ثلاثة عصافير خضراء

الاسطى عبده " الايمجي " جارنا , ترك ابنه اسعد في الدكان وسافر الى العراق , كان اسعد ولدا طويلا ابيض ذا شعر مائل الى الاصفرار. كان في غيبة والده ياتي بعد ان يخرج من المدرسه الإعدادية إلي الدكان يفتحه ويطعم العصفورين الأخضرين المعلقين في قفص اعلي الباب ثم يغلق الدكان ولا نراه إلا والشمس في صفار العصاري , يفتح الدكان ويكنس العتبة ثم يرش الماء ويأتي بالمقعد الزان من الداخل , يضعه أمام المحل ويجلس في الطراوة يذاكر في كتابة . لم يكن في الأمر إلي هذا الحين أي مشكلة ولاكنا نتوقع أي شئ يخرج اسعد عن المسار. وفي يوم, سمعنا في حارتنا " المحبة للتهويل " إن الولد اسعد, بعد أن فتح الدكان وكنس العتبة, ورش الماء وجاء بكتابة وجلس علي الكرسي الزان وراح يقرأ حضر اثنان من مخبري القسم الذي يجاورنا وانتزعا الكتاب من يده. ذهب الولد اسعد أمامهما يتساءل عما حدث فإذا بالمخبر الذي اسمه مختار الملقب بـ (الونش) يلكمه في بطنه , وقبل أن يفيق اسعد من تقوسه وتأوهه , سقطت كف مختار علي وجهه فأردته في كومة واحدة . اجتمعت حارتنا حول مخبري المباحث اللذين وقفا لوهلة صامتين , يتصاعد من رأسيهما دخان اسود , وبين أقدامها الولد اسعد يئن . فيما بعد قال حمادة البقال ابن عم حامد البقال إن الونش كان يبدو كقطعة خشب انتزع من أنحائها المسامير بعد أن سودها الهباب أما الآخر الذي تراه حارتنا لأول مره فقد كان شابا يرتدي قميصا و بنطلونا ويسرح شعره علي جنب مثل عبد الحليم حافظ . قال حماد انه أمين شرطة جديد في القسم. سألت حارتنا وهي تحسب وقع كلماتها (ما الحكاية يا مختار؟) زمجر مختار مثل(رابوب) مسح الأخشاب وانحني علي الولد اسعد قبض عليه من قبة قميصه ووجه اسعد صار كورقة بيضاء "ما الذي فعله اسعد ياحصول مختار ؟" من الرذاذ الخارج من فمه فهمت حارتنا إن البيه ضابط المباحث يريد الولد اسعد . "وماذا فعل اسعد يا حكمدار مختار ؟" لم يرد مختار فقط اخذ في وجهه ووجة حارتنا كعربة الزفت مشتعلة النار والولد اسعد ميت في قبضته . تكأكأت حارتنا وهي دائما ما تتكأكأ – لا فرق بين الملمات والمسرات – إلي مقهى "بصل" والي رخامه دكان حمادة البقال ابن عم حامد البقال وحول بنوك دكاكين الاويما والنجارة يتساءلون عما فعله الولدأسعد أبن الأسطى عبد الايمجي جارنا الذي لما وقف الحال سافرالى العراق. وتفتق ذهن حارتنا الملئ بالمآسي علي آن الولد اسعد لابد فعل فعلة ما . لكن حمادة البقال أعاد علي آذانهم ما يعرفونه أصلا وهو إن الولد اسعد خجول كالبنات وانه لا يعرف غير إطعام العصافير والمذاكرة وانه هادئ كوالده. فوجئت حارتنا التي تكأكأت حوالى المغرب بالولد حسونة التخين ابن الشهاوي بائع السمك الكبير يأتي جاريا ووجهه مخطوف قال وهو يمط رقبته ليأخذ أنفاسه انه صعد فوق سور القسم من وراء بيتهم وسمع اسعد وهو يصرخ كلما سقطت عليه الخيزرانة فعرف انه معلق في الفلقة. قال ذلك ثم انطلق من حيث جاء . ازداد ّذهول حارتنا وراحت تضرب كفا بكف, ومع هبوط المساء وتصاعد رائحة البخور و" الشيش" من مقهى بصل راح ذهن حارتنا يسيح بما فيه من مصائب فذكرت "حسن البيسي" ماسح الاحذيه وما جري له إذ رأي "الدسوقي" المخبر داخلا خارجا إلي بيته في الأوقات التي توجد فيها "زوبة" التمورجية زوجته