فى قلب المدعكة

أكتب إنتظاراً للموت فى أيام الشتاء ولكننى وحيد ولا أرى لى وجه أو جسد. تعبت وضلت روحى وأصبحت أطلال أهرام تنتظر خروج الكوكب عن مداره. أفعل كل يوم أفعال كل يوم. الماء ينساب على جسدى كل صباح. إمتلئت معدتى عدة مرات و أردد نفس العبارات. أنظر إلى الآخرين و لا أعرف شىء على وجه التحديد. أتريدنى أن أزيد فى الكلام؟ عليك أن ترجع إلى الأشياء التى تعودت أن تفعلها و لا يعلمها غيرك! أتريد أن تعرف عما أتحدث؟ أنظر إلى نفسك فى المرآة و إنطق بكل أسرارك مرة واحدة و بصوت لا يسمعه أحد إلا الجيران! إفضح نفسك! و إن خفت فاغلق عينيك و ركز فى بقعة الضوء الوحيدة وسط الظلام. تمسك بها و علق عليها آمالك. أنظر جيداً ترى أشكالاً تنقلب و تعتدل و تتراقص حول مركز كفعل نجوم المجرة حول ثقب أسود. هى أشكالٌ لا تنتمى إلى عالم الخارج. هى أشيائى، أراها حتى و أنا مغلق العينين. كم هو جميل أن يعيش بداخلى عالماً لا يتصل بأحد غيرى. و من أدعوه "غيرى" يعيش هو الآخر بدرجة أو بأخرى فى عالمه الخاص. عالم له وحده. عالم لا يتصل بأحد إلا صاحبه. عالمى أنا: الإنسان، على الكوكب الجميل الأزرق الذى يوماً ما سيفنى و أهله يعلمون ذلك جيداً و من مصادر موثوق بها لدرجة الغرابة.أعتقد أن الموت لونه برتقالى غامق و يرتدى حذاء أسود لامع لا يتسخ أبداً. أتحدث إلى إمرأة و لا أعرف لماذا يعود بى الزمن إلى عصر "ما قبل التاريخ". أرتدى ثياباً لكنى عارى. أقترب من لحظة الإنفجار الأول للكون عندما كان "الشيء" متحداً مع "الاشىء". لقد عشت هذه اللحظة. أعلم أن ذراتى كانت هناك. أعلم أنى كنت هناك، حيث لقنت كل الأسرار. أسرار الوجود التى أبحث عنها.

أتريد أن تفهمنى؟ حسنا. أنظر إلى صورتك فى المرآة و لكن هذه المرة بعينين مفتوحتين على الحقيقة. إخلع ملابسك و ضع "حلةً" على رأسك و خشبة فى يدك و تخيل نفسك فى الغابة مع أبيك فى زمن "ما بعد الديناصورات". إذهب و ساعد أباك و لا تنسى الخشبة، فالغابة ليست آمنة. و إن روحت فى المساء بصيد أو فاكهة ستفرح أمك و يفتخر إخوتك و يشبعون. ولا تٌعر إنتباه إلى "بوجو بوجو" إبن الجيران. إنه يحسدك لتهافت إخوته البنات عليك بعد أن إخترعت لعبة "الأحجار الخمسة". إنه لم ينس بعد أن أجزاء منك قد تكاملت مع أجزاء أٌخته الوسطى. أما زلت تتذكر أحاسيس تلك اللحظة؟ عندما تنغمس أجزاءك فى أجزاء الآخرين الدافئة. رغبة دائمة لا تنتهى إلا بالموت. أخ! آسف للإزعاج! لقد عدت إلى المركز ثانية. المركز ذو الثقب الأسود فى الحائط. تستطيع الآن أن تغلق عينك لترى بقعة الضوء فى الظلام. لترى ما لا يراه غيرك. سأتركك الآن! يجب على أن أذهب لأتم إحدى دورات الحياة على الكوكب الصغير الوحيد الكامن فى ركن آمن من المجرة و ينتظر مصيره بعد ملايين السنين عندما تحتضن المجرة أخت لها بعد فراق. ولا عيب فى تجمع الأخوات إلا فناء كوكبى الأزرق الجميل الوادع الحاضن للرؤوس الإنسانية و الحيوانية و النووية.

