مهاجرين

(1)
ضغط زرار المصعد الى الدور الثانى والعشرين, فانزلق الباب بصمت وتؤدة, وحجب رويدًا ضجيج البهو الفسيح, وانفصل تدريجيًا عن العالم المألوف.. نظر حوله الى الواقفين فى المصعد وتساءل عما إذا كانوا كلهم قد جاءوا من أجل الإعلان, ولكنه على الفور استنكر هذه الفكرة.. وتزاحمت فى أنفه رائحة العطر الياسمينى اللذيذ المتدفق من امرأة واقفة أمامه, ومزيج من عرق قديم معطـَّن, وبقايا ثوم, تنبعث من ناحية رجل أشقر فى منتصف العمر, متَّسخ الأوفر ول ومسوَّد الأظافر.. تقبض يده اليسرى القوية بصندوق معدني, بينما تعبث أصابع يده اليمنى بشعيرات نابتة فوق ذقنه المدبب, وكان يقف غير مكترث بقذارته على الناحية الأخرى منه.. لا يمكن أن تكون له أى علاقة بالإعلان..

ذلك الخبر الصغير المحاط ببرواز سميك في الصفحة الثالثة أو الخامسة من جريدة الأحد الماضى, "هل كان تسعة أم ثمانية سبتمبر؟ النهارده الثلاثاء حداشر, يبقى كان تسعة .. أيوه تسعة لأنه وافق الذكرى الأولى لإستعادة حريتى بعد طلاقى من تلك المرأة اللعينة".. نعم كان زواجى الثانى, ولكن الأول كان أيضا ملئ بالعواصف ولم يستمر سوى بضعة أعوام.. لا أعرف سر هؤلاء النساء يلـُحن فأفقد عقلى متيمًا, ويبقين فأفقده جنونًا!

شدَّه الإعلان شدًا يومها حتى أنه نحَّى بكوب القهوة بسرعة جعلتها ترتج وانسكبت منها رشفة أو اثنتين.. أخيرًا مَخرَج من هذا الملل اللعين.. "..الى الجادين فى الاهتمام التوجه فى تمام الساعة التاسعة صباحا.." وهل هناك من هو أكثر جدية أو اهتمام منى؟

ونظر ثانية نحو المرأة الياسمينية, بشعرها الذهبى المصبوغ من أسبوعين ـ حيث تبدَّت جذوره السوداء الفاضحة ـ وتزحلقت عيناه الى بشرتها البيضاء اللامعة المشدودة, المطلية بمهارة برتوش تجميلية محترفة, طمست جرائم الزمن وأضاءت حَسَناته فشع جمالا.. وعيناها ساهمة مرشوقة أمامها فى قلب لا شيء, ولا تتحول عنه أو ترمش وكأنها تمثال من الشمع.. وهالهُ لون عينيها الذى هو مزيج من الأزرق والأخضر, متباين مع البياض المشبَّع بحمرة خفيفة المحيط به مما جعله يدقق حتى رأى محيط العدسات اللاصقة.. وتبين له تناسق لون عينيها مع لون البلوزة تحت التايير الكحلى الذى كانت ترتديه, والذى زينته ببروش ذهبى على شكل زهرة مطعـَّم بقطع من العقيق ربطتها بحمرة الشفتين المنفرجتين قليلا, الملقيتين بتكاسل فوق وجهها السارح المتأمل فى اللاشئ..

تـَفكـَّر فى أنها حتما جاءت بسبب الإعلان, ولاشك فى هذا عندى ـ إمرأة فى أواخر الأربعين أو أوائل الخمسين, مُعتنية بمظهرها, وجميلة الى حد بعيد, شخص مناسب ليأتى فى هذا اليوم الخريفى بحثا عن فرصة العمر.. تماما مثله هو, وقد نزع عنه كل كآبته الماضية, وإحساسه الدائم باللامبالاة, وذاك الشعور بالعدم الذى اعتراه طيلة الشهور الستة المنصرمة حتى يوم قرأ هذا الإعلان العجيب: ".. فرصة العمر.. سنبدأ فى إجراء المقابلات الشخصية, وتتبعها فحوصات طبية للفائزين.." هذا يعنى أنه هناك أمل, حيث انه لم يفشل فى أداء أية مقابلة شخصية للحصول على وظيفة منذ أن وطئت قدماه أرض هذا البلد العجيب..

