القراءة بين الإكتشاف والتأويل

كثيرة هي المحاولات التي تشتغل على إعادة فلسفة مفهوم القراءة من حيث هي عملية إكتشاف قبل أن تكون تأويل للنص المكتوب ، ويبدوا للوهلة الأولى أن مفهوم الإكتشاف أقرب إلى تأكيد صحة الإدعاءات التي تدعِّم مفهوم القراءة على أساس أنها عملية إكتشاف كخطوة أولى في لحظة أولى ، وهي هكذا تبدو بمفهومهاالتقليدي ، وإذا حاولنا تدوين مفهوم القراءة كمصطلح فهذا يعني اننا نميل إلى تضمين معنى الإكتشاف ، فالقراءة كفعل ذهني ومنجز عقلاني تعرِّف مجموعة لحظات لحالة إستكشافية أولى ، فالقراءة تعمل كفعل آلي على تدوين مجموعة إنطباعات ذهنية تمثل الحالة الآنية لأثر النص أو المنجز الذهني المكتوب إذا ما سلّمنا جدلاً أن فعل القراءة يقع على المنجز الذهني المدوّن ، إذ لايمكن للقراءة أن تؤكد مفهومها بعيداُ عن أرضية النص المكتوب ، هذا يدفع إلى الإستنتاج أو بالأحرى التركيز على اللحظات الأولى للقراءة وكيف يمكننا تشكيل المفهوم العام للتسمية التي تكون أكثر ملائمة لوصف عملية القراءة في تلك اللحظات ، فقراءة النص تستلزم الخوض في عدّة مستويات أو لنقل عدّة مراحل وهذه تتم بشكل تدريجي يتوقف على ماهية القاريء الذي يمثل أحد أهم آليات القراءة وهو خارج حدود هذه الدراسة التي تعمل على تشخيص كينونات القراءة ضمن العملية الكليّة التي تمثل محاولة قرائية معرفية متكاملة ، وأقصد بالمحاولة القرائية المتكاملة هي تلك المحاولة التي تبتدىء بلحظات إنطباعية أولى تشكل مبرراً لتواصل القراءة ثم حالة إستنطاق لمركبات ومفردات النص تتبعها حالة تأويل فلسفية وفق رؤية معينة يحددها الفاعل أو القائم بفعل القراءة ، فإذا إقتصرت عملية القراءة على إنطباعات أولى دون أن تؤدي إلى إنتاج نص آخر هو الأثر الملموس لفعل القراءة لايمكننا أن ندّعي أن هناك عملية قراءة منجزة . 

فلحظة تدجين النص تبدأ مع الحراثة الأولى لمساحاته ، الحراثة التي تأتي مع تنامي الرغبة في التواصل ، اللحظة المشحونة بالهم الآني التي تلامس آهاب المتشكل من البنيات الخارجية وتتحرّى الهيكلية المفصلية للنص ، فتأتي لحظة إستفزاز مقصودة ، لحظة تثوير المعنى بشكله المبسط ، وربما هي محاولة إختبارية لعوالم النص وتأكيد لأدوات القراءة ، ويمكن القول أن المحاولة الأولى هي تدوين الإنطباع الأول لحالة لاحقة قد تكون ممكنة أوعسيرة ، وترافق حالة التنوير هذه حالة تدوينية ، فالإكتشاف يمثل حالة تبديد الضباب وتمكين الرؤية من النشوب في آهاب أفق متجدد ، ويمثل أيضاً حالة استقرائية لأدوات الكتابة ، فالنص المكتوب هو منتج ذهني وهذا المنتج مبني وفق شبكة من الرؤى والعلاقات ، ومحكوم بآليات كثيرة نزع الكاتب لإستخدامها بتصور معين ، فالقراءة هنا كحالة أولى تمثل محاولة لفك رموز هذا التشابك الذي يؤدي إلى إنتاج رؤية محددة تجاة آليات الكتابة ، وبالتالي تكون القراءة في سفرها الأول قراءة تكوينية ، قراءة إستنطاقية لإنساق كتابية ، قد تكون هذه الأنساق لغوية أو فلسفية وحتى نفسية ، ولكن يمكن القول أن المعني الأول بفعل الكتابة هو النسق اللغوي الذي يمثل المنظور الأكثر وضوحاً في حالة الإكتشاف ، ولأن النسق اللغوي يؤدي إلى ربط التواصل ببقية الأنساق التي تتشكل من خلاله ، ومن خلال إكتشاف البنية السطحية للغة النص نستطيع أن نؤسس سلطة القراءة كخطوة أولى ، فاللغة تمثل مدخلاً حيوياً لبواطن النص المكتوب .

