .

وعلى كل ستبقى وجهات النظر متفاوته و أصر على اعتبار أن الزمن هو الحكم الكفيل في كشف الحجاب عن هذا النوع من القص واثبات جوهر مادته في الصمود واثبات عضويته الدائمة في شجرة عائلة الأدب كغصن إبداعي له مقامه في هوية القبول الوجودي في المسرح الأدبي باعتبار أن البقاء في ذلك المسرح للأبقى في المهارة الإبداعية والأنفع في الرسالة التوجيهية

وتوقعاتي الذاتية ترجح أن سر الامتعاض من هذا النوع من القص في الغالب لا تعود لجوهرة بقدر ما تعود للمحاولات القصصية التي ما زالت عفوية تلقائية لا تقوى على الاصطباغ والتشبع المترع بأركانه وماهية عناصره في القص ، إذ ما زالت مبعثرة ومجتزأة وتعتمد على الاستسهال ، فضلا عن عدم وضوح هوية القص المختلطة مع أجناس أدبية أخرى مثل القصيدة النثرية وغيرها وهذا من وجهة نظري هو لب الحرب السجال على هذا النوع من القص باستثناء بعض الأقلام المبدعة وهي نخبة نادرة ، لا تفي في تحقيق هوية القبول الطيب الحسن لهذا الجين الغرائبي من القص في الرؤية النقدية الممتعضة منه .

نماذج نقدية في القص القصير جدا

النموذج الأول : القناع نص ودراسة
القناع للكاتب فوزي المغربي

كان اللقاء في مكان مقفر.كنا وحدنا، فكان الحب ثالثنا: أحسسنا بالامتلاء، فآثرنا البوح الهامس والإنصات إلى إيقاع قلبينا و إلى حديث عيوننا... فجأة، و بحركة خفيفة، انتزعت طاقم أسنانها، كاشفة عن وجهها الآخر. بدت تشبه كائنا خرافيا. اختلط كل شيء في رأسي، فأمسكت الأرض.. صاحت بفم أدرد: - إيه، فين الغزال؟ فعدوت هاربا مثل حيوان صغير استشعر خطرا وشيكا.

قراءة تحليلية نقدية في نص القناع :

يمثل " نص القناع " لوحة قصصية مقتطفة بإختزال من مشهد الطبيعة المفتوح ، وتتشكل فيها مهارات الأخيلة الخصبة في تركيب بنائي إنشائي ، حيث تعد المحرك المولد لفنيات ومؤثرات النص ، إذ تكسو شخوصها جسد وجودها في بقعة مقفرة مقتطعة من فصول الحياة المفتوحة في مسرح الحياة ، وتوظف تلك الأخيلة في تغذية رمزية للغة البث المجسده لهم ، بحيث تستدعيهم من عوالم المجهول إلى دقات الحاضر المشهودة في النص ، حيث تلتقي الفكرة الغائرة في العمق مع شحن عاطفي متدفق في بدء استهلالة النص ، إذ لايلبث أن يؤول إلى ميكانيكا حركية مسعورة تغادر آدمية الجسد في لغة المفارقات ، حيث تنكشف هنا الحقيقة بوجهها المفتوح الملون بأطياف منوعة بحسب منظومة القارئ الفكرية الخاصة ، ومزايا المؤثرات التي تخالجه في لحظة التحامه مع النص .

ويجرد كاتبنا النص هنا الحقيقة التي تحتضن ببراعة مركزية جماليات النص في ماهية التعبير الرمزية ولاخلاف أن من بدهيات إبداعية الأدب أن تشكل الحقيقة بقداستها الرمزية رحماً خصباً لماهية جمال النص في لغة التعبير ، لذا تشكلت هنا ماهية الفكرة في غور حقيقة تتجرد في النص في مساحات الإطلاق إمكاناً وطاقاته الدافعة فعلاً ، وهذا يشكل بعداً إبداعياً في النص لتوفر عنصر الفكرة الدقيقة المتجردة بمهارات التصوير الفني ، وحاضنة الحس المرهف الشفاف ، وتدفقات شعور الذات في لذة التلاقي ومواجهة الخطب في لغة الهروب واستطرد هنا وأؤكد بأنه لاخلاف في المدرسة البنائية على أن النص الفارغ من فكرة أو فساد الفكرة يقتل جماليات النص وسحره في التعبير ، لذا نجد نصوصا قصصية ذات سحر جذاب في التعبير لكنها في مادة المضمون تعاني من عقم رحمها في لغة الفكرة وبريق الحقيقة الساطع من السطور ، لذا فإنها تعد ساقطة أدبياً لإعتبارات خلل الفكرة في المحتوى وتميع بضاعتها وعبثيتها في النقش الفارغ بحيث يأد كاتبها بجداره نصه في قبره المبكر خداشا مشوها من أول حرف يسطره على الصفحات