كان ظهره مسنودًا بجدار المصعد الأيمن, والمرأة الياسمينية المتأنقة واقفة أمام الجدار الخلفى على بعد بضعة بوصات منه مما أتاح له أن يدرسها بعناية فى الثوانى القليلة التى إلتقيا فيها منذ قطع باب المصعد علاقتهما بالعالم الخارجى, مصدر عنائه الأزلى.. أما هى فلم تلتفت إليه قط, وكأنه غير موجود, أو كأنها هى غير موجودة, هائمة فى عالمها وحدها ولا تجد ما يجمعها بعالمه.. أما عن جانبه الأيمن, فيقبع الرجل القذر الذى تفوح منه رائحة الكد الرخيص المُوحى بقحط الإمكانيات.. وألقََىَ عليه بنظرة خاطفة, فلمح وجهه الأشعث وشَعره المنكوش وعينيه الزرقاويتين الخاويتين, وابتسامة ساذجة ارتسمت فوقه وكأنها الراية البيضاء تعلن استسلامه الكامل فى معركة الحياة, وإعلان صريح عن عجزه المطلق.. وأشاح بوجهه بعيدًا بعد أن زكمت أنفه رائحته الفواحة.. وفيما عدا هذا الرجل وهذه المرأة, إمتلأ المصعد عن آخره برجال ونساء شفافين لا لون لهم ولا رائحة وكأنهم أشباح أو أشباه آدميين, إمتلأ بهم المكان ولكنه كالخالى منهم تمامًا, وتَعجب هو من هذا الشعور الذى إعتراه..
وتذكـَّر أيام الكلية فى القاهرة, وأتوبيس 13الكيت كات, وتزاحم الخلق, ورائحة العرق والتراب الممزوجة بالفقر والبصل والجبن القديم المنبعثة من الناس.. عجيبة هى تلك الذكريات العالقة بدهاليز الوجود, ولا تلبث أن تثب الى حيـِّز الواقع فجأة وبلا مقدمات وكأنها لم تكن قد ولـَّت ومعها زمانها.. ولكن ماذا أقول؟ هى كذلك, لأنها الحقيقة بعينها, وكما أن الشمس تشرق اليوم وتنشر ضياءها فوق كل الأشياء وكل الحقائق, وتعلنها لنا, فهذا لا يعنى أنها لم تشرق كذلك فى يوم مضى ـ منذ عام أو دهرـ وأضاءت بأشعتها حقائقه وأشياءه أيضا فخلـَّدتها وجعلـَـتها مضيئة أبدًا.. وإن غابت عنا فلأننا نولى بأنظارنا بعيدًا..


(2)
فى ظلام الغرفة الدامس, تحول وميض المنبه الأخضر الخافت الى مصابيح نيون تضيء جنبات ليلتها.. وتستلقى هى على ظهرها, وعيناها المنهكة تحملق بالسقف والجدران البيضاء المكسوة بخمار أخضر مستمَد من وهج الأرقام الإلكترونية بجانبها.. وتلقى إليها بنظرة جديدة.. أربعة وعشرة.. وتسترق السمع لدقات الساعة الخافتة الرتيبة, الآتية من البهو الخارجى, المتسللة من تحت باب غرفتها, لتعلْمها بمرور الزمن بها, بينما هى قابعة وحدها على فراشها الوثير تنتظر ـ بلا أمل فى نوم ـ أول شعاع نور يتسلل من جنبات ستائر نافذتها الوحيدة, معلنًا انتهاء مدة حبسها الإنفرادى..

هكذا كانت تمضى معظم لياليها, وحيدة ومستسلمة لرحلة الانتظار, لبزوغ الفجر الذى يشيع بها الإطمئنان بأنها ما تزال على قيد الحياة..  أجل كان النوم عندها موتًا عابرًا, تهاب أن يستقر عندها, فلا يبرحها, ولا تلوذ بغيره وجودًا.. كانت دومًا تدرك أن بينها وبين الموت عشقًا آثمًا, لو إلتقته يومًا, ستذوب فيه وهو فيها, ولا ترجو منه الفكاك.. لذا فقد آثرت أن تنتظر الصباح المبشر بقدوم مدبرة منزلها, منقذتها من غياهب الموت والوحدة, فتنزلق هى الى بحور الغفو, عند سماعها انغلاق باب المنزل الخارجى..

