وارد الجسر

بعد بضعة أيام ، رأت أختى الشابة تربيعتها المشغولة بالخرز الغالى والترتر ، فوق رأس إحدى بنات العزبة ، فقهرها الحزن ، ولم تستطع البكاء ، وقالت : "جمعت من أجرتى فى الحقول لأحضر بها فى الأفراح والمناسبات ، وها هى........" .
تتوشح ظلمتى الخلاء ، كشبح شيطان الظلام يملؤ الكون ، أحسست لابد أكون شديد القسوة ، حتى يصدقوننى ، أضربهم بالخيزرانه بعزم قوتى ، ألسعهم ، كأن لطع حروقها لا تعرف الأمكنة .
ساعدنى إختفاء ظلمة القمر ، تحجز ضوءه خلف السحب ، شيطان الظلام مايزال يمتطى براح الفراغ ، أطيح بالخيزرانه يمينا ويسارا على رقع جلودهم ، جوانب وجوههم ، يجرون عن شمالى ويهربون أمامى ، أتحرك خلفهم ، أدفعهم على أتربة الطريق ، يثيرونها كالشوارد ، تلون وجودهم بلون الغبار ، تخرج من نفسى البقعة السوداء ، التى تحيل بينى وبين الحزن على آلآمهم التى تكويهم بنار الجمرات الحارقة ، هل أتحول إلى رحمة الإنسان وشفقته فأضيع ، أردها قلبى لتنفث العتمة أرجاءه من جديد.
غشيتنى رغبة الهياج ، تشتيتهم بضراوة وسرعة المردة ، كلما إلتفتوا وراءهم ، أزداد عنفا ، فاجأنى أحدهم وتسلل خلفى ، أرتكب معه الحماقات الوقحة ، لأبدو قاطع طريق شرس ، مثل الوارد الذين ينفضون الشر الخامد تحت التراب ويلعقون دماء القتلى فوقه .
حاول أحدهم إخراج المحمول ، هويت على ذراعه الممدودة داخل سيالته ، قال أحدهم له :
- ليس فى العزبة شبكة ، إنها قبور الليل .
يجرى معهم تجاه الدور المدفونة فى أحضان الأرض ، خلف الضباب ، منضما لكتلتهم ، لا يستنجد بأحد من العزبة ، سوى يقول :
- عزبتنا ملآنة بالوارد ، قتل أناس كثيرين .
ثم يتذكر :
- تحت الجسر ، غطس العِرض عشرات البنات .
يستصرخ الآخرين أحدهما :
- لا يبدو على عزبتكم طلوع العفاريت منها .
فأزيد الضرب عليه ، أطاردهم عاليا على أطراف قدماى الحافيتين ، وأنخفض على ركبتاى بين الحين والحين ...
كلما إقتربت ثلاثتهم ، أضرب بلا هواده الهواء ، ترنه آهات الوجع كالثور الصريع ، أجاهد تحسين تقنيات العنف والقسوة على الإثنين الأخرين ، أتقن حقيقة البطش والطغيان قدر إستطاعتى ، فاجأنا خلف أكوام السباخ العالية ، الجرن المطل على بيوتات العزبة و بضعة شوارع ، لحقوا بها فارين إلى جهة دارنا ، شققت الحقول والترع ، كقفزات ثعلب برى مطارد ، وصلت شارع بالقرب من خلف دارنا ، يفقس الظلام شاب فيجرى وارئى ، يخطف فوق رأسى غطائى ، يصرخ :-
- رجل على رأسه تربيعة النساء .
ظللت أجرى بأقصى سرعة ، خفت أضربه ، عسى يلتقف الخيزرانه ، أصير تحت مرماه ، أو يستنهض العزبة المرخى رقادها هذه الساعة الشتائية .
وصلت زقاق يفضى إلى الحقول ، سأصعد بيتا ، أقفز على عرق خشبى ممدود إلى سطح زريبتنا ، أنفض الشيطان عنى ، عندما أسمع جلبتهم أنزل فاركا عينى ، أعب كوب الزير الراقد فوقه أول درجات السلم ، نظرت إليهم بعين واحدة ، ألملم شتات نفس النائم ، أكثر التثاؤب .
- ماذا أعادكم ؟؟ ..... لما عدتم ؟.... من ردكم ؟؟ هل طلع عليكم أحد ...
ونفضت نفسى ، وإنتفخت ... فى المنطقة بأكملها يحسب لنا ألف حساب .
حبسوا صمت الخوف وإرتعاشاته فى قدور صدورهم المنهكة .
كم يرعبنى ويهدم جدران شجاعتى الإنتظار ، مؤكد رأت أخت الشاب التربيعة على رأس أختى ، أترقب دقات باب الدار ، أضحك داخلى ، أنظر لإبن أختى الكبيرة ، لو إخترت أماكن على أجسادهم لسقوط بطشى أو تلطفت فى أذيتهم ، لكشفنى أحدهم ، بطرفى أمنعه النظر ناحيتى تارة وأخرى أتابع الباب ، أتذكره يقول وهم عائدون كالطرائد :-
- أجرى يا ولد ، إنه خرج من تحت الجسر .
- ظللنا ننظر خلفنا يا خالتى ، الغريب أن العفريت لم يستطع دخول العزبة .
- قلت لكم يا ولدى الوقت متأخر ، والنهار له عينين .
يربتون حروق الضربات وسخونتها ، وأعينهما منكسة .
حين خضنا غمار النوم على سرير واحد ، أستمع إلى آهات إصابات الكوى من أعماقهم ، ثم يقول أحدهم :-
- رغم أننى أدركت أن المارد بدأ ينهج ... ظللت أجرى .
- لا أدرى لماذا لم يهدأ عبد العزيز إبن أختك عن الجرى لحظة .
- كلما حاولت تشتد ضرباته .
- لو أمتنعنا يا عبد العزيز عن الجرى لأخفناه ، ولرجع تحت الأرض ... وواصلنا طريقنا .
وفى الصباح قرر أحدهما تقديم شكوى إلى المركز ، غشيتنا الدهشة وقلنا :
- لا أحد يشتكى العفريت!