منظومة القراءة ، سلطة القارئ

القراءة تمثل وحدة معرفية من حيث الأداء التحليلي أو الإستقرائي لتحصيل رؤية معينة أزاء منتج معين ، ولإنجاز مهمة القراءة طبقاً للتعريف اللغوي الذي أشرت إليه في دراسة " القراءة بين الإكتشاف والتأويل " ، أرى من الضروري التعريف بأهم العناصر المعتمدة في إنجاز مهمة القراءة بحيث نتمكن في النهاية من تحديد هوية معرفية لنص القراءة المنتَج ، وبنفس الوقت نستطيع أن نتحقق من تأدية مفهوم القراءة الكلّية أو القراءة الشاملة التي ترتكز على مجموعة إستحالات أو مستويات بحثية ضمن إطار المفهوم العام للقراءة ، وتشكل مفردات مثل القارئ ..النص .. المرجع أهم العناصر التي تسهم في تدوين مفهوم القراءة ، ويعتبر القارئ أحد أهم هذه العناصر لما يتمتع به من سلطة معرفية تتضمن أدوات تعريفية وتحليلية ثم تأويلية لتأطير المنتَج المعرفي ، وتعتبر سلطة القارئ الجزء الأكثر تأثيراً في تدوين مفهوم القراءة كعملية إبداعية ذات بعد معرفي مؤثر في صياغة المفهوم العام للوعي ، ومع تطور أساليب الكتابة ودخول عنصر التكنولوجيا في حقول التعريف بالنتاج الإنساني تطورت أساليب ومفاهيم القراءة ، ويعود ذلك بالدرجة الأساس إلى النظريات النقدية التي ظهرت إبتداءاً من القرنين الماضيين والتي أسست لمنهجية علمية في طريقة القراءة سواء كانت القراءة لنصوص مكتوبة أو قراءة لآثار فنية وجمالية لمختلف الجوانب الحياتية ، وبعبارة أخرى القراءة التي تعكس وجهة النظر بالمنتج الإنساني سواء كان أثراً نظرياً أو تطبيقياً . 

سلطة القارئ تمثل مجموعة إحداثيات تتشكل ضمن بيئة مؤسس لها من حيث الإرث المعرفي والوعي المكتسب ، وهذه الإحداثيات التي يسميها البعض أدوات تؤدي وظيفة محورية ضمن شبكة علاقات ورؤى مع آليات القراءة الأخرى المتمثلة بسلطة النص والمرجعيات التي تخص كل من النص والقارئ ، وبناءاً على هذا التوصل يمكن تجسيم سلطة القارئ إلى مجموعة طاقات وإمكانيات تعمل معاً لتؤدي وظيفة مشتركة ، وظيفة تطويرية تعنى بالإقتراب من منطقة النص المكتوب وفق سياسة عمل منهجية ثم تتحرى المداخل المتوقعة والمقترحة للنص قبل الولوج إلى بواطنه ، وهذا التحري يتم من خلال بناء شبكة من العلاقات مع النص تسهم في دفع عملية القراءة بالإتجاه الصحيح وتمكن القارئ من تنفيذ جزء من سلطته ضمن عملية القراءة ، إذن فالأدوات الفنية التي تشكل سلطة القارئ يمكن أن تكون أدوات مكتسبة يستطيع القارئ أن يتحصّل عليها من خلال الإستفادة من الإرث الأدبي المتمثل بالنظريات الأدبية ذات الصلة ونظريات النقد الأدبي التي تشتغل في مناطق تحليل النص إلى بنيات ورؤى وعلاقات ، ويمكن أن تكون أدوات مستنبطة يستطيع القارئ أن يطور قابليات ذهنية وتحليلية تؤدي وظيفة إيجابية ضمن عملية القراءة ، فالقدرة على تمييز وتحديد أبعاد النص المتمثلة بالأبعاد البيئية المكانية والزمانية والأبعاد النفسية والإجتماعية تمثل علامة مميزة ومتطلّب أولي ضمن تلك الأدوات ، وهذه القابلية تتيح إلى تبني الخطوة التالية ، الخطوة التي تمثل القابلية التحليلية التي من شأنها تعمل على كشف النسيج الداخلي للنص ، والقابلية التحليلية تؤدي إلى كشف جزء من المرجعيات المتعلقة ببناء وتشكيل النص وكذلك تمهد إلى التأسيس للرؤية التفكيكية التي تأتي دائماً متلازمة مع الرؤية التحليلية ، وفي الكثير من الأحيان يتم الدمج ما بين الرؤيتين ، فسلطة القارئ تمثل ماهية الأدوات الفاعلة القادرة على إضاءة البيئة المحتضنة للنص وتحليل وتفكيك النص ثم إعادة تشكيل مجموعة الرؤى والمفاهيم ضمن نسق لغوي يعكس وجه النظر او الإستنتاج المتوقع لرؤية النص. 