إذن التجسس الأول ضمن عملية القراءة هو تجسس لغوي لتحري البنية الشكلية الخارجية للغة النص المكتوب وهذا التحري يؤدي إلى إنتاج رؤية أولية عن المستويات اللغوية الأخرى المستخدمة في بنائية النص ، كذلك يدعم فكرة إستنطاق البنى الرمزية والدلالية للنص لفهم حقيقي للبناء الكلّي للمنتج الذهني ، ومن خلال عنصر اللغة تستطيع القراءة أن تجسم الأدوات الفنية الأخرى المعتمدة في التكوينات البنيوية والرمزية والبيئات الزمانية والمكانية المساهمة في إنتاج التصور السايكولوجي للنص المكتوب ، إذن يكمننا القول أن القراءة الإستنطاقية لمجموعة العناصر والبنى التي يتضمّنها النص تندرج تحت مسمى القراءة الإستكشافية ، القراءة التي تمهد إلى رغبة التواصل مع الفعل المكتوب ، والتواصلية مع الفعل المكتوب يجب أن تكون مدعومة برؤية واضحة للنبش في خبايا النص ، رؤية ممنهجة لا عشوائية ، وهذا يقودنا إلى تأكيد مصطلح القراءة المنهجية ، القراءة التي تؤدي بالمعنى ضمن أقصر الطرق ، القراءة التي تستطيع أن تشخص مفاتيح النص ضمن تدرجات مستويات المعنى ، فالوصول إلى المعنى الكامن في عمق النص علينا الخوض في عملية القراة الإستنطاقية بمستواها العمودي ، المستوى الذي يتجاوز المستوى السطحي الذي ساهم في فهم شبكة العلاقات الخارجية للنص ومنها العلاقات اللغوية ، ولكي يتم إنتاج تصور شامل عن شبكة البنى والعلاقات الداخلية والخارجية للنص المكتوب ذلك يستدعي ان تتجاوز عملية القراءة حالة الإكتشاف البدهي المعلن أو حالة القراءة البنيوية للنص في حالة الإكتشاف الأولى إلى حالة القراءة التفكيكية لمجموعة البنى والعلاقات المشار إليها ضمن بنية النص ، طبعاً هذا لايحدث إلاّ بعد حدوث القراءة الإستنطاقية البنيوية كشرط لممارسة القراءة التفكيكية بمعناها الكلي ، فحالة الإكتشاف الأولى هي حالة تنويرية ، حالة بناء رؤية تخطيطية لممارسة الفعل التالي لعملية القراءة ، ومن خلال هذه المرحلة " الإكتشاف " تستطيع القراءة أن تؤسس آليات رصينة لولوج بواطن النص وإكمال عملية الإكتشاف التالي ، أي يمكن تسمية القراءة الإستنطاقية هي قراءة تجسسية بعدة مستويات تمثل القراءة البنيوية المستوى الأول في سلّمها ثم القراءة التفكيكية التي تمثل المستوى التالي والتي تعمل على مزاوجة المعاني والتصورات المستنبطة من القراءة في المستوى الأول لتؤدي في النهاية إلى التهيئة للمستوى الثالث من القراءة ألا وهو مستوى القراءة التأويلية التي تؤدي إلى إنتاج وجهة النظر الكلية أزاء النص المكتوب ، وتمثل الخطوة الأخيرة في صيرورة المنتج الذهني لعملية القراءة ، أو ما يسمى بنص القراءة ، النص الجديد المبني على تداعيات النص المكتوب .

القراءة التأويلية تمثل القراءة المنتًجة ، القراءة التي تستثمر ما أنتجته القراءة الإستنطاقية بمستوييها البنيوي والتفكيكي ، وعلية يمكننا أن نصفها بالقراءة الكلّية ، القراءة التي أنتجت نصاً آخر متكئاً على النص المكتوب ، أو القراءة الإستنباطية ، وفي هذه الحالة تكون القراءة قد تجسّدت عبر مراحلها في صيرورات أو إستحالات متتالية لتثوير المعنى المرجو من وراء عملية الكتابة ، أي تأكيد جدوى الكتابة كعملية بنائية ذات بعد دلالي يسهم في المشاركة في تدوين الوعي ، إذن القراءة يمكن تعريفها من حيث هي عملية إستكشافية تنويرية تأويلية ذات بعد دلالي مقصود ، وبهذا التحديد يمكننا أن نذهب مع المحاولات التي ترمي إلى إعتبار القراءة عملية مكمِّلة لعملية الكتابة ، فلا قراءة بدون نص مكتوب ، وبالتالي فالقراءة هي فعل ذهني منتِج يؤدي إلى إستنباط نص جديد يعتمد في تشكله على آليات القراءة كعملية ذهنية ذات بعد مستقل ، ربما يستمد بعض سمات تحفزه من النص المكتوب ، وفي كثير من الأحيان تثار مجموعة تساؤلات حول مصطلح تعريف القراءة وهل يمكن تعريف القراءة الإستنطاقية في مرحلة الإكتشاف على أساس أنها وحدة قرائية متكاملة بمعزل عن القراءة التأويلية التي تساهم إلى حد ما في تشخيص الهوية النهائية لمفهوم القراءة ؟ وكانت هناك محاولات في فلسفة المعنى مفادها أن القراءة يجب أن تكون مؤدية إلى منتج ذهني ، منتج متمثل برد الفعل تجاة النص المكتوب وإلاّ فالقراءة تصبح مجرد محاولة عقيمة لايمكن تأطيرها بمصطلح القراءة ، لأن القراءة الإستنطاقية بمستوييها البنيوي والتفكيكي تعمل على تحري شبكة العلاقات والرموز والبنى على أساس مكونات داخلية للنص تثير استفزازاً في ذهنية القارىء ، وبدون القراءة التأويلية التي تستثمر رد الفعل الذهني لإعادة صياغة وتشكيل ردود الافعال تلك إلى وحدة معرفية مستقلة تعطي إنطباعاً عن هوية النص المكتوب من حيث النوايا والأهداف . 