لغير عذر شرعي . نهر زوجته وقال للدسوقي إن زوبة لم تعد تعطي حقنا . لكن الدسوقي لم يمتنع . فأشار "حسين مرجان" الكاتب العمومي علي حسن إن يصعد للمأمور, يلمع له حذائه ويشكو الدسوقي . تداولت حارتنا الأمر وأيدته بعد أن استشارت بصل الذي يصعد بالطلبات بنفسه إلي القسم وله دلال , ومعرفة بالبواطن . وكان أن صعد حسن وياليته ما فعل. قيل : استمع إليه المأمور ثم أمعن النظر في حذائه ونادي الدسوقي وعنفه. قيل : انه عنف الدسوقي وحين معا. قيل : انه بصق في وجه البيسي ثم نادي الونش. والحق إن حارتنا لم تتيقن أبدا مما قيل فقط راحت في هدأة الليل وفي الهزيع الأخير منه تستمع إلي صراخات حسن البيسي ماسح الأحذية وجعيره يخترق القسم يهبط السلالم يمسح الإسفلت يتشبث بحيطان البيوت يسقط ويزحف وحارتنا حائرة هائجة القلب في الطرقات لا تدري ماذا يمكنها أن تفعل . وكان إن حمل مختار "الونش" حسن البيسى وألقاه كخرقة بالية أمام سلم القسم. من يومها يحلو لحسن أن يصطاد السمك وهو جالس علي مقعد وسط الترعة , ولم تكف حارتنا- في كل مرة عن إنقاذه من الغرق كذلك صار يقف علي باب القسم يشتم المأمور والدسوقي ويشرح للسامعين بالتفاصيل الدقيقة ... كيف انه جامع اميهما بالأمس وحارتنا عن بكرة أبيها تعلم أن حسن البيسي لم يعد يستطيع أن يضاجع نملة. إلي أن مل المأمور الأمر كله, أمر بترحيله إلي مستشفي الأمراض العقلية . هكذا اجترت حارتنا نسره من مصائبها وما كادت تقصها حتي جاء "بصل" من القسم بالخبر اليقين . قال : ان الولد اسعد منذ ثلاثة أيام وهو يرش الماء أمام دكان والدة الاسطي عبده الايمجي جارنا أصاب عربة البيه المباحث التي تصادف مرورها ببعض الرذاذ وان البيه المباحث لم يشأ أن يعاقبه علي أن هذه الفعلة التي قدر أنها جاءت دون قصد. لكن الذي أغضبه انه في اليومين التاليين كلما مر رأي الولد اسعد جالسا علي الكرسي الزان واضعا رجلا علي رجل كأنة مدير الأمن نفسه فقرر أن يعلمه الأدب. مصمصت حارتنا شفاهها وتحدثت عن الظلم الذي راح ضحيته الولد اسعد ولم يمر وقت طويل حتي جاء اسعد ماشيا علي قدميه بدون مختار الونش كان صامتا وكان ينظر إلي الإسفلت كأنة يفتش عن شئ ما. لم يقل شيئا لأهل الحارة الذين التفوا حوله. - ولا يهمك يا اسعد . - بكره تشوف فيه يوم . - احنا قفلنا الدكان , وادي المفتاح يا اسعد . لكن حارتنا ادركت فيما بعد أن اسعد كان في دنيا أخري . قيل : فتح اسعد الدكان , اطعم العصفورين , واخرج الكرسي الزان وجاء بالكتاب وجلس أمام الدكان يقرأ في كتابه علي ضوء اللمبة الواهي ثم قام في وقت غير معلوم ومضي. قيل : اخذ المفتاح من "الحناوي" قبضاي عزبة حنطر, والمرشد في نفس الوقت وذهب في سكة بيتهم . وقيل: راحت حارتنا تنسل واحدا وراء الآخر إلى مداخل الأزقة حتى بقى أسعد الصامت وحده. ما حدث هو أن أسعد اختفى. لم تره حارتنا أبدا. بقي الدكان مفتوحا مضاء النور إلي الصباح. جاء أهله البعيدون مع الفجر يسألون عنة ولم يجدوه . الشئ الغريب الذي لاحظه أهل حارتنا هو أن العصفورين الأخضرين في القفص و الذين اعتاد أطفال حارتنا اعتبارهما عصفوري جنة قد صارا ثلاثة عصافير لايعرفون من أين ومتي جاء العصفور الثالث وفي صباحات واماس عديدة سمع صوت شقشقة كالأنين, أنين طويل شجي في صباحات واماسي حارتنا .