إحداثيات سلطة القارئ تتمثل بشكل عام بمجموعة منظومات ، منظومة المنهج ، منظومة تحليلية ، منظومة إرثية تستلهم مفردات التراث والتاريخ والميثيولوجيا ، هذه المفردات تساهم في بناء رؤية واقعية في فهم الإطار العام للنص ، من حيث المعطيات البيئية التي رافقت تشكل النص ، وأقصد بالمعطيات البيئية للعناصر المتعلقة بمفاهيم الزمان والمكان والمجتمع ، وهذه المفاهيم تشكل أهمية بالغة ضمن مفهوم سلطة القارئ ، لأن البعد البيئي لأي نص يلعب دوراً فاعلاً في عملية الكشف عن الهيكلية والبنية الخاصة بذلك النص ، وعلى سبيل المثال : النصوص المنتَجة في بيئات شمال أمريكا ترتبط إرتباطاً وثيقاً بالمفهوم البيئي لمجتمعات شمال أمريكا من حيث التصور التاريخي والمعرفي للمفاهيم الحياتية لتلك المجتمعات وبالتالي فالقارئ الذي ينتمي لمجتمعات شرقية سوف يصطدم بمعضلة الفهم الواقعي لنصوص تشكّلت وفق رؤى ومفاهيم أثنية وإجتماعية تختلف بعض الشيء عن الخلفيات الإجتماعية التي تمثله ، وهذا ينطبق تماماً على القارئ الذي ينتمي لمجتمعات شمال أمريكا ، وبعد تطور أساليب القراءة المرتبطة بوسائل التطور التكنولوجي من حيث الإتصال والتأثر استطاع الكثير من القرّاء تجاوز هذه المعضلة من خلال الإطلاع على المنظومات الفكرية والإجتماعية السائدة في مجتمعات مختلفة والوقوف على أهم الفوارق المنظورية التي تميز المجتمعات المختلفة ، وصار بإمكان القارئ من مختلف الأثنيات أن يرصد سلوكيات النص المرتبطة بالمفاهيم البيئية والإجتماعية ، إضافة إلى ذلك فالدراسات النفسية التي أنتجتها مدارس فكرية مختلفة ساهمت إلى حد كبير في تدعيم سلطة القارئ بمنحه مساحة تأملية واسعة يستطيع من خلالها دراسة الأبعاد النفسية والسلوكية التي عملت على ترسيخ مرتكزات النص وعكس الرؤى والإسقاطات الفكرية التي مارسها الكاتب على واقع معين شكّل جزءاً من تجربته الحياتية فدوّن مجموعة الإرتدادات الذهنية أو مجموعة الإستفزازات والإستقراءات وحتى الإستنطاقات في وثيقة سميت بالنص أو الأثر .