إذن عملية القراءة كأداء معرفي تعتبر عملية متكاملة تمر بمجموعة مستويات تبدأ بالإكتشاف أو التحري الأول وأحياناُ يسمى الإنطباع الأول ، ثم مرحلة الإستنطاق التي تعمل على تحليل البنى الداخلية وتفكيكها لتمهد للقراءة التأولية في إعادة تشكيل الوحدات المعرفية الى منتج نهائي يصف سلوك ودوافع النص المكتوب ، وإلى هذا التعريف يمكننا القول أن القراءة تتبع تسلسل منطقي في التعامل مع المنجز المكتوب ، تعاملاً مثالياً لا عشوائياً في أستدراج النص إلى مناطق أكثر إشراقاً ، أو بعبارة أخرى تعمل القراءة مع النص المكتوب عملاً تنقيبياً من حيث قصدية واضحة إذ لا نص بدون غاية أو دافع معين ، وتحديد هذه القصدية في تشكيل الرؤية الأولى لعملية القراءة التي تمثل عملية تدوينية تتضمن الإكتشاف والتأويل معاً ، ويجب الإشارة هنا إلى أنماط القراءة التي تمثل وحدات قرائية متكاملة إنما تميل إلى تخصيص الرؤية المنتَجة ، هذا التخصيص يأتي من خلال تحديد البنى والعلاقات التي تساهم في إنتاج نمط القراءة ، وعلى سبيل المثال القراءة اللغوية للنص هي منتَج معرفي لكل ما يتعلّق بإحداثيات لغة النص المكتوب ، وهي تمثل التأثير الفني والسلوكي لبنيات اللغة في الشكل الخارجي للنص وتأثيرها في معالجة وحدات البناء النفسي ، ووحدات النسق الرمزي والإشاري ، أي إظهار حالة التشكل اللغوي للنص وعلاقتها التبادلية بالوحدات البنائية الأخرى ، وبنفس الإدراك يمكن وصف القراءة النفسية والقراءة السيميائية على أنها أنماط قرائية تمثل وحدات متكاملة ، وكذلك القراءة التي تتناول مفهوم الزمان أو المكان ، مضافاً إلة ذلك أي قراءة تعمل على تشخيص عنصر محدد من عناصر الكتابة لتمارس علية فعل القراءة كوحدة شمولية لمجموعة قراءات تساهم في تشييد مفهوم القراءة العام ، أي صيرورات تتشكّل من مستويات القراءة الإستكشافية أو الإستنطاقية بمستوييها البنيوي والتفكيكي مروراً بمستوى القراءة التأويلية لتطرح رؤية شمولية لجانب من جوانب النص المكتوب ، وهنا علينا التمييز بين القراءة النمطية التي تمثل صيرورة متكاملة والقراءة غير الكاملة التي تقتصر على مرحلة الإكتشاف فقط والتي تسمى أحياناً باللاّقراءة لعدم طرحها مفهوم محدد عن هوية النص المكتوب ، وبهذا الفهم لعملية القراءة نكتشف أن القراءة من حيث هي أداء معرفي أو نشاط ذهني مسلّط بقصدية لتقصّي مساحات نص مكتوب ، هذا التقصي محكوم بآليات وعي متوازنة وبنويات تخطيطية واضحة ترسم ملامح الغايات المرجوة من وراء القراءة ، هي عملية إكتشاف وإستنطاق ، تحليل وتفكيك ، تأويل وتدوين ، أو بعبارة أخرى هي دورة معرفية متكاملة تمثل مجموعة صيرورات واستحالات لتؤدي إلى إنتاج نص جديد يمكن تسميته بنص القراءة .