أنظر حولى و لا أرى سوى بشر حائر بين حقيقة و خيال. تضيق الدنيا و تتسع. تنشرح الصدور و تنقبض بفعل أقدار و إحتمالات لا تنتهى. أنتظر قدوم شىء ما، حدث ما، كيان ما، إنسان ما. أنا فقط أنتظر و لدرء الملل إشتريت لنفسى ألعاب صغيرة تلهو بها حتى ينقضى الوقت الذى يجب عليها أن تقضيه مستيقظة فى عالم الإحتمالات اللانهائية. أتريد أن ألخص لك الحدوتة؟ أنظر إلى الصفحات البيضاء داخل الكتاب! إحرص عليها بيضاء و سمها "لاشىء" أما السوداء فهى "الشىء" كله. أو العكس بالعكس فما هى إلا رموز و أسماء. أتريد المزيد؟ أرسلونى أشترى خبزاً و كان "الفرن" مزدحماً. الوقت مساء و الصيف –سيد الموقف- يلهب الأجساد حتى من دون تلامس. "الفرن" مزدحم و كتلة البشر تتركز على منصة البيع الخشبية. أسلمت نفسى لقوانين الكتلة البشرية الفوضوية المنتظمة غايتها الأسمى هى الإقتراب من مجال رؤية بائع الخبز و مد اليد إليه بالنقود علًّه يأخذها فيقترب الرحيل و تأتى اللحظة المرتقبة عندما تدفعنى فيها هذه "المدعكة" إلى الخارج دفعة والدة لوليد. إحساس بالراحة ينتاب جسدى و نفسى فى تلك اللحظة التى تلفظنى فيها الكتلة البشرية المكونة "للمدعكة" و هو ما يعتبر فى غاية السهولة حيث أن هذه "المدعكة البشرية" تضغط دائماً و بقوة فى إتجاه الداخل حيث "بائع العيش" فهو غايتها أما الخارج منها فهو دائماً محسود خاصاً ممن قد قرر لتوه الإندماج فى "المدعكة".

أعرف أن "قلب المدعكة" ملتهب. لم أستغرق وقتاً طويلاً حتى وصلت إلى حافته المتوهجة. هناك يتمتع الكبار بميزة الثبات و كنا نحن الصغار نستعيض عن ذلك بقدرتنا على المناورة و التى كانت كثيراً ما تنتهى بزغدة من هنا أو دفعة من هناك. كنت فى ذلك الوقت صغيراً لكنى لم أكن طفلاً فقد ودعت الطفولة لتوى و بدأت عامى الأول الذى فيه كانت تبتل ملابسى بقطرات سائل لزج تخرج من ثقب فى جسدى على دفعات سريعة متتابعة فى ليل مظلم و حرارة ساخنة مكتومة. ثم يأتى الصباح و قد إلتصقت ملابسى–بفعل السائل اللزج– فى عين الكائن الذى ينتمى إليًّ و الذى إكتشفته مجدداً و بقدرات أكبر. لأول مرة أدرك أن الأشياء قد تتحول فجأة و تؤدى وظائف أخرى جديدة مسببةً أحاسيس مرغوبة و لذة. لم أكن إذن طفل صغير. الحرارة تزداد و أنا فى طريقى إلى قلب "قلب المدعكة". الأجساد ملتهبة و تصدر منها أصوات هو خليط من "بخمسين قرش"، "و النبى مشينا"، إوعى يالاا"، "حاسب رجلى"، "يا عم فتّح"، "دا دورى"، "أنا مستنى بقية العيش"، "أنا واقف بقالى ساعة". و من وقت إلى آخر يصرخ البائع صرخةً معلناً نفاذ صبره. عندها تتجمد كتل اللحم البشرى المكونة "للمدعكة" ساكنة. ثانية، إثنتان أو حتى خمسة. بعدها تبدأ العود إلى سيرتها الأولى ببطءٍ سريعٍ صامت.

و بينما أنا مستغرق فى البحث عن ثغرة مناسبة أبدأ من عندها السباحة فى بحر عظام و لحم و جلد و عرق إحتككت بجسد يقف ساكناً فى مكان مضطرب لا يناسبه سكون. كان ملمسها لذيذ! كانت ترتدى جلباب صنعت من قماش خفيف يناسب صيف مدينةٍ حارةٍ قاهرةٍ و ملتهبة. توقفتٌ لحظة، فقط لحظة قررت بعدها أن ألهو قليلاً فى "المدعكة" التى أعرف قوانينها معرفة "أينشتين" لقوانين "المدعكة الكونية" و أخضعت جسدى لقوى الجاذبية. فى البداية سكنت فى مكانى و عدت إلى لحظة الإحتكاك الأولى ببطءٍ و حذر ثم تأخرت قليلاً و إتخذت لى مكاناً خلف المجرة. ألصقت صدرى بظهرها كبداية. أشعر بالراحة و الأجساد من حولى تغطينى و تخفينى عن عيون المارة فى الطريق، أسمع ضجيجهم إذا ما أدرت رأسى و مددتها إلي الخلف مشرئباً متصنتاً. لعبة كنت ألهو بها إذا ما أحل بى الملل و داهمتى اللاجدوى المصاحبة لليأس و طول الإنتظار فى "المدعكة". كانت تنتابنى هذه الأحاسيس كثيراً و أنا ما زلت صغير وحيداً بلا خبرة فى "قلب المدعكة" أما الآن فقد وجدت لعبة أكثر إمتاع و حرمة. علمونى ذلك. تعلمت ذلك.