المنظومة الإرثية التي تؤسس ركناً حيوياًً في سلطة القارئ المعرفية تعتمد على مدى إستفادة القارئ من إرثه الثقافي المرتبط بمجتمعه الأم من خلال الكشف الدقيق والتحليل المنطقي والعلمي لمركبات ذلك الإرث حتى يتمكن القارئ من إستثمار شبكة المفاهيم والرؤى والسلوكيات التي أنتجتها تلك المنظومة في إستقراء ماهية المنتَج أو النص ، أي عكس جزء من تلك المفاهيم ضمن تحرّي دلالي على بيئة النص المكتوب إذا كان النص منتج ضمن نفس بيئة القارئ ، وهذا يساعد بدوره على فك مجموعة الرموز وقراءة الأبعاد النفسية والرؤى الأسطورية التي استثمرها الكاتب في تشكيل النص ، أما إذا كان النص المكتوب ينتمي إلى بيئة مختلفة ويخضع لمنظومة إرثية تختلف عن المنظومة الإرثية للقارىء فيتوجب على القارئ أن يمارس من خلال سلطته المعرفية نوعاً من المقارنة الأولية بين مجموعة ثيمات وعقد يؤدي كل منها وظيفة معينة لتأطير بعد إنساني أو سلوك معين ، لأن الحضارات الإنسانية المختلفة وإن نشأت في بيئات جغرافية متباعدة ، تستخدم رموزاً ودلالات متنوعة لتعريف إحداثيات إنسانية عامة تشترك بها كل المجتمعات الإنسانية ، مثال ذلك عنصرا الخير والشر ، فالرموز المستخدمة لتدوين مفاهيم الخير والشر في مجتمعات الهنود الحمر تختلف عن الرموز والدلالات المستخدمة لتدوين ذات المعنى عند المجتمعات الشرقية القديمة ، إنما المدلول العام في كل هذه التنويعات الدلالية يبقى ثابتاً ، أي الخير والشر ، وبالتالي فالقارئ لنصوص تنتمي لمنظومات إرثية مختلفة وكمحاولة أولى للإقتراب من شواطىء تلك النصوص يحاول أن يستثمر تراكمه الإرثي في إستشفاف بعض المفاهيم ضمن الإطار العام النص وأحياناً ينزع القارئ إلى عقد نوع من التقابل الدلالي للوصول إلى حقيقة محددة ضمن بنية النص ، وبدون شك فإن الغنى الإرثي الثقافي والإجتماعي يشكل دعامة وركيزة مهمة ضمن سلطة القارئ المعرفية التي تعتمد في تنفيذ آلياتها على المنهجية الدقيقة ، أي القراءة المشفوعة بوعي وتخطيط مسبق .

تشكل المنظومة التحليلية ضمن سلطة القارئ المنطقة الأكثر إشراقاً والبعد الأوسع أفقاً في مديات حالة الكشف عن بواطن النص ، فآلية القراءة تسبر أغوار النص من خلال عدة مستويات بنائية ، والسلطة التحليلية تمثل المرتكز الحي في هذه الآلية من خلال دراسة وفهم المصطلحات والتراكيب اللغوية التي تؤسس البنية الشكلية للنص كخطوة أولى ثم تعمل على ربط هذه المفاهيم والمصطلحات برؤية القارئ وفق أسلوب منهجي متسلسل ، أي أنها تعمل على تحليل مفاهيم الخطاب الأدبي أو الفني وفقاً للرؤية المتاحة ضمن سلطة القارئ هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تعمل على تحليل المفاهيم والمصطلحات والرموز المتضمنة في النص المكتوب وفقاً للإنتماء البيئي والخلفيات الإرثية والإجتماعية للنص المكتوب ، أي أنها تعمل على تحليل البنية الشكلية للنص من خلال منظورين في آن واحد ، منظور القارئ ومنظور النص ، لأن هكذا عملية تؤدي إلى خلق بيئات مشتركة ما بين القارئ والنص كتبشير أولي بحالة القراءة ، وكذلك إزاحة الستار عن البنيات الهيكلية في كلا المنظومتين الإرثيتين للقارئ والنص معاً مما يدفع بالقارئ إلى بحث ماهية المفاهيم المشتركة ضمن البيئة الجديدة التي احتوت عناصر دلالية تنتمي لكل من بيئة القارئ وبيئة النص ، ويمكن تسمية هذه الوحدة ضمن المنظومة التحليلية بالوحدة التعريفية التي تسبق وحدة التشكيل ، ووحدة التشكيل يمكن تعريفها على أساس أنها الورشة الفنية التي تعمل من خلالها آليات سلطة القارئ في خلق قولب فنيةّ تسهم في دراسة البنى الداخلية للنص ، لأن القراءة الإستنطاقية بمستوييها البنيوي والتفكيكي تعمل على تحديد وتشخيص البنى الداخلية للنص ومن ثم تفكيكها