قبلتين و درس

وبعدها تعلّمت ألاّ قبل بالمجان وأنّ كلّ شيء قد يصير شيئا آخر.
حينها كنت صبيّا أسكن أنا والعالم داخلي وكانت ملامسة العالم الآخر مجازفة لا تتمّ إلاّ عند الاقتضاء، قالت لي ميساء، بصوتها الطازج ولون بشرتها الرملي إنّني إنسان ورقيّ لأنّني لم أقوَ تقبيلها وسط ساحة المدرسة وإنّ الصبيان هم من يركضون عادة خلف الصبايا.
كان عمري في مثل عمرها، ثلاث عشرة سنة غير أنها كانت تفوقني فطنة وذكاء. يومها تعلمت أنّ كل أنثى في سنّك هي بالضرورة أكبر منك.
لم أعد بعد دروس المساء لبيتنا، وقفت طويلا تحت أمطار دسمبر الغزيرة بإرادة محارب حتّى أتيقن أنّني رجل ولست من ورق. دخلت المنزل قبيل العاشرة. صرخ أبي في وجهي وعاقبتني أمي لتأخري ووقوفي تحت المطر. رفضت أن أبكي و لم أقدّم أعذارا لأحد لأنّني كنت أود أن أقنع نفسي أنّني لست من ورق.
صباحا قلت لميساء إنني لست من ورق وإنني وقفت لساعات تحت المطر دون أن أصاب بنزلة برد وإن أمي عاقبتني ولم أبكِ.
قالت : قبٍّلني إذن.
كان امتحانا صعبا، جميلا وعسيرا.
لن أنسى، كان يوم خميس مشمس، شمس ما بعد المطر، وكان صوت الطيور يملأ ذاكرتي.
ترددت كثيرا وقبل أن تعيد ما قالته أمس قبّلتها.
بكت و اشتكتني للمُدرٍّسة.. أحضرت من رأوني أقبّلها فلم أجد غير الاعتراف بخطيئتي.
عوقبت مجددا. ضربتني المُدرِّسة لتطاولي، أمام التلاميذ، وأرغمتني على الاعتذار لها.
رفضت ميساء الاعتذار وتمسكت بحقها في القصاص. أن تُقبّلني كما قبّلتها أمام التلاميذ.
سخر مني الجميع وواسيت نفسي لأنني عدت بقبلتين ودرس.