أشم رائحة شعرها فى لحظة الصراخ التى تتبع قدوم دفعة العيش الساخن من داخل الفرن إلى منصة البيع. لحظة مهمة ينهى فيها البعض المهمة و الأكثرية يترقبون. تراخى جسدى و إستسلم لقوانين جذب مصدرها ثقب أسود فى جسد أبيض. تراخى لأن الدم فيه قد تكدس فى عضو منه جديد هو مزيج من دم و لحم طرى و لزوجة و ليل صيف خانق فى مدينة شرقية. لمستها لمسة! أشعرتها بما أنا فيه. ساد هدوء و سلام. لم تضطرب أو تعترض. لم تخلع "شبشباً" بل لم تلتفت. إطمأنت نفسى و قررت الإستمرار فى اللعب فأدرت رأسى يميناً و شمالاً محدداً مكانى فى "المدعكة" و موجهاً كتلة الجسد منى بإتجاه "قلب المدعكة" المزدحم الآمن دافعاً أمامى كتلتها و عدت بالزمن إلى ما قبل الإنفجار الأعظم بعد أن هزمته فى سباق كنت فيه أسرع من الضوء بعشر ثانية.

الآن أدرك أنها قد أصبحت لى. لن أضيع الفرصة. إنها تستمتع بى و باللعب معى. و عندما تأكدت من ذلك إلتهبت قطعة اللحم منى بعد إندفاع الدم الساخن فيها بشدة و زادت حرارتها و معها حرارة جسدى حتى أن إلكتروناته أخذت تتدافع مفارقة مجاله متساقطة على الأرض. إنى ألتصق بها. كم هى دافئة! ودفئها مختلف. و كم هو جميل الإقتراب من مصدر الدفىء الأول. إننا ملتصقان. أشعر بها و أعلم أنها تشعر بى. أدفع جسدى ببطء و رقة إلى الأمام و رأسى مرفوعة و نظرى على البائع المقدس ماداً يدى عالياً عن آخرها بوريقات النقود فى إتجاهه و فى "قلب مدعكة الأجساد ". و على الرغم من الإزدحام و تلاصق اللحم باللحم حافظت على هدوء جسدى و جعلته فى حالة إرخاء تتيح له التحرك بإنسيابية داخل تلك الدفعات الأشبه بالأمواج و التى تأتى من "قلب المدعكة" صاهرة الأجساد و أنا خلف المجرة أداعب ثقبها الأسود. كنت أترقب حدوث هذه الأمواج من وقت إلى الآخر. و كنت أركز بصرى على "قلب المدعكة" حتى إذا ما إستشعرت قدوم أحدها، و التى غالباً ما تحدث بعدما يحصل البعض على الخبز فيبدأون السعى للخروج من المعمعة محدثين نوعاً من الإرتخاء البسيط فى المدعكة حيث تفقد بعضاً من أجزائها كفقدان النار للحرارة. لكنها ما تكاد أن تعود و تنغلق على نفسها. و بسرعة تعود أجزائها للإلتحام ببعضها بعد أن إحتلت أجساد جديدة مكان الصدارة أمام بائع الخبز. تآتى الموجة من الداخل متجهة إلى جسدينا الملتصقين فتزيدنا إلتصاقاً. كنت أستمتع بهذه الموجة لأنها كانت تحركها أمامى فأزداد ألتصاقاً و إشتعالاً بقلب الحقيقة.

و فكرت من أنا؟ و ماذا أريد؟ لم أعرف الأولى و الثانية غريزة تمارس بلا تبرير. و ظللنا نلعب وقت طويل. أدركت ذلك عندما إنتشر الفراغ بين كتل اللحم المكونة "للمدعكة" و صار الإحتكاك فعل مفضوح خطر. كنا سعداء بلعبتنا و نريد الأستمرار. لكنا لم نعرف كيف و أين؟ أتى دورها في شراء "العيش" و بعدها بالطبع كنت أنا. و مشت بخطىً هادئة متأنية و أنا خلفها ممسكاً شنطة "العيش" بيد و الأخرى فى جيبى قابضة على سيخ لحم مشوى ساخن. لم نتبادل كلمة و لكنا متواصلان. تتبعت خطاها و كانت تعرف ذلك و تريده. تأكدت من ذلك عندما إنعطفت فجأة و دخلت حارة مظلمة و هى شاخصة إليَّ. فى هذه اللحظة سمعت صوت يشبه الصرخة لإمرأة آتية من الإتجاه المقابل. صرخت فى صغيرتها التى تأخرت فى إحضار "العيش". و بلا تردد إستمررت فى السير إلى داخل الحارة و أسمع من ورائى أنين الصغيرة تحت وطأة قبضة أمها و التى إنهالت عليها بالأسئلة فاقدة الردود. أكملت الطريق فى "الحارة السد" إلى آخره حيث بيت صغير نصف مظلم و "بير سلم". هل كانت تقصد هذا المكان؟ هل أرادتنى لهذه الدرجة؟
من أنا؟
ماذا أفعل؟


٣١ أكتوبر ٢٠٠٠٨