ورسم ملامحها المعرفية والمرجعية ، وحتى يكون القارئ مهيّأ لإستقبال مثل هذه البنى يجب توفر قوالب فنية قادرة على إحتواء هذه البنى وتحليلها ضمن سياقها اللغوي والسيميائي ، أي توفير إطار ميكانيكي لمفردات ربما تبدو غريبة بعض الشيء وغير مفهومة ، ووحدة التشكيل ضمن المنظومة التحليلية لسلطة القارئ توفر هذا الإطار الذي يتيح في فهم وتحليل مجموعة من الرموز والإشارات والدلالات مكتشفة ضمن الوحدة التعريفية ، ووحدة التشكيل ضمن المنظومة التحليلية تمثل بحق المرجل التكنيكي في قلب المنظومة ، المرجل الذي يعمل على تشظية مجموعة المفاهيم أوالعلاقات والمرجعيات التي شكّلت هذا الرمز أو تلك الصورة ونقلها من المفهوم السميائي الخارجي إلى المفهوم المدلولي الأكثر شمولية ، أي إعادة تحليلها ضمن بيئة معرفية تنتمي لعوالم القارئ الذي يحاول إخضاعها لسلطته المعرفية ، وهذا الإخضاع يؤدي إلى تهيئة تلك الرموز والإشارات والبنى لعملية تأويل فنية منسجمة مع الرؤية التي تشكل مفهوم القارئ ، ومن هنا نلمس التباين في طرح رؤى مختلفة لقراءات مختلفة من قبل قرّاء مختلفين ، أو يمكن القول أن النص المنتَج وأقصد هنا نص القراءة يعتمد في تشكله على المنظومة الفكرية والمرجعية للقارىء ، إنما في السياق العام يخضع لسلطة معرفية تتضمن مجموعة منظومات ميكانيكية تعمل من حيث المبدأ التطويري على كشف وتمييز الملامح الخارجية للنص وكثيراً ما يسمّيها البعض بالملامح اللغوية ، ثم تعريف الوحدات الفنية التي تشكل النص مروراً بتحليلها إلى بنى وأنساق إعتماداً على الرموز والإشارات التي تمثل البعد الدلالي أو الدالات ، وصولاً إلى إعادة تشكيل هذه البنى ضمن تصورات وقناعات الرغبة التي تشكل سلطة القراءة . 

تمثل منظومة المنهج الدليل المعرفي الذي يسهم في تشكيل الخطوط البيانية لتنفيذ سلطة القارئ إبتداءاً من الفكرة الأولى أو الخطوة الأولى لعملية القراءة ، فالمنهجية تحكم عملية نمو القراءة وفق أسس منطقية بعيدة عن العشوائية ، وهذا يعني إستثمار الأولويات التي تمثل المفاتيح الممكنة لسبر أغوار النص ، ويمكن تلخيص مفردات هذه المنظومة على أساس نموذج مضغّر لوحدة معرفية تسمى القراءة : المفردة الأولى التخطيط ، المفردة الثانية التعريف بمرجعيات القارئ ومرجعيات النص ، المفردة الثالثة تحليل النص ، المفردة الرابعة تصميم القولب الفنية المتوقع أن تحتوي المنتّج ، المفردة الخامسة تعميم التأويل المقترح لعملية القراءة ، والواضح من خلال هذا النموذج أن عملية القراءة تمارس بشكل تسلسلي من الخارج إلى الداخل ، أو بعبارة أخرى من خلال إحداثيين ، الإحداثي الأفقي ثم الإحداثي العمودي ، إذن منظومة المنهج تعمل بشكل آلي على توجيه جهود القارئ لتحري الملامح الخارجية المتمثلة بسلوكيات الشكل اللغوي ، دون الخوض في متاهات التحاور مع البنى الداخلية كخطوة أولى ، لضمان عدم تشتت القارئ وإحباط محاولة القراءة ، والشكل الخارجي كما هو معروف يمثل نقطة التلاقي الأولى مع القارئ ، ويرتبط بالبنى الداخلية بطريقة أو بأخرى من خلال مجموعة روابط لا يتم الكشف عنها إلا من خلال قراءة نسيج الشكل الخارجي وفي كثير من الأحيان تسهم الأنساق الخارجية في تحديد هويات نصوص كثيرة اعتمدت في تشكلها على التكوين اللغوي للشكل الخارجي ، قراءة الملامح الخارجية تؤسس لعملية القراءة ، لأنه يتم من خلالها تنفيذ الخطوة التالية ، أي تعريف الوحدات أو الأنساق اللغوية التي من خلالها يتم تحديد البنى الداخلية للنص وهنا ينفذ فعل التحليل الذي يؤسس لرسم ملامح التاويل المقترح . وعلى هذا الأساس يمكن فهم سلطة القارئ التي تمثل دراسة لوعي القارئ والنص معاً وفق منهجية علمية ترسم ملامح عملية معرفية إبداعية تسمى القراءة .