ولكنها, فى تلك الليلة, تدرك أنها لن تنعم حتى بتلك الراحة المختلسة من عالم الخوف الرابض فوق صدرها.. وذلك بسبب تلك المقابلة المنتظرة فى التاسعة صباحًا, التى ستحرمها حتى من غفوة الصباح تلك.. حسنًا, قالت لنفسها, وماذا لو لم أنم, فهل يزداد الألم, وبحركة لا شعورية, مرت بكفها تتحسس برفق بطنها وفخذيها وتمسحها بأناملها وكأنها تجفف أدمعها المنهمرة منذ زواجها الأول للأردنى عندما كانت بعد صبية فى السادسة عشرة.. لم يكف جسدها عن البكاء منذ العدوان الأول, الذى تبعه الثانى والثالث, حتى صار كل اقتراب منها عدوانًا واغتصابا.. وكأنها حملت فلسطينيتها فى جسدها وصارت هى فلسطين.. وصارت فلسطين هى.. وغاب الكهل عن دنياها, وجاء الشاب والشيخ, وتلاهم آخرون.. دبابير كثيرة تنجذب لحلاوة رحيقها, فتمتصه وتذوب عشقًا حتى يعتصرهم الهيام فيتساقطون عنها الواحد تلو الآخر.. وتزداد هى جمالا ونضجًا وثراءً, ويفوق مذاق رحيقها كل رحيق, ويشتاق للارتواء منه كل قلب.. وملت هى الدبابير والعاشقين.. وزهدت فى الثراء والجمال.. وتمنت لو استبدلتهم كلهم بليلة واحدة تنامها ملئ جفنيها..

كانت واقفة فى المصعد سارحة تطوف بكل تلك الأفكار, فلم تسعى حتى لتعرف صاحب الإصبع الذى سبقها الى زرار الدور الثانى والعشرين, حيث المَخرج الحتمى من تلك الزنزانة الذهبية التى أحاطت بها جدرانها, بل وأطبقت عليها, حتى لم تعد بقادرة على الاستمرار, الى أن لقيت ذلك الإعلان العجيب الذى أدركت أنه حتمًا سوف يغيـِّر حياتها الى الأبد.. ".. ولضمان الجدية, نرجو إحضار شيك مصرفى بألف دولار لإسم الهيئة الدولية لأبحاث الفضاء.." ومدت بأناملها تنقر بخفة ـ نقرات رقيقة ومتتابعة ـ فوق حقيبة يدها.. "وهل هناك شك فى جديتى؟"..


(3)

أقسم أن هؤلاء الملاعين من أصل شرق أوسطى.. أجل أنا أعرفهم, منذ أن ذهبت الى مصر برفقة أبى فى الستينات.. تلك كانت الأيام, وتلك كانت الحياة.. كنا نحن الخبراء, والعالمين, والمانحين, كنا الأقوياء.. وكان هؤلاء السُمر الملاعين ينظرون إلينا بوجوهنا البضة الحمراء بكل إكبار.. ويتودد لنا صغارهم لنتنازل نحن الأطفال السوفييت ونرضى باللعب معهم..

أين ولـَّت تلك المشاعر المتكبرة, أيام كنت أشعر بالفخر, بل وأسعى لأن يسألنى أحدهم من أين أنا لأقول بزهو أنا روسى سوفييتى بلد لينين والكرملين والسام والكليشينكوف والفودكا والبولشوى.. الكل راح.. الكل مضى وذهب بعيدًا الى غير رجعة.. ولم يبق سواى والفودكا والبولشوى.. وغاب أبى مع الخبراء السوفييت عن الساحة.. وهوَى البيت المبنى فوق الرمال, وهام سكانه على وجه الأرض يطلبون ما يسد رمقهم, حتى رست سفينة "أولجا" ـ أختى الصغرى ـ إبنة الخبير السوفييتى الحُمر شدقيه, الى شواطئ نفس الميناء الذى ساهم هو فى بنائه, إلا أنها ـ ويا للعار ـ ترقص بحاناته لينتشى بها بحارته..

بل وجئتُ أنا الى بلاد الأعداء ـ أو من قالوا لنا قبلا أنهم هكذا, ونحن بعد أطفال نصدقهم ونؤَمـِّن على تعاليمهم بأنهم كانوا كذلك ـ لأطلب خبزًا ومسكنًا وغدًا واعدًا لأولادى.. هل تلك أضحوكة القدر أم أنها نهاية العالم؟..