و النص الذي بين أيدينا موضع الدراسة ، تتشكل عناصر الإبداعية الأدبية في تناغم الفكرة مع خطاب الذات والأخر في تجلي متضاد بين رومانسية التلذذ وانتفاضة قشعريرية في حس المفاجأة ودينامية تعزف لحنها الأخير في لغة الهروب والانسحاب الخارق من الصفحات ، بحيث تتشكل في منظومة تركيبية بنائبة تؤثر وتتأثر في نسيج مرهف مادة الفسيفسائية مكونة من عنصر الأخيلة الخضبة الذهنية المتولدة من مصادرها الخبرية التي تعبر بمهارة إلى الذاكرة في رحمها الرمزي المرهف نبضا وتدفقا في وجدان السارد ، فتتشكل ماساً مسبوكاً بفنيات عالية في محبسها الورقي القصصي .

ويسطع بذوقية نصية في شفافية البث ورومانسية الشحنات الشعورية في البدء التي يتعقبها سياحة الذات في هروبها الأخير من الجسد حيث لا عودة لها في لغة تلاقي الأجساد على ضفاف مقطع الطبيعة الحي ، المترع ببث مؤثراته الإنسية والخرافية في الإيحاش ، في صياغة سردية تختزل شيفراتها في ثنايئة إيقاع هادي رائق يعقبه فوضى صاخبة تعم النص كله بأزيز دينامية المفاجآت .وإلى هنا أسدل الستار في قراءاتي التحليلية التجريدية في بعد القص البنائي الذي أخذت بعدا منه يتناول الفكرة والأخيلة والشعور والذائقة في النص في ظل منظومة المؤثرات على النص وتجريد لغة الأنا والأخر في لغة الخطاب والمواجهة المتراقصة مع بعد الزمان والمكان وتداخلات لغة الإيقاع في النص ، المنطبعة في نكهة تنويرية تجريديه لشيفرات النص المتناثرة في ثناياه .


النموذج الثاني : الشفق الأبيض نص ودراسة
الشفق البيض للكاتب فوزي الحداد

في محيط واسع ولدت موجة ، لم يعتن بها أحد ، لم يهتم أحد لشأنها ، فنشأت يتيمة . تعلمت القسوة طريقاً للبقاء ، فكبرت وامتدت وعرفت معنى القوة ، وتحطيم الآخرين . كانت كلما ازدادت قوة وجبروتاً ترنو إلى البعيد إلى حيث الشفق الأبيض ، فتراه حلما ً كالأمل بعيدا كالسراب ، فتؤمن أكثر بضرورة الوصول ، في طريقها الطويل أغرقت جزراً وأساطيل ورأت عوالم عديدة : أسراب المهاجرين في السماء والصيادين في ليل البحر وفي الأعماق كان كل شيء غامضاً ، كانت ترى قناديل البحر تضيء أماكن صغيرة في عالم المحيط الغامض ، تتعجب من صبرها ، لكنها لا تتوقف تمضي بكل الصلف والهيمنة إلى الغاية الحلم . عــــانقت الشفق الأبيض بكل الشـــوق واللهفة ، احتواها في هدوء ، وامتص عظمتها في لحظات .. الموجة لم تعرف بعد ، أكانت تلك البداية أم النهاية .

قراءة تحليلية نقدية في نص الشفق الأبيض للكاتب فوزي الحداد :

يشكل نص الشفق الأبيض بعدا تطبيقيا لقضايا نقدية شائكة على مائدة البحث النقدي ومثيرا لها في ساحة البوح والبحث وذلك نابعا من أن النص يعد تطبيقا وإجابة مستفيضة لتلك التساؤلات أو على اقل حد مثيرا لها وذلك بحد ذاته تميز مبدع للنص وتطبيقا فاعلا لها في القراءات المتولدة من النص والبحاثة عن آليات القص ومزايا إبداعاته في النص
فالنص يعتمد آلية الاختزال الوافية في العرض ويدور في أتون آهات ذات تتولد بقوة من أعاصير الرفض والتحدي ، التي تؤول بها في ظل أجيج الرفض إلى سلب مطلق في تجاوز الآخر وكسره قطعا منثورة في عظمة التواصل مع الق التحدي البعيد القريب ، الغائب الحاضر في تلك الذات المتصدعة المتحركة بقوة من أثير الطاقات الكامنة بقوة من متتاليات خلجات ذلك التصدع المحرك ، في سلبه وايجابه في الآن ذاته