هاأنذا أحمل عدتى وأتجه الى الدور الثانى والعشرين, لإصلاح رشح بالسقف يبدو أنه قادم من ممر جهاز التبريد, كما قال رئيسى البولندى المتعجرف, لعنة الله عليه وعلى أبناءه.. ألن يدرك يوما هذا الخنزيرأننى حاصل على بكالوريا و دراسات عليا فى الرياضيات؟ ولكن ماذا يفيد ذلك الآن إذا كانت تلك قد صارت معلومات قديمة, بالية, أقصى ما يمكن الاستفادة منها تكون فى عملى كمساعد مدرس رياضيات.. وحيث أننى غير مؤهل لغويًا للتدريس حتى لجرو أمريكى, يجب علىَّ إذن أن أطيع بل وأقبل مقعدة هذا البولندى القذر حتى تتبدل الظروف..

ولكن ماذا جاء بهذا الرجل الشرقى اليوم الى هذا المكان بالذات؟ ولمَ كل هذا التأنق الزائد, ورائحة الكولونيا الفوَّاحة, والبدلة الرمادية التى يساوى ثمنها معاش عائلة كاملة فى روسيا, ولمدة ستة شهور؟ ولماذا الدور الثانى والعشرون بالذات, وكان قد ضغط بزراره قبل أن تمتد له يدى.. هل يكون يعمل هو أيضًا فى مجال الفضاء ـ كما يوحى اسم الهيئة ـ لا أظن.. فهيهات بين هذا التأنق وبين الغور فى بحور العلم.. وماباله يبحلق هكذا فى هذه السيدة المتصابية الواقفة أمامه, وهى تشخص الى المجهول, ولا تبالى بمن حولها.. ما لى ولهم؟ فليذهبوا جميعًا للجحيم..

ثم ماذا حل بى أنا شخصيًا ولِم كل هذا الإهتمام؟ يقولون هنا, أن الشيطان فى التفاصيل.. وهناك.. هناك لم يكن للشيطان وجود.. ولا الله.. أوالدين.. أو الكنيسة.. ولاؤنا وإيماننا بالحزب.. وشيطاننا هو الكى جى بى.. ولا توجد تفاصيل.. فالكل واحد وواحد هو الكل.. حتى أفلام الكرتون عندنا مغلفة بالشمولية فالأرنب فيها إسمه "أرنب" والثعلب "ثعلب" .. لا أسماء لها ولا خصوصية.. هل تأمركتُ أنا أيضا كما تأمرَك أولادى المولعين بـ "سيمسون فاميلى" ويعرفونهم وكأنهم من بقية عائلتنا؟

كل ما أرجوه الآن هو أن أنتهى من إصلاح العطب بأسرع وقت ممكن, حتى أستطيع أن أسرق ساعة أو ساعتين مع "إيفا" زوجة البولندى الحقير ـ التى تنتظرنى فى بيتها ببروكلين وحتى الساعة الثالثة والنصف, موعد رجوع الأبناء من المدارس.. وأطلق إبتسامة بلهاء فوق شفتيه متفكراً فى آخر لقاء بينهما..

(4)

"دينج.. دونج" وتوقف المصعد وإنسحبت ضلفتاه بفحيح مكتوم وكأنه شهيق أنفاس محبوسة طيلة مدة الرحلة الى الدور الثانى والعشرين.. ودلف ثلاثتهم خارجين وإتجهوا جميعًا الى اليسار, ثم تبعوا السهم المشير يمينًا الى " الهيئة الدولية لأبحاث الفضاء" .. والعجيب أنه بالرغم من مسيرتهم جنبًا الى جنب, وكأنهم كتيبة عسكرية, الا أن أحدهم لم يعر الآخرَين إلتفاتـًا.. ومضوا صامتين كأنهم مشيعين فى جنازة, وقد علا الوجوم وجوههم.. ومدَّ المصرى يده أولا وأمسك بمقبض الباب ـ وكان دومًا سبَّاقـَّا ـ ففتحه وتنحـَّى جانبا ليتيح للمرأة أن تدخل قبله فإبتسمت ممتنة.. وهم هو باللحاق بها إلا أن الرجل الفواح كان قد وضع بقدمه أمامه, ولم يكترث حتى بالإلتفات إليه ليشكر فتحه للباب ليدلف أولا, وبلا تردد.. شدَّ ما كان يكره ذلك!.. ولكنه أبَى أن يجعل هذا الحقير يعكر صفوة نفسه..