ولكن كاتبنا المبدع هنا يضبط اتقاد مشاعره في النص من الانفلات ويحافظ على بينته في القص فيشعل شمعات مضيئة تأملية في أعماق غموض تلك الذات التي تشحنها الآفاق بإثارة أبجديات تساؤلات مبهمة يقينية في الآن ذاته
ويدور النص في آفاق مفتوحة الأبعاد حيث التؤامة مع لغة تلك الذات التي تشرع نوافذها في الامتداد حيث اللانهايات وعند بلوغها ، تبدأ متتاليات البدايات في رحلة العمر اللامتناهي في النهايات .
ويتشكل في النص لغة المطامح في شاعرية الحس المتدفقة عذوبة في النص وتؤطر شاعرية اللغة النص كله في عبق وردي يعطر النص كله.

ويعد النص نموذجاً لثنائية البراعة لدي الكاتب في الغوص المختزل الوافي لتلك الذات التي تشكل بؤرة النص ومداراته في لغة القص بحيث أبدع الكاتب في الرمزية التي تقاسمتها ثنايئة التعبير لتلك المتضادات في تلك الذات بين عنفوان قوتها العاصف وخلجات ضعفها المتناهية هذا من جهة ومن جهة أخرى بروز التؤامة الثنائية في إسقاط تلك الرمزية على لغة المكان والزمان في رسم هذه اللوحة القصصية المبدعة لتلك الذات لما يتعرج فيها من انحناءات لولبية في تلك الذات المتضادة التي يمتد عنفوانها لتكسر قشور السطور والحروف فيبلغ القارئ معها إلى تلك الشعب المرجانية المعقدة المتداخلة في بوحها الذاتي ومدارات وعيها بذاتها اللاوعي
ويتشكل في النص سمات إبداعية في لغة الغموض التي تكتنه عنوان النص فيتدرج النص بجاذبية العرض وشاعرية الحس المتدفق حتى يبلغ لحظة المفاجأة والكشف النوراني الممتد بلا نهايات لتلك الذات الدائرة بفوضى وهدوء في الآن نفسه
" عانقت الشفق الأبيض بكل الشوق واللهفة ، احتواها في هدوء ، امتص عظمتها في لحظات "
وتسدل النهايات في بصمة إبداعية مؤثرة ـ تخلف أثرها السحري الجذاب في مشاعر القارئ المرهف
" الموجه لم تعرف بعد ، أكانت تلك البداية أم النهاية "
ويثير النص منظومة تساؤلات ما زالت رحاها تدور في قضايا البحث على مائدة النقد واوجزها على النحو الآتي :
*ما مدى الحد الفاصل بين كاتب النص والذات الدائرة في النص ، هل هي تؤامة التلاقي أم أحادية البث في السرد على السطور ، المنفصمة عن ذات المبدع أم هي التؤامة المختلطة في شحناتها الشعورية في موج هائج لا بززخ بينهما ، المنفصم عن اطروحات الأحادية والفصل بين الذات المبدعة للنص والدائرة في آتون النص ؟

* إلى أي حد وفق كاتب النص في التعبير عن خلجات الذات المبحرة بقوة في النص وإلى أي مدى وافق رسم النص مع متطلبات الحدث الدائرة في النص لغة وتعبيرا وعفوية وتعقيدا
* ما مضامين التؤامة بين الذات والمكان في النص وأيهما طغى على الآخر ، أم كلاهما احتوى الآخر بحيث اختلط الليل مع النهار في لحظة محتبسة عابرة ؟ وهذا الطرح يولد تساؤلا آخر في لغة الزمان الدائرة في النص ؟ إذ احتوت الجميع في عالمها العلوي الطاهر؟ وهذا يعزز ثالوثا اسقاطياً في النص التحم في أحادية واحدة . وهذا بحد ذاته إبداع في النص وميزة تجديدية في آليات القص.


كل تلك المنظومة من التساؤلات المنبعثة من النص ، تشكل دلالة مشرقة على البناء الإبداعي في النص وفيوضاته المتالقة في التعبير نصا ولغة ونقشا للحدث وجاذبية شاعرية دافئة في البث
وفي نهاية المطاف أرجو أن أكون قد وفقت في العرض وأعطيت لموضوع الدراسة النقدية هنا ما يستحقه من الجهد البحثي الغواص وجليت الأضواء حول القص القصير جدا في النظرة الواقعية وبعد المستقبل الذي ينتظره وكشفت بعضا من ثناياه من خلال نماذج تطبيقية تحليلية تدور في فلكه .