ونظر حوله وقام بإستكشاف كل ركن بالمكان.. غرفة إستقبال أنيقة, مزينة بصورة لإنطلاق "أبوللو" على الحائط المواجه, ونافذة بطول الحائط تطل على البرج الجنوبى لمركز التجارة العالمى, و بين مقعدين بركن الغرفة الأيمن يقبع تمثال لرواد الفضاء "أرمسترونج و ألدرن" لحظة وقوفهم فوق سطح القمر فى يوليو 1969.. ولدهشته لم يجد أحدًا بالغرفة سواهما حيث إختفـَى الرجل الفواح الى الداخل.. ونظر الى ساعته, وكانت مازالت الثامنة والنصف, نصف ساعة قبل الموعد المحدد فى الإعلان.. وفوق منضدة صغيرة على بعد خطوات, رُصـَّت مجموعة من الأوراق, والى جانبها قامت لافتة صغيرة تقول: "الى الراغبين فى التقديم الى رحلة القمر التجريبية الأولى, نرجو ملئ هذه الإستمارة"..

فتناول إستمارتين, ناولها واحدة, فشكرته بلكنة عربية لاحظها على الفور.. وجلست علي مقعد, وإتخذ لنفسه المقعد الملاصق.. وقال بالعربية:
"صباح الخير" , فإنتزعها من عالمها الساهم, وإلتقطت لكنته المصرية فإبتسمت وأجابت:
"صباح النور.. مصرى؟"
"أيوه .. وإنتِ"
"فلسطينية" .. وذابا فى حديث مرح يتضاحكا فيه عن مجيئهما معًا الى هنا ليلتحقا برحلة مزعومة للقمر.. هل ضاقت الأرض بهما الى هذا الحد؟ هذا مؤكد, وإلا ما جاءا..
"مصرى و فلسطينية إلتقيا فى نيويورك سعيًا للهروب الى القمر" قالتها وأطلقت ضحكة تكاد تهز بأرجاء الغرفة.. لم تكن قد ضحكت من قلبها هكذا لسنين, تعبت هى من عدها.. وكما يقولون عن عدوى الضحك وجد نفسه أولا يبتسم قليلا , ثم أكثر فأكثر, ثم أطلق هو أيضا العنان لقلبه وضحك, وضحك, وضحك كأيام الشباب, والجامعة, والرحلات, والبنات, والسهرات..

وملآ بضحكاتهما المكان بهجة, وأشعة الشمس صارت أكثر لمعانـًا عبر النافذة..
وفجأة ماتت الضحكة وشهقا فجأة لما سمعا دويًا هائلا, وزلزلة هزت الغرفة هزًا, وتحطم زجاج النافزة محدثـًا صوت إنفجار مروع.. وتطايرت قطع الزجاج فى كل مكان كطلقات بنادق الرش التى صاد بها العصافير فى صباه.. وهبـَّا واقفين, مذعورين, وتلاقت أيديهما بينما حمت زراعه وجهيهما من وابل الزجاج المتطاير, ودوَّت صفارات الإنذار لتزيد ذعرهما ذعرًا.. ولمحا ذيل طائرة يخرج من قلب المبنى المواجه محاط بحريق هائل يلتهم المبنى أمام أعينهما..
"يا نهار أسود"..
"يا دى المصيبة"
.. وشدها من يدها ناحية الباب ليجدا الرجل القذر يندفع من الداخل نازف الوجه وبين شعيرات ذقنه النابتة إستقرت عشرات الشظايا البللورية فى بشرته, فأضفت على وجهه مسحة غير حقيقية وكأنه آت لتوه من عالم آخر.. ماذا حدث؟ هل هى النهاية؟ ماذا سنفعل؟ وصراخ.. و بكاء.. إمتزج بعويل صفارات الإنذار.. فدفعهما أمامه نحو الباب وهما مستسلمان تمامًا اليه بالرغم من أنه لم ينبس بكلمة واحدة.. وفى البهو جرَّهما جرًا نحو سلم الطوارئ المزدحم بالبشر المذعور, يقفزون فوق الدرجات من كل إتجاه..

وساد فى المكان دوى هائل, ورائحة دخان خانقة, وإلتحمت الأيادى أكثر, جاذبة أجسادهم بعضهم نحو بعض, فإندمجوا فى عناق واحد, مملوء بالألم, وبالخوف, وبالضياع.. وبعدها ساد ظلام وسكون أبدى, إكتنفهم جميعـًا..